القدّيس بولس المعترف رئيس أساقفة القسطنطينيّة
"أيها الأب البار، لما توشّحت بحلّة رئاسة الكهنوت، طفقت تقتدي بسميّك بولس محتملاً الاضطهادات والشدائد. وبأتعابك الذاتية نقضت عقائد آريوس ذات التجديف. وبما أنك تألمت من اجل الثالوث الأزلي المتساوي الجوهر، حطمت مكدونيوس الملحد، محارب الروح. وإذ أوضحت للجميع الإيمان المستقيم الرأي، فأنت تسكن مع الملائكة العادمي
الهيولى. فمعهم ابتهل الآن في خلاص نفوسنا". (صلاة المساء. ذكصا بروصومية)
هذا ما تصدح به الكنيسة في عيد القديس بولس المعترف، رئيس أساقفة القسطنطينية، الذي يعتبر بحق احد أبرز المدافعين العمالقة عن الإيمان القويم في وجه الهرطقات عموماً، ولاسيما الهرطقة الآريوسية، مثله مثل نظيره الاسكندري القدّيس اثناسيوس الكبير واوسطاتيوس الأنطاكي ومركلس، أسقف أنقرة.
ولد في تسالونيكي في أواخر القرن الثالث، أو أوائل القرن الرابع للميلاد. جاء القسطنطينية يافعاً، ولم يلبث أن انضم إلى خدّام الكنيسة فيها. أبدى منذ أول عهده بالخدمة تمسّكاً بالإيمان القويم اقترن بالصلابة والتقوى والطهارة في المسرى والوداعة. وقد سامه البطريرك الكسندروس، في وقت قصير نسبياً، شماساً ثم كاهناً وكانت عينه عليه. ولما شعر البطريرك بدنو أجله في العام 336 م، سئل بمن يشير خلفاً فكان جوابه: إذا رغبتم في راع فاضل وصاحب إيمان قويم وعلم جزيل فعليكم ببولس الكاهن. وإذا ما آثرتم رجلاً وسيم الطلعة، فصيح اللسان، يتقن مراسم العظمة ويتبع مظاهر الجلال فعليكم بمكدونيوس الشمّاس. فما أن فارق البطريرك حتى جرى اختيار بولس. ولكن كان هذا إليه إيذاناً بعهد لم يعرف خلاله طعم الراحة لأن ما لحقه من الافتراء والتنكيل والاضطهاد من الآريوسيين، لم يتوقف، وكان هو ثابتاً راسخاً شامخاً كالطود، رمزاً للإيمان القويم، حتى الموت. خمس مرات أبعد عن كرسيه وشعبه وأربع مرات عاد. ثلاث مرات لجأ إلى رومية. مرّتان أخذ بالحيلة وقيّد بالسلاسل واقتيد إلى المنفى. والشعب وقف بجانبه في مواجهة الدولة التي آزرت إتباع آريوس، لاسيما الإمبراطور قسطانس. وكم من صدام دموي حصل بسببه بين المؤمنين والعسكر حتى أن الدولة لم تعد تجرؤ على اتخاذ أي تدبير علني ضد بولس مخافة رد الفعل الشعبي. وقد كانت المواجهة ضارية أحياناً إلى درجة أن قائداً أوفده قسطانس لوأد ما اعتبره فتنة، اسمه هرمجان، انقضت عليه الجموع وقتلته وجرّت جثته في الشوارع وأحرقت منزله.
كل ذلك زاد من حقد الآريوسين على بولس، كما زاد من سعي الإمبراطور إلى التخلص منه بكل الطرق الممكنة. وما كان ليحتمله، أحياناً، إلا مرغماً لأن الإمبراطور قسطان، سيّد الإمبراطورية في الغرب وأخ الإمبراطور البيزنطي قسطانس، كان أرثوذكسياً وكان يستعمل نفوذه، لدى أخيه، لإعادة بولس إلى كرسيّه. و لاشك أنه كان للبابا الرومي يوليوس دوره في ذلك. ومما عمله أنه دعا على مجمع في سرديكا (347م) أدان فيه الأساقفة الآريوسيين وطلب إعادة الأساقفة الأرثوذكسيين إلى كراسيهم.
ولكن، بقيت الأمور تتقلب إلى أن جرى نفي بولس إلى كوكوزا، في أقاصي أرمينية، إلى حيث سينفى أيضاً القديس يوحنا الذهبي الفم، بعد نصف قرن تقريباً. وفي كوكوزا تحمل بولس الجوع والعطش والتعب ولهب الشمس. أخيراً، فيما كان، مرة، يقيم الذبيحة الإلهية، دخل عليه الآريوسيين وخنقوه. وقد كان ذلك في العام 351 للميلاد.
ثم أنه جرى نقل رفات القديس بولس إلى القسطنطينية في أيام الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير (381م). بعد ذلك سطا عليها الصليبيون ونقلوها إلى البندقية في العام 1236م، حيث ما تزال إلى اليوم.