Page 9 - AlNashra Year 2025 Issue 02
P. 9
والمركـز الرئيـ ّي للتجـارة والجيـوش في شرق الإمبراطوريّـة ،علـ ًا بـأ ّن يوليـوس قيـر جعلهـا
"متروبوليـس مق ّدسـة ومسـتقلّة ،لا يُسـمح بالاعتـداء عـى حدودهـا ،تحكـم وتـرأّس عـى سـائر
المـرق" .واسـتم ّرت هـذه المدينـة تتغلّـب عـى ك ّل التح ّديـات التـي هـ ّددت بقاءهـا ،وسـطع
إشـعاعها كمنـارة في الفـرة الإسـاميّة ،وعندمـا اسـتعادها الـروم ،ثـ ّم إبّـان حكـم الصليبيّـن لهـا.
تأ ّسســت أنطاكيــة في القــرن الرابــع قبــل الميــاد عــى يــد ســلوقس الأ ّول نيكاتــور ،أحــد
جـرالات الإسـكندر الأكـر ،عـى موقـع اسـراتيج ّي عـى ضفـاف نهـر العـاصي .وبفضـل موقعهـا
الـذي يتو ّسـط سـاحل البحـر الأبيـض المتو ّسـط والأراضي الداخليّـة ،سرعـان مـا اشـتهرت المدينـة
كمركـ ٍز تجـار ٍّي مزدهـر وملتقـى للثقافـات والحضـارات .وبحلـول القـرن الأ ّول الميـاد ّي نمـت
أنطاكيـة لتصبـح واحـدة مـن أكـر المـدن في الإمبراطوريّـة الرومانيّـة .وقـد سـاهمت أسـواقُها
النابضــة بالحيــاة ،وهندســتها المعماريّــة المذهلــة ،ونشــاطاتها الفكريّــة الواســعة النطــاق ،في
ترسـيخ مكان ِتهـا كمنـارة للثقافتَـن اليونانيّـة والرومانيّـة.
ولكـن لم يكـن اليونانيّـون والرومـان وحدهـم َمـن اتّخـذوا ِمـن أنطاكيـة موط ًنا لهـم .فبحلول
القـرن الأ ّول الميـاد ّي ،سـكن المدينـ َة ،أي ًضـا ،مزيـج مـن الأعـراق والتقاليـد الثقاف ّيـة المختلفـة
(ومنهــا الثقافــة العربيّــة) .وقــد تحــ ّدرت غالبيّــة المواطنــن الناطقــن باليونان ّيــة في أنطاكيــة
مـن أصـل يونـان ّي ،مـن نسـل الجنـود والمسـتوطنين والإداريّـن الذيـن تبعـوا السـلوق ّيين قبـل
أربعمائـة عـام .وقـد شـ ّكل هـؤلاء النخبـ َة السياسـيّة والثقاف ّيـة ،وكان لهـم الـدور الريـاد ّي في
حكـم المدينـة والحيـاة العا ّمـة والأوسـاط الفكريّـة.
وإلى جانـب اليونانيّـن ،كانـت هنـاك أعـداد كبـرة مـن العرق ّيـات السـوريّة القديمـة المتن ّوعـة
والفينيق ّيـن واليهـود .هـؤلاء جلبـوا معهـم تقاليدهـم ولغاتهـم وعاداتهـم الخا ّصـة ،مـا شـ ّكل
فسيفسـاء ثقاف ّيـة غن ّيـة في أنطاكيـة .وقـد ُوجـدت الجاليـة اليهوديّـة في أنطاكيـة منـذ أمـد
طويـل ،وكانـت تتمتّـع بتأثـر قـو ّي .وبحلـول القـرن الأ ّول ،كان اليهـود الهلّنسـتيّون يُشـكلون
جــز ًءا مهــ ًّا مــن ســكان المدينــة ،ويعيشــون في أحيــاء خا ّصــة بهــم وينخرطــون في التجــارة
والعلـم ويقيمـون شـعائرهم الدينيّـة.
مـن المهـم أن نلاحـظ أ ّن أنطاكيـة لم تكـن مدينـة التنـ ّوع السـياس ّي والعرق ّي والثقاف ّي فحسـب،
بـل كانـت ،أي ًضـا ،مدينـة التع ّدديّـة الدين ّيـة .فقـد تعايشـت معابـد الآلهـة اليونان ّيـة والآلهـة
الرومان ّيـة والآلهـة المحلّيّـة جنبًـا إلى جنـب مـع المجامـع اليهوديّـة ،مـ ّا خلـق مشـه ًدا جع َل من
الحـوار الدينـ ّي والـراع الدينـ ّي فيـه أمـ ًرا لا مفـ ّر منـه .وبالرغـم مـن جميـع هـذه التح ّديـات،
سـتظهر المسـيحيّة هنـا كقـ ّوة متم ّيـزة وتغييريّـة .وفي العـر المسـيح ّي كانـت أنطاكيـة أ ّو َل
العدد 2025 - 2 8

