نحن، المسيحيين، لم نكن يوماً، ولن نكون على هامش…
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في جامعة الحواش، 3 تشرين الأول 2014
إخوتي وأحبتي،
نجتمع اليوم في هذه البقعة من الأرض السورية، في وادي النصارى، في رحاب هذه الجامعة المباركة.
نجتمع لنقول أن هذه البلاد هي معجن سلامٍ وموقد نور ومحبة.
نجتمع لنؤكّد أننا إخوة تراب هذا الوطن. نحن إخوة ترابه وإخوةٌ بترابه.
نجتمع في رحاب صرح علمي لنؤكّد أن سوريا خلقت لتكون مرتعاً للعلم وللنور.
نجتمع لنقول كلمةً في وجه من يحاول لصق أفكار أخرى في جسد بلادنا: فينا المسلم وفينا المسيحي، فينا الرجل وفينا المرأة، فينا الشيخ وفينا الكاهن، فينا الفقير وفينا الموسر، ولكن وقبل كلّ شيء فينا الوطن وفينا حبّه وحب جميع مكوّناته.
قلتها يوم أتيت إلى هذا الوادي وأقولها اليوم: نحمد الله أن الأمان عاد، ولو نسبياً، إلى هذه البقعة ونصلّي من هنا بقلبٍ واحدٍ إلى أن يعود الأمان والسلام إلى كلّ التراب السوري الذي يوحّدنا فيه مع إخوتنا، سائرِ أطياف هذا الوطن، تاريخُ عيش ونضالٌ من أجل قضاياه، وشهادةٌ مشتركةٌ في سبيل قضايا هذا الوطن.
"فالتراب الذي شرب دماء الشهداء - كما قال أحد أسلافنا البطاركة - لم يسأل إذا كان هذا الدم مسلماً أم مسيحياً. الدم واحدٌ هو دم الحقيقة، وعندما نتمكّن ونحن نفعل ذلك أن نضع دماءنا رخيصةً على تربة الوطن لا بد أن تنبت دماؤنا شجرةً يانعة تتحدّى عواصف البطل ليبقى صوت الحق في الدنيا"، ودماء جول جمال، ابن المشتاية البار، كما غيرها التي تحدّت عواصف البُطل يومها هي خير دليل أن هذا الوادي هو قلبٌ يخفق حباً بسوريا.
نحن، المسيحيين، لم نكن يوماً، ولن نكون على هامش تاريخ هذا البلد، ولم نكن ولن نكون على هامش هذا المشرق.
في هذا المشرق تجسّد "مشرق مشارقنا" كما يسمّيه أدبنا المسيحي الأول.
ومن هذا المشرق شعّ وأنار البسيطة كلّها.
نحن من صُلْب تاريخه وفي صُلب قضاياه.
نحن لم نذب في الكثرة ولم ننْتشِ بالتقوقع.
نحن أبناء هذه الأرض.
نحن مِنْ زيتونها ومن أرزها ومن سنديانها.
نحن لسنا زوار الحاضر ولا ضيوف لحظات ولا مخلفات حملاتٍ.
نحن من عتاقة تاريخها وُلدنا، ومن فراتها وعاصيها ارتشفنا أبدية عشقنا لأديمها.
نحن في أنطاكيتها لبسنا اسم مسيحنا، وفي رحم عذابها وسلامها مررنا.
نحن على صليب محبتها تسمرنا وفي وهاد تاريخها أَلْحَدْنا ضيقاتنا، ومن نور ترابها جَدَلنا هويتنا وكينونتنا.
نحن، مع غيرنا، في بحور سلامها عبرنا وعلى جلجلة ضيقها سرنا وإلى غار نصرها وإكليل رُوائها صبونا ونصبو بقوة إرادتنا وبرجائنا الوطيد بالرب الخالق الذي غرسنا هنا وشاءنا أن نكون في أخوةٍ كاملة مع من أسلموا لله أمرهم والتمسوا مرضاة وجهه الحي القدّوس.
نحن اخترنا ونختار اسم الوطن والانتماء إلى الوطن فوق كل شيء.
ولعل العَوْدَ إلى التاريخ القريب مفيدٌ في كثير من الأحيان. في سنة 1919 ومع نهاية الحرب الأولى ونهاية الحقبة التركية في بلادنا، جاءتنا لجنة تقصي الحقائق التي أوفدتها "عصبة الأمم". وجابت في هذه البلاد لتسأل رأي الناس تطبيقاً لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وكان الجو العام الخبيء لما طُرح وقتها هو؛
أياً تفضّل، انتداباً إنكليزياً أو فرنسياً. يومها وصلت اللجنة إلى الدار البطريركية بدمشق وسألت البطريرك غريغوريوس الرابع طيّب الله ثراه، فأجاب البطريرك ومعه نطقت كلّ أفواه المسيحيين الأرثوذكس في أنطاكية وسائر المشرق: "أنا أريد انتداباً وطنياً، وأنا أنتدب ابن بلدي. وولائي أعطيه للوطن حيث ولدت وحيث أبقى".
نقول للخارج وللداخل، للميقن وللمرتاب:
لو سألتم ساحة المرجة عن أبطالها لذكرت 6 أيار والزهراوي وسلوم.
لو سألتم لسان الضاد عن ربانه لاعتزّ باليازجي.
لو سألتم عن تاريخ سوريا الحديث لأرجعكم الى جدران قلعة أرواد وإلى القوتلي والخوري.
وقد يقول قائل هذا التغنّي بالماضي الجميل، القريب والبعيد، تدفنه الأيام المرة. والأمر ليس كذلك، لأنّ نظرةً سريعةً إلى تاريخ سوريا الحديث تؤكد أن تاريخ مجد سوريا كتبه مسلمون ومسيحيون.
والأيام الحاضرة تقول إن قوة نهوض سوريا هي بتلاحم أبنائها من كلّ الأطياف، وهذا التلاحم سطّره صمود جيشها وقيادتها وشعبها وجهود المصالحة فيها.
لم تخلق سوريا لتكون مرتعاً للتطرف والإرهاب والتكفير، ومعبراً إلى فراديس تفترضها فقط عقولٌ مضلّلة.
منذ أكثر من سنة والعالم ودول القرار تتفرّج على مأساة المطرانين يوحنا وبولس مكتفيةً بالترثّي والتباكي.
نحن نشكر كلّ جهد تضامني لا محالة. لكنّنا لا ننتظر تضامناً فحسب ممن أنيطت بهم لغة القرار.
نحن ننتظر أفعالاً. كفانا خطفاً وتهجيراً واستباحةً وتكفيراً وإرهاباً تعامت الدنيا عن أفعاله واستفاقت على حين غرة.
نحن نتوق إلى أمان الماضي وهذا التوق سيبني فينا وفي كلّ إنسان قوّة الرجاء بالمستقبل مهما كلح وجه زماننا.
سوريا وجدت لتكون مرتعاً للنور لأنّها من المشرق. ومن المشرق يبزغ النور لكل البسيطة ex oriente lux هكذا قال ويقول الغرب.
عسى أن يفهم الغرب وتفهم بعض حكوماته أن المشرق أرض النور لا النار.
ومع هذا، يا إخوتي، لا تخافوا فالنور في مشرقنا سيكتسح النار بقوة الله وبقوة اتكّالنا عليه.
وفقكم الله ورعاكم.