القدّيس لوكيانوس الشهيد في الكهنة المعلّم الأنطاكي
سيرته: القرن الثالث ميلادي
نشأ لوكيانوس في مدينة أنطاكية، والبعض يقول في مدينة سميصاط السوريّة. تلقّى في شبابه قسطًا وافرًا من العلوم الدنيويّة. ولمّا مات والداه وهو في سن الثانية عشرة وزّع ما لديه على الفقراء، وارتحل إلى مدينة الرها حيث تتلّمذ لمعلّم ذائع الصيت مكاريوس، وقد أضحى لوكيانوس أحد أكبر المعلّمين في الكنيسة في زمانه.
يقال عنه أنّه كان من أوائل من خرجوا إلى حياة النسك في أنطاكية، والقدّيس أثناسيوس الكبير يسميّه «ناسكًا كبيرًا».
ينقل مترجم سيرته عنّه أنّه كان يمارس النسك الرهباني الشديد، فلا يتناول طعامه إلاّ حوالي الساعة الثالثة من بعد الظهر ويصوم أحيانًا أسابيع بأكملها. طعامه كان يقتصر على الخبز اليابس والبقول، ولا يقرّب النار في فصل الشتاء مهما كان البرد قارصًا، وقد اعتاد أن يستغرق في الصلوات الطويلة باكيًّاً خطاياه.
تأسيسه مدرسة أنطاكية:
في أنطاكية انضم لوكيانوس إلى إكليروس المدينة، وقد أسّس فيها مدرسة أنطاكية الشهيرة في تاريخ الكنيسة، وهي المدرسة التي اتبعت في تعاطيها مع الكتب المقدّسة أسلوب التفسير البياني للنصوص، وتأكّيد معانيها الحرفيّة، في مقابل، الأسلوب التأوّيلي الذي جرى عليه أوريجنوس ومدرسته في الاسكندرية في الوقت عينه.
إلى لوكيانوس يعود فضل التدقيق في النصوص العبرية المقدّمة التي كانت قد امتدّت إلى البعض، منها أيدي الهراطقة فعبثت بها. ويقول القدّيس ايرونيموس أن ترجمة الكتاب المقدّس من العبرية إلى اليونانية بيد لوكيانوس، كانت عظيمة القيمة ودقيقة وسلسة، وأنّها انتشرت بين القسطنطينية وأنطاكية.
إضطهاد لوكيانوس:
لاحق جنود الإمبراطور مكسيميانوس القدّيس لوكيانوس، فيما اشتدّت وطأة الاضطهاد على المسيحيين عمومًا، وقد تمكّن هو من التواري فترة من الزمان إلى أن وشى به كاهن هرطوقي حسود.
قُبض على لوكيانوس وسيق إلى مدينة نيقوميذية، العاصمة الشرقية للإمبراطوريّة. وقد تمكّن أثناء الطريق من هداية أربعين من العسكر قضى أكثرهم شهيدًا في سبيل الإيمان.
في نيقوميذية جرى استجواب لوكيانوس وعومل أسوأ معاملة. ويبدو أنه لعب دورًا بارزًا في نيقوميذية، في تشديد المسيحيين وحملهم على التمسّك بإيمانهم بالمسيح، بعدما سلك بعضهم طريق الكفر تحت وطأة التهديد إنقاذًا لحياته.
لوكيانوس يجعل من صدره مذبحًا:
عاده بعض تلاميذه الأنطاكيين في سجنه يوم عيد الظهور الإلهي، عام .م٣١٢ وإذ أراد أن يقيم الذبيحة جعل من صدره مذبحًا لها.
عظة القدّيس يوحنا الذهبي الفم في لوكيانوس:
في عظة ألقاها القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن القدّيس لوكيانوس وصف وإكبار لأبرز ما عاناه هذا القدّيس الشهيد في نيقوميذية. وقد جاء في العظة ما يلي:
تُرك القدّيس طويلاً دون أن يحضر له جلادوه أي طعام. ولمّا رأوا أنّه لم يتلاش، وضعوا أمامه لحومًا سبق أن قدّمت لأوثان ... ورغم أن التجربة كانت قاسية للغاية، فإن القدّيس الشهيد خرج منها منتصرًا ... وإذ رأى عدو البشر إنّه لم يظفر بلقيان، جرَّه، من جديد، إلى المحاكمة.. وسعى إلى إنهاكه بشتّى الاستجوابات التي أخضعه له
جواب القدّيس على كلّ الأسئلة التي طرحت عليه كان :«أنا مسيحي».
سألوه:«من أين أنت؟»، فقال: «أنا مسيحي».
«ما هي مهنتك؟»، فأجاب :«أنا مسيحي».
«من هي عائلتك ومن أقرباؤك؟»، فقال :«أنا مسيحي».
طبعًا، لم تكن تنقص لوكيانوس قوّة البلاغة ، لكنّه كان يعرف جيدًاً إنّه بالإيمان يغلب لا بالبلاغة، وأن الدرب الأكيد ليس أن يعرف المرء لغة الكلام بل لغة المحّبة.
بهذا الجواب: «أنا مسيحي» أكمل لوكيانوس سعيه».
استشهاده:
وبعدما تضجّر جلادوه من ثباته خنقوه، في حبسه، سرًا، بأمر من الإمبراطور مكسيميانوس، ثم ألقوا بجثمانه في البحر ليمحوا أثره.
ولكن تمكّن أحد تلاميذه، غليكاريوس، بعدما تراءى له القدّيس، من التقاط رفاته. وقد كان استشهاده في اليوم السابع من شهر كانون الثاني من العام 312 للميلاد.
يذكر أن بعض المصادر القديمة والحديثة حاول إلصاق تهمة الهرطقة بالقدّيس لوكيانوس باعتباره أباً للآريوسية أو محازبًا لبولس السمياطي المدان في مجمع أنطاكية عام 269 للميلاد، لكن الثابت أن لوكيانوس رقد في كنف الكنيسة الأرثوذكسية. وقد قال عنه القد؟ّيس أثناسيوس الإسكندري إنّه قدّيس كبير وشهيد عظيم.