كلمة البطريرك يوحنا العاشر في اليوبيل الفضي…



2019-11-09

كلمة البطريرك يوحنا العاشر في اليوبيل الفضي لدائرة العلاقات المسكونية والتنمية،
قصر المؤتمرات بدمشق، 9 تشرين الثاني 2019

أيها الأحبة،
بالسامري الشفوق سكب الرب رحمته بلسماً لجراح الإنسان الآخر وسلاف محبةٍ دهن به ضيقاته وزيت شفقةٍ من قلبه إلى القلب الكسير. ومن السامري الصالح وعبره شفيعاً كلمة البطريرك يوحنا العاشر في اليوبيل الفضي لدائرة العلاقات المسكونية والتنمية ورمزاً، اختارت كنيسة أنطاكية وسائر المشرق أن تطل على العالم بذراعها الخيرية المتمثلة بدائرة العلاقات المسكونية والتنمية. اختارت كنيسة أنطاكية وشاءت أن تجسد محبة الله مترجمة بمحبة القريب من أي لون ومن أي طينة. اختارت كنيسة أنطاكية أن تنظر إلى ألم الإنسان وتسكب عليه زيت مراحم الله من لدنه هو عطايا وتقدماتٍ ومساعداتٍ وشاءت أن تنضح جراحه بالشفقة والحنو لأنها ترى فيه وجه الخالق القدوس ومبرة مرضاته تعالى.
قبل ربع قرن، اندلعت الأزمة العراقية وتقاطر الإخوة العراقيون إلى سوريا، فكانت ولادة هذه الدائرة من رحم الكنيسة الأنطاكية ببركة المثلث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم وبهمة كثيرين منهم الابن الروحي المهندس سامر لحام.
واليوم، وبعد ربع قرن لا زالت كنيسة أنطاكية وعبر الدائرة الإغاثية تتلمس وجه ربها في وجه الإنسان. 
يقول النص الإنجيلي "إن سامرياً ... جاء إليه (إلى الجريح) فلما رآه تحنن" . وهذا يا إخوة جل رسالتنا. الكنيسة أولاً وأخيراً تسعى هي وتأتي صوب الإنسان الجريح. هي المبادر قبل أن يكون هو الطارق. هي تأتي أولاً ومن بعد المجيء، تعاين وترى وتتلمس الواقع والحاجة والمرتجى. ومن ثم إذ ترى وتعاين، تحن وتعطف وعطفها وحنانها ليس منةً منها لا بل دفقٌ لحنان الله الذي سكبهُ في النفوس بارئها وربّها.
ومنذ عام 2011 ومع اندلاع الأزمة السورية راحت كنيستنا تسعى لتنال مرضاة الله في وجه الإنسان المتألم إلى أي لون انتمى. نمد يد العون ما أمكننا إلى أبنائنا المسيحيين وإلى الإنسان المشرقي من كل الأطياف. وهذا ما أراده الرب في الإنجيل. فالسامري في مَثَلِ يسوع لم يمد يد العون إلى بني طينته فحسب بل إلى الآخر. وهذا الآخر هو أخونا. نغتني به ويغتني بنا. قد نقصر في جانب ونتقدم في جانب آخر. قد نخطئ أحياناً وقد نصيب أحياناً لأن الكمال لله وحده. لكن جل ما نبغي هو كيف نمسح دمعة عن وجه متألم. 
ومنذ أواسط التسعينات إلى يومنا تطور عدد العاملين في الدائرة فبلغ 1700 شخص في سنة 2019 وامتدت الدائرة من دمشق لتتمركز في كل المحافظات السورية. وفي خضم الأزمة الحاضرة ورغم تقطيع الأوصال في بعض الأمكنة، استطاعت الدائرة عبر فريقها أن تكون في كل مكان وفي كل بقعةٍ من الأرض السورية وتحت أخطر الظروف وأعقدها فارتقى من صفوفها شهيدان: الشهيد بسام كنهوش والشهيد يسار معمَّر. وضم كادرها المسيحيَّ إلى جانب المسلم وطالت خدماتها جورج إلى جانب أحمد. وكسبت بذلك ثقة المنظمات العالمية العاملة في مجال الإغاثة ولسان حالها ما يقوله القديس بولس الرسول: "إن الله يحب المعطي المتهلل" .
أيها الأحبة،
نحن كمسيحيين في هذا الشرق جذوةٌ من ناره التي تنير وتكوي في آن. نحن من صلب هذا الشرق ومن كينونته. عليه مشت أقدام مسيحنا وفي ترابه انغرست أقدام رسله. ومنه خرج إنجيله إلى كل الدنيا. لسنا فيه زواراً بل أهل بيت. كل جلاجل ضيقنا تمحي أمام صليب الناصري وجلجلته. تربطنا بالأخ المسلم شريكنا في الوطن أطيب العلاقة. وهذه العلاقة عمرها أكثر من ألف عام. ورغم كل الصواعد والنوازل، تبقى المسيحية والمسيحيون عموماً مع المسلمين وسائر أطياف المجتمع أبناءَ الوطن الواحد والدار الواحدة وإخوةَ التاريخ والجغرافية في هذا الشرق الذي شاء الله أن يكون رحم السماء في دنيانا. تأتي حروب وتمضي صراعاتٌ وقلاقل ويمر يسرٌ وعسرٌ على هذه الأرض بكل بلدانها ويبقى لسان حالنا رغم كل شيء ورغم كل هجرة وتهجير وعنف وخطفٍ؛ يبقى لسان حالنا رغم كل شيء: هنا ولدنا وهنا نعيش وهنا سنموت إلى جوار تراب أجدادنا.
صلاتنا اليوم أيضاً من أجل سلام سوريا واستقرار لبنان. صلاتنا من أجل هذا الشرق بكل بلدانه ومن أجل سلام العالم أجمع. صلاتنا من أجل كل مخطوف ومشردٍ ومهجّرٍ وملتاعٍ. صلاتنا من أجل أخوينا مطراني حلب المخطوفين يوحنا إبراهيم وبولس يازجي القابعين في ظلمات الخطف والتغييب وترهات التناسي الدولي لقضيتهما التي تختزل شيئاً يسيراً من معاناة الإنسان المشرقي. الكل مدعوٌ، في الداخل والخارج، لتبنِّي منطقِ الحوار والحلِّ السياسيِّ سبيلاً لصون وحدة هذا البلد. هذي هي سورية! فها هم أبناؤنا من كل بقاعها الطيِّبة. انظروا ها هم أبناؤنا من كل ناحيةٍ وصوب، بدءاً من خابورها وجزيرة فراتها إلى اللاذقية عروس ساحلها إلى قلمون دمشقها وقاسيونها فجولانها الخالد الأبي. هذا البلد واحدٌ موحدٌ بقلوب أبنائه وبجغرافيته.
يا أحبة، 
سلوا الشام القديمة فتحدثكم جدرانها وأزقتها عن سلفنا بطريرك الرحمة غريغوريوس الرابع حداد. سلوها فتخبركم عن رغيفه الذي لم يميز مسلماً ومسيحياً أيام الحرب العالمية الأولى. سلوها فتخبركم عن صليبه الذي أطعم به الفقراء. إذ أذكر هذا، يطيب لي أن أورد شيئاً من حياة هذا الرجل العظيم.
مرةً توسط غريغوريوس حداد وكان مطراناً على طرابلس، من أجل قاضي طرابلس المسلم الذي وُشي به لدى الحكام. وكان المطران غريغوريوس الوحيدَ، من بين كل الناس المتيقنين من براءته، الذي زاره في سجنه وقدم له المساعدة والمال. ولم يكتف بذلك لا بل دافع عنه في طرابلس وفي الآستانة حتى ظهرت براءته. من ثم دارت الأيام وارتقى غريغوريوس السدة البطريركية. وتوفي القاضي ومرت السنون. فما كان من ابن ذاك القاضي إلّا أن جاء إلى دمشق برفقة وجهاء مدينته ووافى البطريركَ قائلاً: 
"أنا آتٍ من الآستانة لتنفيذ وصيّة والدي المتوفي فقد قال لي: سر إلى دمشق وقَبْل زيارتك للجامع الأموي اذهب وقبِّل يد بطريرك الروم".
فلما سأله عن والده عرف أنه هو الذي كان يساعده في اعتقاله. حكايةٌ بسيطة لكنها تختصر واقع وتاريخ عيش واحد كان ويبقى ويجب أن يعاش. ويد غريغوريوس هي يد كنيسة أنطاكية التي ما امتدت يوماً إلّا للقيا الآخر والعيش معه.
ختاماً، أتوجه بالشكر باعتزازٍ إلى أبنائنا في دائرة العلاقات المسكونية والتنمية، وأحيي أولاً جهود قدس الأرشمندريت ألكسي شحادة مديرها وأحيي كل معاونيه وكلَّ من عمل ويعمل فيها. أحييكم أيها الأبناء الأحباء تحية المحبة. بوركت جهودكم. وبوركت كل نفسٍ تقتني بغناها الأرضي غنى السماوات. كما أتوجَّه بالشكر للحكومة السورية ولسائر الوزارات والجهات الرسمية التي تسهِّل عمل الدائرة الإغائي في سائر المحافظات، دون أن أنسى كافة الجهات المانحةِ والمنظمات الدولية في كل مكان. 
كل عامٍ وأنتم بخير. وإلى مزيد من العطاء والتقدم بعون الله وحمايته، آمين.