رسالة الميلاد ٢٠١٦



2016-12-18

p1 برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي


"لما حان أوان حضورك على الأرض أيها المسيح حدث اكتتاب المسكونة الأول. فحينئذٍ أزمعت أن تكتب أسماء البشر المؤمنين بمولدك"

في شتاء كلّ عام يطلُّ علينا طفل المغارة ليمسح ببساطته ضيقاً عن قلوب الناس ويمسّ بتواضعه نفوس البشر ويضيء على دنياهم بشيء من سلامه الإلهي. لقد استعار الربّ المغارة ليدخل إلى مغاور نفوسنا ويجلوها بحبّه الإلهي. ونحن مدعوون في كل ميلادٍ أن نتذكّر دوماً أنّ سيد المغارة وافى ليكون بيننا وينصب بيته في نفوسنا ويشتل زرعه في القلب والكيان.

وافى ليكتسح نفوسنا بوهج محبّته ودفق حنانه ولنكون نحن كنيستَه، مدموغين باسمه قلباً وذهناً وكياناً وأفعال محبةٍ ورحمةٍ تجاه الكل والتصاقاً به عبر الإيمان الذي ورثناه وأخذناه من أجدادنا، لا من أي أحدٍ آخر. وافانا ليضع ختمه في قلبنا التصاقاً ودفاعاً وانغراساً في أرضنا، في مدننا وقرانا وجبالنا، في الأرض الأولى، أرض كنيسة أنطاكية التي أنبضت في العالم اسم "مسيحيين".

في ميلاد المسيح، نحن مدعوون كما كان أجدادنا دوماً أن نُكتتب للمسيح. وهذا ما يقوله كاتب التسابيح وما تُرنّمه الكنيسة في يوم الميلاد المجيد. يوم وُلد المسيح صار، بأمرِ قيصر، اكتتابٌ أو إحصاء مدنيّ للرعايا وهذا حدث. ومن هذا الاكتتاب أو الإحصاء ينطلق كاتب التسبيح ليُطلق في النَّفْس الدعوةَ لتُكتتب وتُدمغ وتُختم وتُسجّل في سِفْرِ الحياة مع المسيح. نحن مدعوون كما يقول في موضعٍ آخر لأن نُكتب ونتذكّر أيضاً أننا "كُتبنا على اسم ألوهته".

نحن كمسيحيين أنطاكيين لا نحسب انتماءنا إلى المسيح مفخرةً باليةً ولا نحسبهُ في آن معاً انتماءً فوقيّاً أو امتيازاً حَرْفيّاً ورد فقط على صفحات الإنجيل. إن انتماءنا إلى المسيح هو أبعد ما يكون عن مجرد الانتماء الطائفي الفئوي الانعزالي في ذات الوقت. نحن مدعوون دوماً أن نتذكّر أننا أخذنا الإنجيل من أفواه الرسل ولم نسمعه من أي أحدٍ. نحن مدعوون أن نعرف دوماً أن أقسى الظروف لم ولن تنتزع من قلوبنا وقلوب أجدادنا اعترافاً بغير الإيمان الذي تسلّمناه وحافظنا عليه. نحن مكتتبون للمسيح ومعمّدون على اسمه منذ ألفَي عام ولسنا بحاجةِ هدايةٍ من أحد، ومنذ ألفي عام وإلى أيامنا قرَعْنا وسنظلّ نقرع أجراس محبّتنا للآخر وانفتاحنا عليه، كائناً من كان هذا الآخر وإلى أي طيفٍ أو دينٍ أو عرقٍ انتمى، ولكننا مدعوون أن نعرف دوماً أننا من صُلب هذه الأرض وأنّنا فيها مغروسون وعن صلب إيماننا لن نحيد.
نحن في أيامٍ أحوج ما نكون فيها إلى تأمل حدث الميلاد بحدّ ذاته. وافى هذا الطفل الصغير ليتشارك ضيق خليقته. وافى فقيراً واكتسح العالم ببشارة محبته. تشرّد وهُجّر ككثيرين منا ومن أحبّتنا. وفي يوم مجيئه توسّمت الملائكة خيراً وسلاماً ورنّمت "المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة". كثيرٌ من يقرأ هذا الكلام ليتوهّم أن سلام الخليقة هو مجرّد تمتّعٍ بالأمن والرخاء وسهولة العيش.

وكثيرٌ منا يسأل في وقت التجربة أين سلامك يا يسوع مما يجري في عالمنا! والجواب يأتيه من الإنجيل نفسه. سلام الخليقة سلام الروحِ المدعوِّ أن ينمو ويتبرعم في النفوس البشرية المقتبلة كلام الله. إن لم يكن هذا سلامَ المسيح، كيف يمكننا أن نفهم ونعي أن ميلاد المسيح أنبت في النفس والأرض سلاماً بينما بكت راحيل آلافَ أطفالٍ من بيت لحم، قُتلوا زمن المسيح، فكانوا برعم الشهادة المسيحية في كل العالم! سلام المسيح هو بالدرجة الأولى بلسم تعزية ليداوي ضيقاتنا وليس بالضرورة مسحوقاً سحريّاً يرفع عن الأعناق نير الشّدة.
صلاتنا في هذا اليوم المبارك من أجل سلام سوريا واستقرار لبنان وخير هذا الشرق. صلاتنا من أجل فلسطين والعراق وكل بقعة ترزح تحت الضيق والألم. منذ أكثر من خمس سنوات وكنيسة أنطاكية المسيحية تُصلب بما تتعرض لها أوطانها ويتعرض لها إنسانها من همجيةٍ وإرهابٍ وعنف وحصارٍ اقتصاديٍّ خانق.

ومنذ ثلاثة سنين ونصف والعالم يتفرّج على حربة جلجلتنا في هذا الشرق، على مطارنةٍ تُخطف وكهنةٍ تُقتل وشعبٍ يُهجّر. لكن هذه الحربة سيكسرها فجر القيامة وحجر القبر الفارغ وذلك مهما طال ضيق الجلجلة. تشدّق كثيرون بحقوق الإنسان وغيرها. غير أن هذه الحقوق الإنسانية تطبّق على ناسٍ وتُحجب عن آخرين طبقاً لمصالح ومعايير. ومطرانا حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي وغيرهما من أبناء هذا الشرق الجريح شاهدون أولاً على كيفية استخدام المصالح وكيفية جعل الإنسان سلعةً تباعُ وتُشترى الإنسان في سوق النخاسة الدولية البائسة. وقضيتهم كانت وتبقى وصمة عار في جبين من استخدمَ حقوقَ الإنسان وركب موجتها لتدمير بلدانٍ ومجتمعاتٍ.

في هذا الميلاد المجيد، تتّجه قلوبنا إلى مزود المحبة. تتجه قلوبنا إلى طفل بيت لحم وتسأله أن يرنو بناظريه من أعلى السموات إلى الأرض التي وُلد فيها. صلاتنا إلى من كُتبنا باسمه ودمغْنا كياننا بختم مسحَتِه أن يُنبض رجاءه في قلوبنا. صلاتنا إلى طفل المزود أن يحمي بلادنا ويملأ قلوب الجميع بفيض أنواره الإلهية.

صلاتنا إليه أن يضع يده في قلبكم يا إخوتنا وأبناءنا في الوطن وبلاد الانتشار وأن يبلسم جراحكم ويطيّب حياتكم بكل عطيةٍ صالحة وموهبةٍ كاملة وأن يهب عالمه السلام ويسبغ على الجميع رأفاته ومراحمه فنرتل له مع الملائكة: "المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".



صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق
بتاريخ الثامن عشر من كانون الأول للعام 2016.