غريغوريوس خوري عبدالله أسقفاً على الإمارات
في قدّاس إلهيٍّ مهيب جرت صباح اليوم الرسامة الأسقفية للأرشمندريت غريغوريوس خوري عبدالله في الكاتدرائية المريمية بدمشق.
ترأّس الخدمة البطريرك يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بحضور المطارنة والأساقفة ولفيف المؤمنين. ابتدأت مراسم الرسامة مساء السبت حيث وبعد استدعاء المنتخب إلى القاعة البطريركية، أقيمت صلاة الغروب في الكنيسة المريمية وترأّسها البطريرك وافتتحها المنتخب الذي تلا في نهايتها اعتراف الإيمان.
وصباح الأحد ترأّس غبطته القدّاس الإلهيّ وعاونه المطارنة الياس (صور وصيدا)، سابا (حوران)، جورج (حمص)، إغناطيوس (فرنسا)، غطاس (بغداد والكويت) والأساقفة موسى الخوري، لوقا الخوري، نقولا بعلبكي، أثناسيوس فهد، ديمتري شربك، إيليا طعمه وكوستا كيال وأفرام معلولي ولفيف الآباء الكهنة والشمامسة.
في نهاية القدّاس وبعدما وضع غبطته التاج على رأس الأسقف الجديد وسلّمه عصا الرعاية، كانت لغبطته كلمة عدّد فيها مناقب الأسقف الجديد الذي عرفه عاملاً بصمتٍ في حقل الرّب، وذلك منذ لحظة دخوله دير القدّيس جاورجيوس الحميراء طالباً للرهبنة.
كما شدّد غبطته على أن الأسقّفية هي ارتقاء في الخدمة قبل أن تكون ارتقاء في السلطة.
بعدها ألقى الأسقف غريغوريوس كلمة جاء فيها:
أبتِ وسيدي صاحبَ الغبطة البطريركَ يوحنا العاشر الكليَّ الطوبى والجزيلَ الاحترام،
آبائي أصحابَ السيادة،
أقف اليوم أمامكم وَجِلاً ومرتعداً.
وَجِلاً أمام عِظَم محبتكم وثقتكم التي أوليتموني،
ومرتعداً أمام ثقلِ الحملِ الذي تُلقُون على عاتِقي وسموِّ المسؤوليةِ والأمانةِ التي تودعوني اليوم.
فإذا ما تفحّصتُ ذاتي على ضوءِ الكلماتِ الإنجيليةِ والوصايا السيدية، أدركُ أكثرَ وبيقينٍ أكبر عدمَ استحقاقي، فأضطربُ وأجزع. ولكنني عندما أتذكَّرُ أن السيد دعا متى العشار، الذي نعيّدُ له اليوم، وهو بعدُ جالسٌ عِنْدَ مكانِ الجباية ليصيرَ له تلميذاً ومبشراً، يهدأُ قلبي وتستكين أمواج أفكاري. فهو لم يدعُ تلميذَهُ بعدَ أن تركَ وهجرَ هذِهِ المهنةَ الشريرة، بل انتزعَهُ من وسطِ الشرور، وهو إذ يدعوني اليومَ بواسطتِكُم قادرٌ أن ينتزعَني من وسطِ أوهاني وضعفاتي.
لي يا سيدُ، عزاءٌ بأن النعمةَ الإلهيةَ التي استدعيتموها لتحلَّ عليَّ اليومَ بوضعِ الأيدي تشفيني من كلِّ مرضٍ وتكمّلُ نقصي إلى ملءِ قامةِ المسيح، فأصيرُ ببركتِكُم وأدعيتِكُم ومؤازرةِ الروحِ القدس، إنجيلاً مفتوحاً على غرارِ الإنجيلِ الذي وضعتموه مفتوحاً فوق رأسي.
وفيما أجيءُ من هذا الإنجيلِ نفسِهِ أتذكَّرُ أنَّ السيدَ وقبلَ أن يودِعَ تلاميذَهُ ركائزَ الخدمةِ الكهنوتيةِ الأساسية خلالَ العشاءِ الأخير - أقصد: خدمة الكلمة من خلال تعليمه وتوجيهاته الأخيرة، وخدمة الأسرار بتأسيسه لسر الإفخارستيا المقدسة- قبل ذلك ائتزرَ بمنديلٍ وأخذَ يغسلُ أرجلَ التلاميذ، ليسَ مِن غبارِ طريقٍ أو مِن خطيئةٍ، ولكن فوقَ كلِّ ذلكَ درساً عميقاً في التواضعِ والمحبة، وتعبيراً رمزياً عمَّا كان جوهرُ حياتِهِ وآلامِهِ وهو المحبةُ التي تكونُ مستعدةً دائماً للقيامِ بأوضعِ الخدماتِ لخلاصِ البشر.
وإذ أنا متأملٌ في هذا السّرِّ العظيم، أضعُ نُصبَ عينيَّ أنَّ الكهنوتَ يأخذُ مِلأَهُ انطلاقاً من خدمةِ غسلِ الأرجل، من محبةٍ على شاكلةِ محبتِهِ لنا، تذهبُ إلى حدِّ الفداءِ والتضحيةِ بالذات، ولكنَّها لا تفتأُ توجِّهُ بصبرٍ وتقوِّمُ برفقٍ وتحثُّ بطولِ أناةٍ وتؤنبُ حين يلزم بأمرِ المحبةِ نفسِها.
من تواضعٍ يُميّز بين التذللِ والمراءاةِ من جهة، والتواضعِ الحقيقي الذي ينبعُ مِنَ القلبِ وينعكسُ في التصرُّفِ من جهةٍ أخرى، ويذكِّرُني دائماً أنَّه إن كان فيَّ مِنْ صلاحٍ فهو نعمةٌ مِنَ اللهِ لا أستحقُها.
عندما قررتُ الالتحاقَ بالديرِ قلتُ في ذاتِي "لستَ قادراً بقوتِك، ألقِ بنفسِك بين يديِّ الربِ وهو يتلقفُك ويحتضنُك"، وهكذا كان.
واليومَ بعد سنواتٍ أذكِّرُ نفسي بذلك وأعودُ فأرتمي في أحضانِه ابناً ضالاً وأقولُ له: "اجعلني كأحد أجرائِك". ولكنَّه كعظيمِ رحمتِه، ومحبتِه للبشرِ التي لا يُستقصى أثرُهَا؛ بدل ثوبِ نفسِي الممزقِ يُسربلُني حُلَّةَ السرور، وبدلَ ابتعادي ونكراني يُفيضُ على رأسي النعمةَ كالطيبِ النازلِ على الرأس، وبدلَ استرخائي وكسلي يُمنطقُني بالقدرة ويجعلُ طريقي بلا عيب، وفيما أنا متمرغٌ بحمأةِ خطاياي يجعلُ على رأسي إكليلاً من حجرٍ كريم بدل إكليلِ الشوكِ الذي وُضعَ على هامتِه واحتملَه لأجلِ خلاصِ العالم. فأدرك أن السلطة في الكنيسة هي أولاً وأخيراً سلطة المحبة التي ترتضي وتحتمل إكليل الشوك من أجل من تُحب. أيُّ كلامٍ أو قولٍ يقوم بعد هذا كلِّه؟ هاأنذا أُطيعُ وأحني رأسي خاضعاً لإرادةِ الروحِ القدس والكنيسة.
وإذا أردتُ أن أشكرَ من تعبَ وسهرَ على تنشئتي فإنَّ الكلماتِ تخونُنِي وأظهرُ مقصِّراً. فالكلماتُ تبدو هزيلةً أمام فعلِ المحبةِ والتضحية.
أشكرُ عائلتي الصغيرة والديَّ اللَذين تعبا وضحيا كثيراً لينظرا ما أنا عليهِ اليوم وإخوتي الذين تقاسمتُ وإياهُم وما زلتُ لحظاتِ الحزنِ والفرح.
أخوالي الذين تربيتُ بينَهُم، وأخصُّ منهم الحبيبَ الراقدَ على رجاءِ القيامةِ نقولا مَنْ رافقني ولداً ثم شاباً فكانَ مثالاً للتضحيةِ والعطاءِ لا حدَّ له.
أصدقائي وإخوتي في مدارسِ الأحد في اللاذقية الذين تعلَّمتُ معهم ومنهم الكثير.
إخوتي بالروح، الرهبانَ الذين اختبرت فيهم بستاناً يجمع أزهاراً من أصنافٍ شتى لكلٍ شذاهُ وعطرُه الفواح.
راهبات دير السيدة في بلمانا اللواتي جعلنَ الديرَ مشتلاً للمحبةِ والتضحية والسعي الدائم للقداسة بالطاعةِ والتواضعِ ونكرانِ الذات.
وأخيراً وليس آخراً، أبي ومعلمي اليروندا، صاحبَ الغبطة، الذي اقتبلني في مصفِّ تلاميذه شاباً فتياً لم تعجنْهُ خبرةُ هذا الدّهرِ جيداً، وغرسةً لم يُقلّمْها أحد، راحت تنمو باتجاهِ الشمسِ بدونِ وعيٍ، فبادرً يُقلمُ ويقوِّمُ اعوجاجي بتعبٍ ومحبةٍ وطولِ أناةٍ ويداوي جراحِي وسقطاتِي بالوداعةِ والحنانِ والصلاة، ويسقي وينمِّي لا بالتعليمِ المباشرِ دائماً ولكن بالمثالِ الإنجيلي الحيِّ على الدوام. لكم يعودُ الفضلُ فيما أنا عليه اليوم، يا صاحب الغبطة.
ولا أنسى كلَّ من أسهمَ وتعبَ في خدمةِ وترتيبِ وتنظيمِ هذا اليومِ المبارك، الآباءَ الكهنة والشمامسة، أعضاءَ الجوقة، الكشاف، وكلَّ مَنْ تعبَ ليجعَلَ نقلَ هذا القداسِ الإلهي عبرَ أثيرِ تليلوميير وإذاعةِ صوتِ النعمة ممكناً.
كلَّ الذينَ كابدوا مشقَةَ الطريقِ ليشاركوني فرحَ هذا اليوم.
جميعَ الذينَ لم يتسنَّى لهُم الحضور بالجسدِ، فرافقونا بالروحِ مصلِّين معنا ولأجلنا.
ولي ألَّا أنسى في هذهِ المناسبةِ أن أطلب من ربِّ السماءِ والأرض أن يفيضَ رحمتَهُ على شهدائِنا، ويغدقَ تعزيتَهُ غنيةً على كلِّ قلبٍ حزينٍ ومتألم، ويحمي بلدنا الحبيب سورية أرضاً وسماءً وبحراً ليعودَ كما ألفناهُ أرضاً تفيضُ بالخيرات، وجواً عابقاً بالمحبةِ للهِ ولخليقتِه، وبحراً هادئاً يرسو إليه كلُّ مضنوكٍ ومتعب.
وختاماً أعودُ وأطلبُ شدَّ أزري بصلواتِكم يا صاحبَ الغبطة، وأنتم يا أصحابَ السيادة والآباءَ الأجلاء مع جميعِكُم يا أحبة، لكي يُظهرَني الربُّ الإله كرَّاماً مجتهداً لكرمِه، وراعياً أميناً لخرافِه، وصياداً ماهراً إلى ملكوتِه، له الشكرُ والمجدُ إلى الأبد، آمين.