إن المشرق الذي هو منارة لكل الدنيا هو جريح. فبدل…
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في تنصيب المطران جوزيف زحلاوي، نيويورك
صاحب السيادة المطران جوزيف
الأخوة رؤساء الكهنة والاكليروس المحبوب
أصحاب السعادة، الأخوة والأخوات الأحبة في المسيح،
أخاطبكم بسلام المسيح. أخاطبكم بكلمة الكلمة الذي عاش بيننا. "سلامي لكم سلامي أعطيكم" (يو١٤: ٢٧). تنصيب الأسقف في الكنيسة هو تنصيب السلام والمحبة في وسطها. والكنيسة الآن تعبر عن جوهرها الكامل في جماعة محكومة بالمحبة. سيدنا جوزيف، باسم إخوتك في الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية أخاطبك شخصياً وأقول:
نقف اليوم أمام عرش الكنيسة. وهذا العرش سيتشرف بمحبتك ويتسربل بحكمتك ويتقد بغيرتك الرسولية الأنطاكية. بارك هذا العرش وكن مباركاً به وذلك بخدمتك المضحية. وَبَارِكْ الكنيسة التي عهد بها إلى عنايتك الأبوية. إن سلفك المطران فيليبس المطوب الذكر والذي تعرفه جيداً ونقدره، قد قدم حياته وكرسها لخير الكنيسة. ونحن على ثقة تامة أنك ستتابع عمل المطران فيليب بالتعاون مع الأساقفة الآخرين في الأبرشية، والذين نرسل لهم تحياتنا القلبية. ننتهز الفرصة أيضاً لنشدد على أهمية تطوير العمل التبشيري والاجتماعي والتربوي والرهباني والثقافي من خلال مراكز مؤسسة جيداً في الأبرشية.
الكنيسة الأنطاكية هي كنيسة الكلمة. هي كنيسة الكلمة المتجسد واللاهوت المعاش. وهي عينها مدت أغصانها هنا في أمريكا وقدمت نفسها لأبنائها ولكل العالم بـ"مجلة الكلمة" سنة ١٩٠٤ وفيما بعد. كل هذه الحقائق تؤكد أن أنطاكية كلمة حق. أنطاكية متسلحة بالكلمة السلامية، بكلمة السلام. وكلمتها السلامية هذه تحمل في طياتها هوية مشرقية. وهويتها المشرقية لا تضاد حقيقة أن أبناءها منتشرون في كل العالم. والكنيسة الأنطاكية لها الحق والواجب في كل زمان ومكان أن ترعى أولادها أينما حلوا وحيثما دعت الضرورة.
منذ أكثر من قرن قال سلفنا البطريرك ملاتيوس الثاني: "كم وكم يسر قلب الإنسان إذا غرس في الأرض نصباً ونما ذلك النصب حتى أزهر وأثمر. أو بالحري، كم يبتهج فؤاد الوالد إذا اهتم بتربية ابنٍ له فنبغ ذلك الابن حتى قدّره هو وجميع أخوانه وأصدقائه. هكذا اليوم يسر قلب الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية". هذه كانت كلمات سلفنا من زمن بعيد، حين كان فخوراً برؤية جهود ذاك الرجل العظيم، روفائيل هواويني. والآن فلتسمحوا لي، إخوتي وأخواتي، أن أقول أن الكلمات عينها تصح اليوم. فهي تعبر عن فخر الكنيسة الأنطاكية الأم إذ ترى الشجرة المغروسة، مطرانية نيويورك وسائر أمريكا الشمالية، مزهرة ومثمرة. وهذه الشجرة أثمرت بالنعمة الإلهية بالرجال البررة الذين أرسلوا إليها من أمثال: روفائيل هواويني، فيكتور أبو عسلي، أنطونيوس بشير، فيليب صليبا وجوزيف زحلاوي الذي نحتفل بتنصيبه.
آتيكم اليوم من الكنيسة المريمية في دمشق، من الشارع المدعو المستقيم (أع٩: ١١). آتيكم حاملاً في قلبي سيمفونية المحبة والثبات وقوة الأمل التي تعزفها أجراس كنائسنا في المشرق. آتيكم لأقول أن الأرض التاريخية لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق ليست مجرد جانب رمزي في حياتها. إنها جزء جوهري من هويتها. وهويتها هذه اعتمدت مع بطرس وبولس وغطست بدم الشهداء القديسين. هويتها هذه بدأت مع الخطوات الأولى لأولئك التلاميذ الذين سميوا مسيحيين في أنطاكية. واستمرت هذه الهوية مع أجدادنا الذين حفظوا الإيمان بلا أدنى شائبة. وهي تستمر اليوم وستستمر رغم كل المآسي الحاصلة في الديار الأم. هذه الهوية تعانق شروق شمس سوريا وشروق شمس تاريخ سوريا. هذه الهوية محفورة في جبل لبنان ومغروسة في شطآنه ووديانه. هذه الهوية تأتي من جوار بيت لحم. تأتي من القدس المسيحية وتنسكب مع مياه الفرات والأردن والنيل ودجلة ومعها تبث الحياة في تراب العراق ومصر وفلسطين والأردن.
نأتي اليوم إلى الولايات المتحدة لنغتني بحضور شعبنا المحبوب. جيل خامس وسادس والكنيسة لا تزال أنطاكية والوطن الأم في قلب كل فرد ووسط الجماعة الافخارستيا. في هذه الجماعة المحبوبة تذوب حدود البلدان الأم في محبة وقادة للآخر وفي صلاة من أجل سلام الوطن الأم. في هذه المطرانية المحروسة يأخذ التبشير المدى الأكمل للدعوة الإرسالية الأنطاكية التاريخية. هذه الأبرشية لا تعرف تمييزاً بين مهتد وأصيل، بل تعرف كأس المحبة التي كل واحد فيها هو جزء من المسيح الممجد. شعبنا واكليروسنا يعرف ويعيش مسيحيته بالحفاظ على أقوى وأعمق العلاقة والأخوة مع الطوائف المسيحية الأخرى الموجودة ههنا.
إن المشرق الذي هو منارة لكل الدنيا هو جريح. فبدل السلام نسمع عن طبول الحرب. بدل سياسة اطفاء النزاعات، نسمع عن دعم فريق محدد من المليشيات. فليصل نداؤنا لكل البشرية. دعوا شعبنا يعيش! دعوا سوريا تعيش! دعوا لبنان يعيش! دعوا العراق يعيش! دعوا الأردن يعيش! دعوا فلسطين الجريحة تشفى وتعيش! دعوا مصر تعيش! قد يقول البعض أن للأزمة في سوريا طابعاً داخلياً، أنها فتنة داخلية. ولكن لا أحد في العالم يعتقد أن الطابع الداخلي المفترض يمكنه أن يشرح ويجلو طابعها الخارجي. دعوني أكون أكثر صراحة؛ أولادنا يقتلون بقنابل أرسلت من الخارج. أبعدوا عن أولادنا غسل الأدمغة بالايديولوجيات المتطرفة. ودعوهم يروا جهوداً لإحلال السلام. هم لا يحتاجون سفناً حربية ولا سفناً تنقلهم إلى الخارج. هم يحتاجون غصن زيتون وإرادة سلام. ناسنا تعبوا من المبادئ الممتطاة كشعارات بالية. ناسنا وأهلنا لا يحتاجون خطوط تماس بل احتراماً لحدود البلدان المتجاورة. أولادنا جاؤوا إلى الدنيا ليعرفوا عن جمالات مشرقنا لا عن الإرهاب والتكفير، والذي هو إدانة دين الآخر والحكم بزيفه وعدم أمانته. وهذا التكفير يسود اليوم مقترناً بالاستخدام الأعمى للدين. يمكن للعالم اليوم أن يرى ما يجري في سوريا وفي كل المشرق. وإن ملف مطراني حلب المخطوفين يوحنا ابراهيم وبولس يازجي مع العديد من المخطوفين يضع أمام أعيننا مشهداً واضحاً لما يحدث في الوطن الأم. وإن الصمت الدولي المطبق تجاه هذا الخطف هو وصمة عار تدين كل أولئك الذين لا يريدون أن يروا حقيقة ما يحصل. فلير العالم المأساة الحقيقية والملموسة كما هي. فلير العالم بعينين مفتوحتين لا بعين المصلحة الخاصة. عندما نفكر بالولايات المتحدة الأمريكية، فإننا نشدد على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها الخاص، والذي تبنته منذ تأسيسها. ومبدأ تقرير المصير لكل شعوب الأرض، نقدره ونحترمه نحن الأنطاكيين. ونحن نصلي ونعمل ونأمل أن يطبق هذا المبدأ، الذي من شأنه احترام كل كائن بشري، في كل مكان. الإخوة الأحبة،
أنتهز الفرصة في هذا الاجتماع الجميل لأشكر سيادة المطران جوزيف الذي جمعنا اليوم هنا. أنتهز الفرصة لأعبر عن محبتي الأبوية لكل مؤمنينا في أمريكا وكندا. أغتنم الفرصة لأحيي كل إخوتنا ممثلي الكنائس الشقيقة. أحمل إليكم أحر التحية وأحر الصلاة من إخوتكم في البلاد الأم. فليبارك الله الرحيم عائلاتكم وليباركنا الله لننمو أكثر فأكثر في المحبة والوحدة دعماً لأوطاننا الأم ولكنيسة أنطاكية المقدسة الرسولية ولكل المشرق. كونوا متأكدين يا أحبة أن كنيستكم الأم الأنطاكية هي عمود قوة لكم وأنتم قوة لها. وليؤهلنا الرب أن نحيا بالإلفة دوماً، له المجد والقوة الآن وإلى الأبد آمين.