أنا مسيحيٌ من بلادِ الشام، وبلادُ الشامِ هذهِ هيَ…



2013-09-03

من كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر في عمّان - الأردن

 

صاحب السمو الملكي الأمير غازي بن محمد،

أصحابَ الغبطةِ والقداسةِ والفضيلةِ والسّماحةِ،

أصحابَ السُّموِّ والدولةِ والمعاليْ والسعادةِ، أيُّها الحضورُ الكريمُ،

غبّ تقديمِ الشكرِ الجزيلِ لصاحبِ الجلالةِ الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، صاحبِ الوصاية وخادمِ الأماكن المقدسة في القدس الشريف ولكبيرِ مستشاريه، صاحبِ السمو الملكي الأمير غازي بن محمد، على الدّعوةِ الكريمةِ الموجَّهةِ لنا، يطيبُ لي أنْ أتوجّهَ إليكمْ لننقلَ إليكمْ، منْ هنا من عمَّانَ، وإلى العالمِ أجمعَ بعضاً من أفكارٍ وفيضاً من ثوابتَ وآمال علّها ترسمُ في ذاكرتكُمْ النيرةِ صورةً لما كنّا وما نحنُ وما سنبقى عليه نحنُ مسيحييّ هذا المشرق، الجزءَ الذي لا ينفصمُ منَ النسيجِ المشرقيَّ المسيحيِّ الإسلاميِّ.

آتيكم اليومَ منْ رحابِ كنيسةِ أنطاكية الأرثوذكسية التي اتّشحَ ذكرُ بطريرْكِها بلقبِ "بطريرك العرب" وذلكَ منذُ الحربِ العالميةِ الأولى زَمنَ البطريركِ غريغوريوس حداد. وقد تفعّلَ هذا اللقبُ معَ منْ خلَفَه من بطاركةٍ ورَسَا على أَوْجِ مجدِه أيامَ البطريرك الياس الرابع في سبعينيات القرنِ الماضي وإيّامَ سلفِنا الراحل إغناطيوس الرابع. وكلُّ هذا لأقول، أنّ كنيسة أنطاكية هي بوّابَةُ المسيحيّةِ، بحقٍّ وامتيازٍ، على العالَمِ العربيِّ والمِجَسُّ الأولُ لهمومِ إنسانِه وقَضاياهُ.

أوافيكمْ إلى الأردنِّ من دمشقَ التي تضمُّ بين ثناياها ضريحَ صلاحِ الدين وقبرَ النبيِّ يوحنّا (يحيى)، أوافيكُمْ من مريميّة دمشقَ، جارةِ الجامعِ الأموي، آتيكمْ من حمصَ الجريحةِ مدينةِ إليانَ الحمصيِّ وحاضنةِ خالدَ بنِ الوليدِ، آتيكمْ من نصاعةِ ثلجِ لبنانَ ومن شموخُ جبالهِ، من بيروتَ، مدينةِ الشرائعِ ومنْ صورَ عروسِ جنوبِ لبنان. آتيكم إلى الأردنُّ الهاشميِّ الطيبِ، جارِ فلسطينَ بمقدّساتِها الإسلاميةِ والمسيحيّةِ، آتيكمْ لأُقبّلَ ضفّةَ نهرِ الأردن حيثَ اعتمَدَ السيدُ المسيحُ.

أنا مسيحيٌ من بلادِ الشام، وبلادُ الشامِ هذهِ هيَ أولُ من أطلقَتْ اسمَ "المسيحيين" على أتباعِ يسوعَ المسيحْ. أنَا منْ رَحِمِ هذِه الأَرْضِ أجِيْءُ وأَمامَ مزودِ ابنِ بيتَ لحْمَ أقفُ. ومنْ بيتَ لحمَ أحتميْ وإياهُ من هيرودوس وأقصدُ أرضَ مصرَ الطيّبةِ. ومنْ هناكَ أعودُ إلى فلسطين وأتْبعُ المسيحَ إلى ضفةِ الأردنِّ، ومن الأردنِّ أصحبُه إلى طبريّا ومنْها إلى صيدا في جنوبِ لُبنان. ومن ثمّ أتْبَعُه في دربِ صليبِه وأَسجُدُ لرَمْسِهِ المحيي في القدسِ الشريفِ. ومنَ القدسِ أعودُ أدراجي إلى دمشق لأنظرَ بولس مهتدياً على أسوارِها وأعايِنَه معتمداً على يدِ حنانيا. ومنْ دمشقَ أقصدُ أنطاكية، لأتسربلَ ومن هناكَ لقبَ "المسيحي"، وأنْقُلَ البشرى بإنجيل السيد المسيح، من ميناءِ أنطاكيةَ وبرفقةِ بولس، إلى المعمورةَ بأسرِها. كلُّ هذا يؤهِّلنيْ لأقولَ إنّي منْ هذه الأرضِ جئتُ وفيها وُلِدتُ وفيها أعيشُ وإلى قَلبي أضمُّ ثراها الطَّيِّبَ حينَ أغادرُ إلى الحياةِ الباقيةِ. وكُلّ هذا لأقول أيضًا، بإنّنا نحنُ مسيحييّ هذا المشرقِ متجذِّرون في أرضنا تجذّر الزيتونِ في جبلِ الزيتون وراسخون فيها رسوخَ الأرْزِ في لبنان.

ورسوخُنا في أرضِنا يعني، بادئ ذيْ بدء، طيْبَ العَلاقَةِ معْ منْ أسْلَمنا وإياهُم أمرَنا لله، جلَّ جلالُه، معَ إخوتِنا المسلمين الذين نتقاسمُ وإياهُم لا تعايشاً فحسبْ بلْ عيشاً حقاً، لا تآخياً بل أُخوَّةً، لا تحالُفاً بلْ وحدةً تعجزُ عن فصْمِها أحابيلُ الطامعين وتَشهدُ على ذلكَ حوادِثُ التاريخ.

أنا، مسيحيُّ هذا المشرق، أشهدُ على طيبِ علاقةٍ وأُخوَّةٍ مع إخوتي المسلمين، أنا أشهد عليها في العهدةِ النّبويّة، التي مَهَرها الرسولُ الكريمُ بخاتَمِه، وطلبَ فيها من الفاتحينَ حُسن مُعاملَةِ النّصارى، أنا أراها في حِكْمةِ عمرَ بنِ الخطاب، الذي لم يلبِّ طَلَبَ البطريرك صفرونيوس بالصلاةِ في كنيسةِ القيامةِ، احتراماً وتقديراً وحكمةً وتبصّراً. أُبْصرها وأَتلمّسها عند كبارِ وزراءِ الأمويين، عند منصور بن سرجون وجدّه. أراها في أُخوَّةٍ تجلّت عبرَ دروبِ التاريخِ على الرغمِ من وُعورَتِها بعضَ الأحيانِ. أراها في تاريخِنا الحديثِ، يومَ خبّأ عبدُ القادرِ الجزائري بعضاً من مسيحيي دمشقَ درءاً لِويلاتِ فتْنةِ 1860. أراها في يدِ غريغوريوس حدّاد، بطريركِ أنطاكية وسائرِ المشرق، تلكَ اليدِ التي كانت أولَ من صافحَ وآخِرَ من ودّع الأميرَ فيصل في محطةِ الحجازِ في دمشق سنة 1920، يومَها قالَ له: "إن اليدَ التي امتدّتْ لك ستبقى ممدودةً لك على الدوام"، وهي ممدودةٌ لكل أخٍ مُسلمٍ لتبنيَ وإياهُ غداً مُشرقاً. أنا ابنُ أنطاكيةَ البارةِ التي فتحَتْ كنائِسَها للمسْلمينَ سنة 1937 يومَ أُغلقَتْ مساجدُ لواءِ الاسكندرون في وَجهِ مُسلميه.

نحنُ نرفضُ أن يتسربلَ كائنٌ مَنْ كانَ وِشاحَ الدِّيْنِ ليبُثَّ الفِرقةَ بينَ الناسِ وليشوّهَ صورةَ الإسلامِ السَّمِحِ أو المسيحيّةِ المُحبّةِ، كما عرفْناهُما ونَعرِفُهما. كما نرفضُ أنْ يتغنّى كائنٌ منْ كانَ بشعاراتٍ جوفاءَ للانقضاضِ على سيادةِ الدّولِ. نحنُ في هذا المشرقِ الحبيبِ لسْنا بغريبين عنْ شِرعَةِ حقوقِ الإنسانْ. لقدْ كانَ لشارلْ مالك اللبنانيِّ الهويّةِ والمشرقيِّ المولِد والأرثوذكسيِّ المعتقدِ اليَدُ الطولى والأولى في صياغَتِها على شكْلها الحاليّ.

نحنُ لا نرى في الدِّينِ مدعاةً للفرقة والانقسامِ لا بل سبيلاً للالتحام والانصهارِ في بوتقةِ أوطاننا أياً كانت. ألم يقلْ القرآنُ الكريمُ: "يا أيُّها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلْناكم شعوبَاً وقبائلَ لِتعارفوا. إن أكرمَكمْ عند اللهِ أتقاكم" (سورة الحجرات، 13)؟

 نحنُ لا نرضى بأنْ يغيبَ وجهُ السيدِ المسيحِ عنْ بلادِ الشام وعنِ المَشرقِ العربيّ، أرضِ الأنبياء المباركة. مسيحيّو هذا المشرقِ ومسلمُوهُ رئتانِ لجسدٍ مشرقيٍّ رائعٍ، لا يُكتَبُ لَه عيشٌ لائقٌ إلا بِتَناغيْ رئتيه. ومنْ هُنا فإنَّ هجرةَ المسيحيينَ من هذا الشّرقِ هيْ هجرةُ المشرقِ نفسهِ عن نفسِه، وتغرُّبُه عن شيءٍ جوهريٍّ منْ كينونَتِه. نحنُ وإخوتُنا المسلمونَ بنيْنا حضارةَ بلادِنا مِدْماكاً أساسيّاً فيْ حضارةِ العالمِ أجمعَ.

وَمنْ هُنا منَ الأردنِّ الغاليْ، من جارِ سوريا الحبيبة أوجّهُ نداءً إلى الداخلِ والخارجِ السوريّين، إلى العالمِ بأسرِهِ، وإلى كلِّ الأُسْرةِ الدوليّةِ، وأقولُ: أرضُ سوريا بثّتْ إلى العالَمِ قوّةَ الحضارةِ، لا حضارةَ القوةِ. العالمُ، كلُّ العالمِ، مَدينٌ لها ولبلادِ الشّامِ بأَسْرها بجهودٍ لترسيخِ السّلامِ في ربوعِها. وبلادُ الشّامِ، ومنها سوريا، صدَّرَتْ للعالمِ أبجديّةَ الحرْفِ لا ثقافةَ الصِّدامِ. لا تورِّدوا إلى سوريا حَضارةَ القوة بلْ حافظوا فيها على مَنطقَ السّلام. "دَعُوا بلدي يعيش" قالها أحدُ أبناءِ كنيستِي عنْ لبنانَ العزيز قبل ثلاثين عاماً ونيّف، وها أنا، ومِنْ عمّان، من عروسِ الأردنِّ، أقولُها من جَديد، وللعالَم كلّه، دعوا بلادَنا تعيش، دعوا كافّةَ أوطانَنا في هذه المنطقة تعيش. ولا تجعلُوها لعبةً في أيديْ الكبارِ ومسرحاً لمصالِحهم، بلْ منارةً ومشكاةَ نورٍ للبسيطة بأسرها. نحنُ ننبذُ منطقَ العنفِ ومنطقَ القتلِ والخطْفِ، وندعوْ العالمَ أجمعَ لبذلِ الجهدِ مضاعفاً لإطلاقِ المطرانين المخطوفين بولسَ يازجي ويوحنا ابراهيم وسائرِ المخطوفين. كما ندعوهُ لبذلِ الجهدِ مُضاعفاً لدَفعِ سائرِ الأطرافِ إلى تبنّي منطقِ الحوار والحلِّ السياسي ونبذِ العنفِ ورفضِ اتخاذِ الدينِ مطيةً للتفرقةِ والانقسامِ. كما نطالب الهيئاتِ الدوليّة باتخاذِ الخطوات الآيلة إلى حماية سكّان هذه البقاع، والدّعوةِ كيّ تترفّعَ كلّ الدول المعنيّة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، عن مصالِحها الضيّقةِ وأن تساعد في تهيئةِ الأرضيةِ المناسبةِ في سوريا لترسيخ أسسِ الحل السياسي السلمي وذلك بإحلالِ منطقِ الحوارِ بدلاً من منطقِ الرصاص والنار. كما نهيبُ بالمراجعِ الأمميّة كي تعتمدَ مقارباتٍ جديدةً لإعادة الأمان إلى إنسان هذه المنطقة الذي يدفعُ الثمنَ الغاليَ من جرّاء هذه الأجواء كما هي الحالُ في لبنانَ أو العراق أو فلسطين أو مصر.

وأما للبنان وللبنانيين فنقولُ، في لبنانَ تلتقي شواهِقُ الجبالِ مع رحابةِ البحرِ ويلتقي الثلجُ الناصعُ بالوديان الهابطة. أنا أرى في هذا رسالةً ربّانيةً وهي أن يتعلّم اللبنانيون جميعاً، من تناغِي جُغرافية لبنانَ الرائعِ أن لبنانَ موطنُ اللُقيا جغرافياً وإنسانياً، وأن الاختلاف مع الآخر يؤول إلى التّلاقي والتكاملِ والعيشِ المشتركِ، وأن مجدَ لُبنان ونصاعة ثلجِه تزدادُ رونقاً بالتآخي والمواطنةِ وقبولِ الآخرِ وصونِ السّلْمِ الأهليِّ.

ربِّ باركْ سماءَ الأردنِ النّيّرةَ وأرضَهُ المعطاءةَ وأجزلْ على شعبِه وحكّامِه من عطاياكَ. ربِّ صُنْ واحمِ ياسمينَ دمشق وزِد عن ترابِ سوريا واحفظْه سالماً موحّدَاً. ربّ باركْ أرْزَ لبنان، واحمِ أبناءَهُ وأغدِقْ عليهِ من ينبوعِ سلامِك. ربّ بارِك أرضَ فلسطين الطاهرةَ، وانْفُخْ فيْ نفوسِ أبنائِها من نسمَتِك الإلهيةِ المحييةِ واحمِ ثَراها الطيّبَ. ربّ افتقدْ أرضَ النّيلِ الغالية، مصرَ، كما افتقدْتَها طِفلاً وبارِكْ بَنيْها وبلْسِمْها برحيقِ سلامِك الإلهي، وافتقدْ مِنْ عليائِك العراقِ الحبيب وسربلْ ربُوعَه بغزيْرِ نِعَمِكَ الإلهيةِ. ربِّ اغمرْ عالمَك أجمعَ بفيضِ سلامِك الإلهي وأنرْ نفوسَنا كلَّنا لما فيه خيرُ خليقَتِك وسلامُها.

ربِّ وحّدْ قلوبَ أبنائِكَ في بلادِ الشّامِ واجمعها إلى مَصبٍ واحد ووئامٍ دائمٍ، تماماً كما جمعْتَ إلى مصبٍ واحدٍ مياهَ نهرِ الأردنِّ الخالدةَ منْ جولانِ سوريا وقممِ لبنانَ الجنوبيِّ وجليلِ فلسطين وضفّةِ الأردنِّ.

أعطِنا ياربُّ أنْ ننهلَ من سلامِكَ الإلهيِّ، ليتجلّى ذاك الأخيرُ فينا مَعينَ سلامٍ حقٍّ للمسكونةِ بأسرِها، لكَ المجدُ والرِّفعةُ أبدَ الدهرِ، آمين.