تذكار قطع رأس يوحنا المعمدان
يرد خبر قطع رأس السّابق المجيد في الأناجيل الثّلاثة الأولى، متّى (١:١٤-١٢) ومرقس (١٤:٦-٢٩) ولوقا (٧:٩-٩).
مقدّمة:
الآمر بقطع رأسه كان هيرودوس أنتيبّاس المُعين من الرومان قيّمًا على الجليل والبيريا، وهوابن هيرودوس الكبير. حكم كملك ما بين العامَين ٤ق.م و٣٩ ب.م. تزوّج من امرأة اسمها هيروديّا. لم تكن الشّريعة تجيز زواجه لأنّ هيروديّا كانت امرأة أخيه فيليبّس.
هذا هو فيليبّس رئيس الرّبع على إيطوريّة وتراخونيتيس، المذكور في لوقا ٣:٣، وهو أخ هيرودوس من جهّة أبيه لا أمّه. فيليبّس كان قد أنجب من هيروديّا ابنة هي سالومي. سالومي غير مذكورة في الأناجيل بالاسم، فقط معرَّف عنها بـ "ابنة هيروديّا". اسمها ورد لدى المؤرِّخ اليهوديّ فلافيوس يوسيفوس. تنصّ الشّريعة صراحة: "عورة امرأة أخيك لا تكشف" (لاويّين ١٧:١٨)، و "إذا أخذ رجلٌ امرأة أخيه فذلك نجاسة" (لاويّين ٢١:٢٠).
توبيخ القدّيس يوحنا لهيرودس:
كان يوحنّا يقول لهيرودوس: "لا يحلّ أن تكون لك امرأة أخيك" (مرقس ١٨:٦) ويوبّخه لجميع الشّرور التي كان يفعلها (لوقا ١٩:٣). فحنِقت هيروديّا عليه وأرادت أن تقتله ولم تقدر (مرقس ١٩:٦). لماذا لم تقدر أن تقتله؟ "لأنّ هيرودوس كان يهاب يوحنّا عالماً أنّه رجل بارّ وقدّيس وكان يحفظه" (مرقس ٢٠:٦)
متّى الإنجيليّ يقول قولاً آخر. يقول إنّ هيرودوس: "أمسك يوحنّا وأوثقه وطرحه في السّجن من أجل هيروديّا" (متّى ١٤:٣). ويقول أيضاً إنّ هيرودوس أراد أن يقتل يوحنّا لكنّه "خاف من الشّعب لأنّه كان عندهم مثل نبيّ" (متّى ١٤:٥). رغم ذلك كانت هيروديّا تتحيّن الفرص لتتخلّص منه إلى أن كان "يوم موافق" (مرقس ٢١:٦) تمكّنت فيه من إرواء غليلها.
الأمر بقطع رأسه:
ذلك اليوم كان يوم ميلاد هيرودوس. صنع الملك عشاءً "لعظمائه وقوّاد الألوف ووجنوه الجليل" (مرقس ٢١:٦). وفي العشاء دخلت ابنةَ هيروديّا ورقصت في الوسط فسرّت هيرودوس والمتّكئين معه. ومن ثمّ وعد بقَسَم أنّه مهما طلبت يعطيها (متّى ١٤:٧) "حتّى نصف مملكتي" (مرقس ٢٣:٦)، على حدّ تعبيره. النصّ في مرقص يقول إنّها خرجت "وسألت أمّها: ماذا أطلب. فقالت رأس يوحنّا المعمدان" (مرقس ٢٤:٦)، فيما يبدي متّى الإنجيليّ أنّ الابنة كانت قد تلقّنت من أمّها (متّى ١٤:٨). لذلك حالما أقسم هيرودوس بأن يعطيها مهما تطلب أجابته للوقت بسرعة: "أعطني ههنا على طبق رأس يوحنّا المعمدان" (متّى ١٤:٨). هذا أحزن الملك حزناً شديداً. لماذا؟ ربّما لأنّه خاف العاقبة من جهّة الشّعب (متّى ١٤:٨) وربّما لأنّه كان يهابه ويوقّره ويسمعه بسرور (مرقس ٢٠:٦). أنّى يكن فإنّه، "من أجل الأقسام والمتّكئين معه" (متّى ١٤:٩)، وجد نفسه مجبَراً على الإيفاء بما وعد، وكلام الملوك لا يُردّ، فأمر أن يُعطى وأرسل سيّافاً وأمر أن يُؤتى برأسه (مرقس ٦:٢٧). فمضى السّيّاف وقطع رأس يوحنّا في السّجن. ثمّ أتى برأسه على طبق وأعطاه للصّبيّة والصّبيّة أعطته لأمّها. فلمّا "سمع تلاميذه جاءوا ورفعوا جثّته ووضعوها في قبر" (مرقس ٢٩:٦). هذا ما يوافينا به كلّ من متّى ومرقص الإنجيليَّين. أمّا لوقا فأشار إلى قطع رأس يوحنّا في معرض الكلام على يسوع. فإنّه إذ بلغ هيرودوسَ الملكَ جميع ما كان من يسوع والقوّات التي كانت تجري على يديه، وإذ تناهى إليه ما كان الناس يقولونه عن يسوع إنّه يوحنّا المعمدان، قد قام من الأموات، أو إنّه إيليّا ظهر أو نبيٌّ من القدماء قام، ارتاب وقال: "يوحنّا أنا قطعت رأسه. فمَن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا. وكان يطلب أن يراه" (لو٩:٩). هنا يشار إلى أنّ متّى ومرقص يعطيان الانطباع أنّ هيرودوس هو الذي ظنّ أنّ يسوع هو يوحنّا قام من الموت. لذلك جاء عن الملك، في متّى، أنّه قال لغلمانه: "هذا هو يوحنّا المعمدان. قد قام من الأموات ولذلك تُعمل به القوّات" (متّى ٢:١٤). والقول في إنجيل مرقس شبيه بهذا (مرقس ١٤:٦)
من أقوال الآباء:
يعتبر القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ في قول هيرودوس لغلمانه: "هذا هو يوحنّا المعمدان…” أنّ في موقف الملك "إجلالاً وخوفاً في آن، وأنّ في مهابة هيرودوس دليلاً على عظمة الفضيلة وتأثيرِ يوحنّا فيه رغم توبيخه له. حتّى الأشرار يُعجَبون بالفضيلة ويمدحونها. من هنا، في نظر الذّهبيّ الفمّ، حُزْنُ هيرودوس. ولا يفوت قدّيسَنا أن يشير إلى مكائد الشّرّير من خلال الرّقص والسُّكر. ففيما أضحت ابنة هيروديّا متورّطة من خلال الرّقص في جريمة من أبشع الجرائم التي تحدّث عنها التّاريخ، أطلق هيرودوس، بتأثير الخمرة والخلاعة والمجد الباطل، قَسَماً جعله، خلافاً لقناعته، قاتلاً لأعظم مواليد النّساء.
وأورد القدّيس غريغوريوس بالاماس في شأن سماع هيرودوس ليوحنّا بسرور. قال: "ما كان يقوله الإنجيلي مرقس إنّ هيرودوس كان يسمع ليوحنّا معناه: في الأدوية يحصل ما يناقض التّعاليم الرّوحيّة. نشعر بمرارة الدّواء لكنّنا نتناوله بداعي فائدته. أمّا فيما يتعلّق بالتّعاليم الرّوحيّة فهي عذبة لكنّ الذين يشتعلون بالرّغبات الشّرّيرة لا يتقبّلونها بسبب عداوتها لهم. ربّما كان هيرودوس يسمع له في البداية (مرقس ٢٠:٦)... لكنّه كره التّوبيخ فنسي النّصائح الأوّليّة واتّفق مع هيروديا من أجل القتل. وكان يخاف من الجمع (متّى ١٤:٥) لا بسبب إمكانية ثورتهم بل بسبب مجرّد حكمهم عليه، لأنّهم كانوا يعتبرونه نبيّاً. كانت فضيلة يوحنّا مشهورة وكان هيرودوس يحبّ المجد فخاف من حكم الجمع، لذلك كان يقدّم المديح ليوحنّا ظاهريّاً.
وفي حديث القدّيس غريغوريوس عن المجد الباطل وتأثيره فينا يقول: "يعاني ذهننا (Nous)... هذا المرض! فمع أنّه أُبدع من الله ملكاً ومتسلّطاً على الأهواء، عندما ينجذب... من المجد الباطل... يُقاد إلى أعمال شاذّة وعواقب وخيمة. هكذا فإنّ كلّ واحد، مستعبَد للخطيئة والشّهوات، عندما يُوبَّخ من ضميره يتضايق أوّل الأمر. لذا يحبسه (يحبس ضميره)، بمعنى، كما فعل هيرودوس بيوحنّا رافضاً أن يسمع له، غير مريد أن يتّبع الأقوال النّاهية عن الخطيئة. وعندما تتسلّط عليه الشّهوات بحضور هيروديّا، وهي فكر الخطيئة الكامن في النّفس، عندها تنتزع الشّهوات هذه كلام النّعمة المزروع في النّفس أي الضمير فتقضي عليه وتقتله نقضاً للكتاب المقدّس ولكلمة الله كما حصل لهيرودوس بالنّسبة ليوحنّا”.
ملاحظة:
يُذكر أنّ قطع رأس السّابق جرى في قلعة ماخيروس بقرب البحر الميّت.
في النهاية نُفي هيرودوس الملك إلى ليون في فرنسا سنة ٣٩م وإلى هناك تبعته هيروديّا.
كما يُشار إلى أنّ عيد قطع رأس السّابق المجيد جرى الاحتفال به، أوّل الأمر، في القسطنطينيّة وبلاد الغال (فرنسا) ثمّ انتقل إلى رومة. وهو يوم صوم بخلاف سائر الأعياد. في قنداق الاحتفال بعيده تُرتّل الكنيسة فيما ترتّل: "إنّ قطع رأس السّابق المجيد صار بتدبير إلهيّ ليكرز للذين في الجحيم بمجيء المخلّص...".
طروباريّة قطع رأس النّبيّ الكريم السّابق المجيد يوحنّا المعمدان باللّحن الثّاني
تذكار الصدّيق بالمديح، فأنت أيّها السّابق تكفيك شهادة الرّبّ، لأنّك ظهرتَ بالحقيقة أشرفَ من كلّ الأنبياء، إذ قد استأهلتَ أن تُعمّد في المجاري من كرزوا هم به. ولذلك إذ جاهدتَ عن الحقّ مسروراً، بشّرت الذين في الجحيم بالإله الظّاهر بالجسد، الرّافع خطيئة العالم، والمانح إيّانا الرّحمة العظمى.
قنداق باللّحن الخامس
إنّ قطع رأس السّابق المجيد صار بتدبيرٍ ما إلهيّ. لكي يُكرزَ للذين في الجحيم بمجيء المخلّص، فلتنتحبْ إذنْ هيروديّا الطّالبة القتل المخالف للشّريعة، لأنّها لم تؤثر شريعة الله ولا أحبَّتِ الحياة الأبديّة، لكنّها بالحري أحبّت الحياة الوقتيّة.