القِدِّيسِ مكسيموس المعترف
سألوه: من أيّة كنيسة أنت؟ من القسطنطينية؟ من رومية؟ من أنطاكية؟ من الإسكندرية؟ من أورشليم؟ فها هم جميعًا متّحدون فيما بينهم. فأجاب مكسيموس: «إن الكنيسة الجامعة هي الاعتراف بالإيمان الصحيح والخلاصي بإله الكون».
ولادته ونشأته:
ولد القدّيس مكسيموس المعترف سنة ٥٨٠م في عائلة مرموقة في القسطنطينية.
كان على ذكاء خارق وتمتّع بقدرة خارقة على التأمّلات الفلسفيّة الساميّة. درس فلمع وانخرط في السلك السياسي. عندما تولّى الإمّبراطور هيراكليوس العرش، سنة ٦١٠م، أُعجب بالقدّيس مكسيموس وبما كان يتمتّع به من فهمٍ وعلمٍ وفضيلةٍ فاختاره أمين سرّه الأوّل.
تخلّي القدّيس مكسيموس عن وظيفته وترهّبه:
لم يرغب القدّيس مكسيموس بالمجد الأرضي ولم يقع بحب السلطة، بل كان قلبه يشتهي ملكوتًا آخر، فتخلّى عن وظيفته بعد ثلاثة أعوام وترهّب في دير والدة الإله في خريسوبوليس القريبة من القسطنطينية.
عشق القدّيس مكسيموس قرأة الكتاب المقدّس وكتابات الآباء، وسعى بكلّ كد وجهد تسلّق سلّم الفضائل رغبةً باللاهوى. فعاش حياة نسكيّة بامتياز مغذيًّا ذهنه بالصلاة القلبية.
أتقن «فن الفنون» أي استنارة «النوس» فشرح بإسهاب سرّ الخلاص وإتّحاد الله فينا لشفاء طبيعتنا المنقسمة على نفسها بسبب عشقها لذاتها. فقال:«دافعُ السيّد هو حبّه للّناس بلا حدود، وقصده استعادة المحبّة الأخويّة بينهم،
وأن يفتح لهم سبيل الاتّحاد بالله لأن الله محبّة».
صعابات:
أمضى القدّيس مكسيموس حياته في الهدوئية وانتقل برفقة تلميذ له يدعى أنستاسيوس إلى دير صغير للقدّيس جاورجيوس في كيزيكوس.
هناك باشر بكتابة أولى مؤلّفاته، وكانت عبارة عن مقالات نسكيّة تناولت الصراع ضد الأهواء، والصلاة، واللاهوى والمحبّة المقدّسة. لكن أحداثًا عسكريّة أجبرت الرهبان على مغادرة أديرتهم في القسطنطينية والجوار بعدما تعرّضت المنطقة لهجمات الآفار والفرس.
مذ ذاك سلك القدّيس مكسيموس في التشرّد. أقام في جزيرة كريت لبعض الوقت حيث شرع يقاوم لاهوتيّين، من أصحاب الطبيعة الواحدة، دفاعًا عن الإيمان الأرثوذكسي القويم.
ثم انتقل إلى قبرص ووصل أخيرًا إلى قرطاجة، عام ٦٣٢م، فالتقى القدّيس صفرونيوس الأورشليمي وانضمّ إليه. القديس صفرونيوس كان أحد كبار العارفين بالتراث الرهباني واللاهوتي، ومشهودًا له بأرثوذكسيته.
كان، يومذاك، مقيمًا هو وعدد من رهبان فلسطين في دير أوكراتا حيث التجأوا إثر استيلاء الفرس على أورشليم.
في تلك الفترة الممّتدة بين العامين 626 و 634م، تسنّى للقدّيس مكسيموس أن يعرض بعمق، لم يسبقه إليه أحد، لعقيدة التألّه مقدّمًا الأسس الفلسفيّة واللاهوتيّة للروحانيّة الأرثوذكسيّة.
كتابات:
ففي مقالات عميقة صعبة طالت مقاطع غامضة في الكتاب المقدّس، وتعاطت الصعوبات الواردة في كتابات ديونيسيوس المنحولة والقدّيس غريغوريوس اللاهوتي، وكذلك سرّ الشكر، تمكّن القدّيس مكسيموس من وضع حصيلة (Synthèse) لاهوتيّة فخمة بشأن تألّه الخليقة.
ركّز القدّيس مكسيموس أن الله جعل الإنسان في العالم كاهنًا يُقيم سرّ الشكر الكوني، وهو مدعو إلى جمع الكائنات المخلوقة كلّها لتقّريبها إلى الكلمة الإلهي. كلّ خليقة، في لغّته، تُعرف بتسمية «كلمة»، ومجموع الخلائق «كلمات». وفي فهمه إن الإنسان يرفع «الكلمات» إلى «كلمة الله»، الذي هو مبدأها، في حوار محبّة حرّ من كل قيد. إذ يحقِّق الإنسان القصد الذي من أجله خُلق، وهو الاتّحاد بالله، يأتي بكل الكون أيضًا إلى الكمال في المسيح الذي هو إله وإنسان معًا.
هيراكلوس والبدعة:
منذ أن ارتقى الإمبّراطور هيراكليوس سدّة العرش سعى إلى إعادة تنظيم الإمّبراطورية البيزنطيّة المتزعزعة، فقام بإصلاحات إدارية وعسكرية وسعى لهجوم معاكس ضد الفرس.
فكان لا بد من إعادة اللحمة بين المسيحيّين تجنبًا لتحوّل أصحاب الطبيعة الواحدة نحو الفرس أو العرب.
فكلّف الإمبراطور هيراكلوس البطريرك القسطنطيني سرجيوس إعداد صيغة لاهوتية وسطية تكفل كسب رضى أصحاب المشيئة الواحدة دون أن تتنكّر للمجمع الخلقيدوني.
وقد اقترح البطريرك سرجيوس، في هذا الإطار، صيغة تقوم على أساس وحدانية الطاقة في المسيح يسوع.
لكن الصيغة التوّفيقية المقترحة، اعتبرت طبيعة الرّب يسوع البشريّة منفعلة لا فاعلة، ومحايدة لا مقدامة، فيما اعتبرت طاقتها الخاصة مستوعّبة من طاقة كلمة الله. وهذا يعني، على أرض الواقع، القول بالطبيعة الواحدة للرّب يسوع لكن بشكل مموّه، إذ قضى باستبدال لفظة «الطبيعة» بلفظة «الطاقة».
في السنة ٦٣٠م عيّن الإمبراطور هيراكليوس كيرُس بطريركًا على الإسكندرية. وكلّفه بتحقيق الوحدة مع أصحاب الطبيعة الواحدة الذي كان عددهم في مصر كبيرًا.
وما إن جرى توقيع اتّفاق الوحدة هناك، حتى خرج رفض القدّيس صفرونيوس الأورشليمي هذه البدعة ودافع عن القول بالطبيعتين في المسيح يسوع بحسب مجمع خلقيدونية.
كما توجّه القدّيس صفرونيوس إلى الإسكندرية ومن ثم إلى القسطنطينية، وتناقش والبطريركين كيرُس وسرجيوس دون جدوى.
على الأثر عاد القدّىيس صفرونيوس إلى أورشليم حيث استقبله الشعب المؤمن كمدافعٍ عن الأرثوذكسيّة وجرى انتخابه بطريركًا جديدًا في الوقت الذي اجتاح المسلمون العرب البلاد.
كما أصدر القدّىيس صفرونيوس رسالة حبريّة حدّد فيها أن كلتا الطبيعتين في المسيح لها طاقتها الخاصة بها، وإن شخص المسيح واحد، فيما طبيعتاه اثنتان وكذلك طاقتاه.
تدخّل الإمّبراطور هيراكلوس:
صدر أمر إمبراطوري بعدم القول بالطبيعتين وكلّ مخالفة لهذا القرار يُعتبر مس بأمن البلاد ويتعرّض صاحبه للعقاب.
رغم ذلك دافع القدّيس مكسيموس من مقرِّه في قرطاجة عن قول القدّيس صفرونيوس معلّمه، بطريقة حاذقة فقال: «يحقّق المسيح بشريًّا ما هو إلهي، من خلال عجائبه، ويحقّق إلهيًّا ما هو بشري، من خلال آلامه المحيّية».
ولكن ما أن أصدر هيراكليوس مرسوم الاكتيسيس سنة ٦٣٨م وأكدّ حظر الكلام على الطاقتين فارضًا على الجميع الاعتراف بإرادة واحدة في المسيح "مونوثيليتية"، حتى خرج القدّيس مكسيموس عن صمته وجاهر بالحقيقة جهرًا.
توجّه الأنظار نحو القدّيس مكسيموس:
توفّى القدّيس صفرونيوس في السنة نفسها واتجهت الأنظار نحو القدّيس مكسيموس الذي أخذ الجميع يعتبرونه كأبرز المتحدّثين رسميًّا بلسان الأرثوذكسيّة.
وكما حدث في زمن القدّيس أثناسيوس الكبير ومن بعده القدّيس باسيليوس الكبير، استقر حِمل الإيمان القويم بالدرجة الأولى على كاهل رجل واحد هو القدّيس مكسيموس.
راسل القدّيس مكسيموس أسقف رومية والإمبراطور هيراكلوس وذوي الشأن في الإمبراطوريّة موضحًا لهم، في مقالات عميقة قيّمة، أن كلمة الله، لمحبّته وتوقيره اللانهائيين لخليقته، اتّخذ الطبيعة البشريّة في كلّيتها دون أن يغيّر شيئًا في حرّيتها. لذلك إذ كان هو حرًّا في التراجع أمام الآلام، أخضع نفسه، بملء إرادته كإنسان، للإرادة والقصد الإلهيّين فاتحًا لنا بذلك سبيل الخلاص بالخضوع والطاعة. وإذ اتّحدت الحرّية الإنسانيّة بحريّة الله المطلقة في شخص الرّب يسوع المسيح، وُجدت مستعادة في حركتها الطبيعية نحو الاتّحاد بالله والناس بالمحبّة.
سمحت خبرة الصلاة والتأمّل للقدّيس مكسيموس أن يشرح عقيدة تألّيه الإنسان على قاعدة لاهوت التجسّد.
رقد البطريرك سرجيوس القسطنطيني، هو أيضًا، سنة ٦٣٨م، فكان خلفه بيروس مروّجًا متحمّسًا للهرطقة الجديدة.
ورغم كلّ الضغوط التي مورست فإن فريقًا لا يستهان به من المسيحيّين قاوم المرسوم الإمبراطوري حتى إن هيراكليوس اعترف، قبل قليل من موته، سنة ٦٤١م، إن سياسته الدينية باءت بالفشل.
أصرّ البطريرك بيروس الإكمال ببدعة سلفه، فهرب من وجه المؤمنين المنادين بالإيمان القويم متوّجهًا إلى إفريقيا حيث كانت له مواجهة علنيّة والقدّيس مكسيموس في قرطاجة في شأن شخص الرّب يسوع في عام ٦٤٥م.
المناظرة:
عرض القدّيس مكسيموس سرّ الخلاص بحجج دامغة، ونجح في تبيان أضاليل البطريرك بيروس الذي اقترح أخيرًا التوجّه شخصيًّا إلى رومية ليلقي الحرم على القول بالمشيئة الواحدة "المونوثيليتية" عند قبر الرسل القدّيسين.
ولكن لم يحفظ البطريرك بيروس كلمته، بل عاد إلى قيئه وفرّ إلى رافينا.
فقام ثيودوروس، أسقف رومية بقطع بيروس من الشركة، وتبعه في ذلك بولس في القسطنطينيّة.
إزاء هذا التطوّر خشي الإمبراطور البيزنطي قسطنديوس الثاني العاقبة، وأن يفضي تطوّر الأحداث إلى انشقاق الغرب عن الإمبراطورية، لاسيّما بعد سقوط مصر في يد العرب، فعمد إلى نشر مرسوم التيّبوس م٦٤٨ الذي حرّم فيه على كلّ مسيحي، تحت طائلة العقاب الصارم، مناقشة موضوع الطبيعتين والمشيئتين.
الملاحقة:
عليه بوشر بملاحقة الفريق الأرثوذكسي واضطهاده، لاسيّما الرهبان وأصدقاء القدّيس مكسيموس.
فما كان من القدّيس مكسيموس أن إلتحق بالقدّيس بمرتينوس الأول، أسقف رومية، الذي عزم على دعم الإيمان القويم ودعا إلى عقد المجمع اللاتراني ٦٤٩م الذي أدان القول بالمشيئة الواحدة ونبذ المرسوم الإمبراطوري.
فلما وصلت أخبار ما حدث للإمبراطور، اغتاظ واعتبر أن في الأمر تمرّدًا، فبادر إلى إرسال جيش إلى رومية لوضع حدّ للتدهور الحاصل ٦٥٣م.
أوقف العسكر القدّيس مرتينوس الأسقف، وكان مريضًا عاجزًا، واستاقوه كمجرم إلى القسطنطينية حيث أُهين أمام الملأ، وحُكم عليه بالنفي، ثم اقتيد إلى شرصونه حيث قضى شهيدًا في حالٍ يرثى لها، في أيلول من السنة ٦٥٥م.
توقيف القدّيس مكسيموس ومحاكمته:
جرى توقيف القدّيس مكسيموس، وكذلك تلميذه الأمين أنستاسيوس، ومندوب أسقف رومية الذي كان يُدعى أنستاسيوس أيّضًا.
أودع الثلاثة السجن أشهرًا طوالاً قبل أن يمثلوا للمحاكمة. وُجِّهت إلى القدّيس مكسيموس تهمًا سياسية بالدرجة الأولى. قالوا إنه ناهض السلطة الرسمية وبارك اجتياح العرب لمصر وإفريقيا. وقيل أيضًا إنّه تسبَّب في بذر الشقاق في الكنيسة بسبب عقيدته. أجاب القدّيس مكسيموس بهدوء، ولكن بثبات عزم، إنّه يؤثر قطع الشركة وسائر البطاركة والموت على أن يخون الإيمان القويم.
وقد حُكم عليه بالنفي، واستيق إلى بيزيا في تراقيا فيما استيق أنستاسيوس وأنستاسيوس الآخر إلى موضعين آخرين.
القدّيس مكسيموس في المنفى:
بقي القدّيس مكسيموس في المنفى طويلاً وكابد الأمرّين. أخيراً قرّر الإمبراطور فتح باب الحوار معه عسى أن يكسبه لأنه أدرك أنّه ما لم ينجح في إقناع القدّيس مكسيموس بالانضمام إلى حزبه فلن ينجح في كسب الرأي العام الأرثوذكسي.
القدّيس مكسيموس في العذابات واستشهاده:
أوفد الإمبراطور وفدًا من ثلاثة أشخاص، أسقفًا يدعى ثيودوسيوس ونبيلين آخرين. فلما التقوه وجدوه سيّد قواه، ثابتًا على قناعته الأولى.
ولمّا دخلوا معه في بحث لاهوتي في الموضوع المطروح، فنّد حججهم ودحض مزاعمهم، فثارت ثائرتهم عليه وأمطروه شتمًا وضربًا وانصرفوا.
بعد ذلك جرى نقل مكسيموس إلى بربريس حيث بقي محتجزًا وتلميذه أنستاسيوس ست سنوات، بانتظار محاكمتهما من جديد.
وفي السنة ٦٦٢م مثل أمام بطريرك القسطنطينية ومجمعه.
سألوه :من أيّة كنيسة أنت؟ من القسطنطينية؟ من رومية؟ من أنطاكية؟ من الإسكندريّة؟ من أورشليم؟ فها هم جميعًا متّحدون فيما بينهم. فأجاب القدّيس مكسيموس :«إن الكنيسة الجامعة هي الاعتراف بالإيمان الصحيح والخلاصي بإله الكون».
هُدِّد بالموت فأجاب: «ليتحقق فيّ ما رسمه الله من قبل الدهور لأعطي لله المجد الذي له من قبل الدهور!» فلعنوه وأهانوه وسلّموه لحاكم المدينة الذي حكم عليه بالجلد، وقطع لسانه ويده اليمنى اللذين بهما اعترف بإيمان.
وبعدما استاقوه في شوارع المدينة مدمّى كلّه، أودعوه قلعة في أقاصي القوقاز، في لازيكوس.
هناك لفظ أنفاسه الأخيرة في ١٣آب ٦٦٢م عن عمر ناهز الثانية والثمانين. وقد نُقل أن ثلاثة قناديل زيت كانت تشتعل على قبره من ذاتها كلّ ليلة.