ذخائر القدّيسين وتكريمها في الكنيسة الأرثوذكسيّة
تكريم ذخائر القدّيسين في التقليد الأرثوذكسي Λείψανα
1- تعريف:
تأتي كلمة ذخائر من فعل ذخر الشيء أي خبأه وحفظه لوقت الحاجة إليه، وبمعنى آخر أبقاه.
ومن فعل أبقاه أتت كلمة بقايا RELIQUIAE باللغة اللاتينية و Relics باللغة الإنكليزية لتعني بقايا الموتى بالإجمال، ومع الوقت أخذت معنى دينيًا إذ خصّصت الكنيسة هذه اللفظة لبقايا القدّيسين وما يختص بهم: رفات – لباس – أدوات.
2- الله والإنسان والمادة:
إعتقد الكثير من الفلاسفة اليونان، كأفلاطون وغيرهم، كذلك الغنوسيين أن النفس سجينة الجسد والمادة بحدّ ذاتها فاسدة. ولكن الكتاب المقدّس عكس هذه الأقوال بالكليّة، إذ أمام كلّ عملية خلق وردت الآية التالية: " ورأى الله ذلك أنّه حسن" ، للتتوّج بخلق الإنسان نفسه: " وقال الله نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا" (تكوين26:1). لا بل أكثر من ذلك، يتابع الكتاب المقدّس ليؤكّد أهميّة الإنسان بالنسبة لله فيقول: "وجبل الرّب الإله آدم ترابًا من الأرض. ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيّة" ( تكوين 7:2).
واضح وجلي من هذه الآيات أن الله هو خالق الكون بأسره، وكلّ ما خلقه حسن، والإنسان هو على صورة الله ومدعو أن يتشبّه به، أي أن يتقدّس، من هنا قال الله: " أنا الرّب إلهكم فتتقدّسون، وتكونون قدّيسين لأني أنا قدّوس (لا44:11). وما يفسد الإنسان وينجّسه ويسقطه هو فعل الخطيئة والشر الذي هو بالأساسغريب عنه، لأن الإنسان خُلق طاهرًا.
وكون رحمة الله كبيرة، فحتى ولو سقط الإنسان بأبشع الخطايا تبقى إمكانية العودة بالتوبة الصادقة دائمًا مفتوحة. وهذا بالتحديد ما أعلنه الله على لسان أشعياء النبي:" هلم نتحاجج يقول الرّب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. ان كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (أشعياء18:1).
تجسّد الله وصيرورته إنسانًا مشروع قداسة للعالم أجمع، فالله أصبح إنسانًا ليصبح الإنسان إلهًا بالنعمة والتبنّي. والإنسان الذي يلتصق بالمسيح يتقدّس نفسًا وجسدًا، "أجسادكم هي أعضاء المسيح (١كو15:6) وهيكل الروح القدس" (١كو19:6)، ويعكس نور المسيح ونعمته نفسًا وجسدًا.
وقد صعب ويصعب على البعض قبول تأنس الله ونتائج تجسّده، فأتى ويأتي رفضه لكلّ ما يتبع التجسّد، ولكل من يؤمن به، لذا شاهدنا إضطهادات وتنكيل، من العصر الأوّل للمسيحية حتى يومنا هذا مرورًا بحرب الأيقونات (القرن التاسع ميلادي) وغيرها.
إن الإيمان المسيحي ينفرد بإعلان سر التجسّد الذي بموجبه تتقدّس كل الخليقة من حولنا إذا اقتبل الإنسان النعمة الإلهيّة ونور الله غير المخلوق وفعّله. وللأسف العكس هو صحيح، فبتنجّس الإنسان ورفضه لهذه النعمة الإلهيّة المجانيّة يتحوّل هو وكلّ ما يتعاطى به إلى اداة ناقلة لسقوط الإنسان وعبوديته للموت والخطيئة، ووسيلة يسرق بها الشيطان العالم من الله.
المؤازرة Synergy) συνεργία):
عمليّة التقدّيس هذه لا تتم إلّا بشركة بين الله والإنسان معًا Synergy) συνεργία)، وهذا بالضبط ما يقوله المحتفل في القدّاس الإلهي " ويحلِّ روحُ نعمتك الصالح علينا وعلى هذه القرابين المقدّمة وعلى كلّ شعبك"، ولأن التقدّيس هو تجّلي، فإنه لا يكون "نهاية بحدّ ذاته" بل نعمة فوق نعمة ومن مجدٍ إلى مجد.
من هنا ليس في الكنيسة الأرثوذكسية عبادة للقرابين المقدّسة ذاتها أو من أجل ذاتها أو ما يُعرف بسجود القربان، لأن تحقق سرّ الشكر يكمن في شركة الإنسان وتحوّله. ومن اجل هذا أعطي هذا السر لمعرفة الله والشركة معه.
يشرح بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي عن الاتّحاد الإلهي – الإنساني بقوله: " فانه فيه يحل كلّ ملء اللاهوت جسديًا " (كو9:2). وقد اختبر التلاميذ ذلك مسبقًا على جبل التجّلي، ليلمسوا جسد الرّب بعد القيامة.
في خليقة المسيح الجديدة يصير الجسد الانساني "عضو المسيح" و "هيكل الروح القدس" " أم لستم تعلمون ان جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله وأنّكم لستم لأنفسكم. لأنّكم قد اشتريتم بثمن. فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو19:6).
والكنيسة ليست ضد الجسد بل ضد أهوائه. فإذا تحرّر إنسان الخليقة الجديدة من اهوائه الفاسدة، صارت حوّاسه وكامل جسده نقيّة منيرة، وشعّ كلّ شيء حوله بمحبّة الله ومجده.
3- تأله الإنسان:
يتأله الإنسان بالنور غير المخلوق المنحدر نحوه وغير المنفصل عن الله.
هذه دعوة واضحة " فاذ لنا هذه المواعيد أيّها الأحباء لنطهر ذواتنا من كلّ دنس الجسد والروح مكمّلين القداسة في خوف الله " (اكو1:7)
يقول القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث عن تألّه الجسّد: " نعمة الروح القدس، عندما تسكن في النفس، تسكن أيضًا في هيكلها. لذلك نجد عظام القدّيسين وبقاياهم تفيض أشفية تداوي كلّ ضعف".
كذلك القدّيس اثناسيوس الكبير: " إن النعمة الإلهية توجد في نفوس وأعضاء القديسين" (شرح المزمور ١١٧). كذلك القدّيس مكاريوس يقول: "كما تمجّد جسّد المسيح عند التجلّي على الجبل بالمجد الإلهي وبالنور الذي لا يغرب، كذلك تتمجّد أجساد القدّيسين وتلمع. وكما أن المجد الكائن في جسد المسيح أشرق مضيئًا، كذلك أيضًا تفيض قدرة المسيح في ذلك اليوم وتشع خارج أجسادهم " (الكلمة ١٥،٣٨ ). وكلّما كانت المساهمة في شركة الروح القدس أغنى، كلّما ازدادت قداسة الأجساد أيضًا.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم يقول بدوره: "بالموت لا تتغرّب أجساد القدّيسين عن النعمة التي كانوا يحيون بها، بل تزداد بها" (في مديح أحد الشهداء).
4- نتائج التأله:
١- لمعان الوجه:
لمع وجه موسى بعد لقائه بالله على الجبل " وكان لما نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة في يد موسى عند نزوله من الجبل ان موسى لم يعلم ان جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه (خروج 29:34)، وقدّيسون كثر ثم (أنطونيوس، سيسوى، موسى الحبشي وآخرون... سيرافيم ساروفسكي )
٢- انتقال نعمة القديس باللمس:
" حتى كان يؤتى عن جسده (بولس الرسول) بمناديل أو مأزر إلى المرضى فتزول عنهم الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة منهم" (أعمال12:19)
ويؤّكد في ذلك القدّيس باسيليوس الكبير فيقول: "إنّ الذي يلمس عظام الشهيد تنتقل إليه نعمة التقدّيس الموجودة فيها".
٣- إفاضة الطيب:
تفوح من الذخائر المقدّسة لبعض القديسين رائحة ذكية لا توصف. فنقرأ مثلًا في استشهاد القدّيس بوليكاربوس (156م) " كان الشهيد يقف في وسط النيران ... وكّنا نتنسّم رائحة كأّنها البخور أو عطور نادرة ثمينة".
كذلك نقرأ عن جسد العظيم في الشهداء القدّيس ديمتريوس المفيض الطيب، "كان ينضح بكثرة، إلى حد أن السكان المحليين وأشخاصًا آخرين قادمين من أمكنة بعيدة كانوا يأخذون منه دون أن ينضب، وبالأحرى أنَّه كان يزداد بشفاعة القدّيس. وكانت لهذا الطيب قوّة العلاجات والأشفية العظمى" .
وكذلك حال عدد من القديسين، مثل نكتاريوس أسقف اجينا، وسيرافيم ساروفسكي...
٤- عدم فساد الذخائر المقدسة:
لدى الكنيسة الارثوذكسية العديد من بقايا القدّيسين التي لم ينل منها الفساد بالرغم من الزمن الطويل الذي مرّ عليها . نذكر مثلاً ذخائر القدّيس اسبيريدون من جزيرة "كركيرة" في اليونان. هناك يوجد جسده الذي يعود إلى القرن الرابع . ليس محنطًا أو ممنوعًا عنه الهواء بل موضوعًا في تابوت، مكشوف دون غطاء. "عدم إنحلال الأجساد ليس قاعدة عامة توجب التطويب".
٥- العجائب التي تجري بواسطة البقايا المقدسية:
إن قدرة القديسين العجائبية لا تعود إلى قدرتهم الخاصة، بل إلى القوة الإلهية الساكنة فيهم.
وتذكر سير القديسين عددًا كبيرًا من العجائب التي حصلت بواسطة الذخائر المقدّسة.
5- تكريم ذخائر القدّيسين:
عقيدة تكريم رفات القديسين مؤسسة على الإيمان بوجود ارتباط روحي ما بين الروح القدس ورفات هؤلاء القدّيسين التي لم يستطع الموت الجسدي أن يحّلها إلى التراب الذي أخذت منه.
6- في الكتاب المقدَّس: عجائب وتكريم.
بعض الامثلة في العهد القديم:
- الميت الذي سقط في رمس أليشع حيي إذ مسّ جسد النبي الميت. "فيما كانوا يدفنون رجلا اذا بهم قد راوا الغزاة فطرحوا الرجل في قبر اليشع فلما نزل الرجل ومس عظام اليشع عاش وقام على رجليه" (2مل21:13).
- عظام يوسف الصدّيق حفظت بعناية واهتمام وأصعدت من مصر ودُفنت في شكيم . كثيرون ماتوا في مصر ولم تنتقل إلاَّ ذخائر يوسف وحدها لأنه كان صدّيقًا وقديسًا. أمر غريب فعلاً، ففي العهد القديم اعتبرت ملامسة جسد الإنسان الميت "نجاسة".
- أليشع شق النهر بمعطف إيليّا النبي. "ورفع رداء ايليا الذي سقط عنه ورجع ووقف على شاطئ الاردن. فأخذ رداء ايليا الذي سقط عنه وضرب الماء وقال اين هو الرب اله ايليا ثم ضرب الماء ايضا فانفلق الى هنا وهناك فعبر اليشع." (2مل13:2)
- العهد الجديد:
- المرأة نازفة الدم إذ لمست ذيل ثوب المخلص نالت الشفاء.
- ظل بطرس كان يشفي مرضى. (أع 14:5-16).
- "وصنع الله على يد بولس قوات عظيمة، حتَّى أنهم كانوا يأخذون عن جسمه إلى المرضى مناديل أو عصائب فتزول عنهم الأمراض وتخرج منهم الأرواح الشريرة". (أع١٩:١١-١٢).
7- إكرام بقايا القديسين بحسب التاريخ المسيحي:
- الحفاظ وإكرام ذخائر القدّيسين يعود إلى الأزمنة المسيحية الأولى، وهو تقليد مستمر في كنيستنا.
- الكنيسة تعبد المسيح فقط وتكرّم الذخائر.
- كل مائدة في الكنيسة الأرثوذكسيّة تحوي ذخائر مقدسة، وهو تقليد مسيحي قديم جدًا.
- في منتصف القرن الثالث أثبت كبريانوس القرطاجي إكرام أدوات تعذيب الشهداء بقوله: إن أجساد السجناء من أجل المسيح تقدّس سلاسلهم (الرسالة ١٣).
- في القرن الرابع خبّر القدّيس باسيليوس القيصري عن الاحتفال الرسمي الذي كان يحصل في تذكار يوم استشهاداتهم.
- في زمن الاضطهادات كانت الافخارستيا تقام في روما فوق قبور الشهداء.
- كانت أجساد القديسين في الشرق خصوصًا "تنبش" (تكشف) وتقسّم أجزاء وتنقل من مكان إلى آخر، كانتقال ذخائر القديس "بابيلاس" سنة ٣٥١، وفي القرن الرابع كان نقل البقايا يتم باحتفالات مهيبة. ونذكر على سبيل المثال نقل بقايا القديس نيقولاوس إلى "بارى" في ٩ أيار ونقل بقايا القديس يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية في ٢٧ كانون الثاني. وكانت تجري عجائب جمّة.
8- تحديدات المجامع وأقوال القدّيسين:
- دافع القدّيس يوحنا الدمشقي عن عقيدة اكرام بقايا القدّيسين مستندًا إلى تعليم قائلًا: إكرام البقايا هو بالحقيقة إكرام لله.
- يسمّي المجمع المسكوني السابع الذي أقيم في نيقية عام ٧٨٧ ذخائر القديسين "ينابيع الشفاء". فقد قال: "إن ربنا يسوع المسيح منحنا ذخائر القديسين ينابيع خلاصية فائضة بمختلف الاحسانات على الضعفاء. ولذلك فالذين يجرؤون على رفض ذخائر الشهداء، وقد عرفوا صحّتها وحقيقتها، فاذا كانوا أساقفة أو إكليروسًا فليحطوا، وإذا كانوا رهبانًا وعالميين فليحرموا المناولة (اعمال المجمع الثالث والسابع). وهذا المجمع المسكوني السابع عينه حدّد أن توضع الذخائر المقدسة في الكنائس وتبخّر متوّعدًا بالحط من الرتبة الاسقفية في حال عدم القيام بذلك إذ قال في قانونه السابع: "إننا نحدد أن يتمم بالصلاة المعينة وضع ذخائر الشهداء المقدّسة في تلك الكنائس التي تكرّست بدون أن توضع فيها يوم تكريسها. والأسقف الذي يحتفل من الآن بتكريس كنيسة بدون ذخائر مقدّسة فليحط كمتجاوز التسليمات الكنائسية).
- إن مجمع غنغرة المكاني الذي أقيم في سنة ٣٤٣م في قانونه العشرين حرم كلّ من ازدرى هذا التكريم.
- أما المجمع القرطاجّني المكاني الذي أقيم سنة ٤٠١م فقد أمر في قانونه السابع والثمانين بنقض المذابح (الهياكل والكنائس) التي لم توضع فيها ذخائر الشهداء.
نهاية نستذكر قول القدّيس غريغوريوس بالاماس: " نسجد للذخائر المقدّسة، لأنَّها لم تتجرّد من القوّة المقدّسة، كما أن الألوهة لم تنفصل عن جسد الرّب في موته الثلاثي الأيام ".