يا أنطاكية ارفعي ألحاظك، باستدارةٍ وانظري لأنه…
عظة البطريرك يوحنا العاشر
في قداس عيد الكرسي الأنطاكي
البلمند، 29 حزيران 2014
"يا أنطاكية ارفعي ألحاظك، باستدارةٍ وانظري لأنه هوذا أولادك، قد تواردوا إليك كدراري مضاءةٍ من الله من المغارب والشمال والبحر والمشرق مباركين المسيح فيك إلى الأدهار"
بكلمات قديسنا يوحنا الدمشقي، ابن كنيسة أنطاكية، يطيب لي أن أخاطبكم، وأقول:
أيها الأحبة،
قلب كنيستنا يخفق اليوم حباً ورونقاً. قلب بطرس وبولس فرحٌ اليوم لأنه يرى شتلة النور التي بثها في كنيسة أنطاكية مزهرةً جذلةً بهذا المحفل البهج. قلب أنطاكية الذي ينبض غيرةً ومحبةً وقّادةً للمسيح فرحٌ لأنه يرى اجتماع الإخوة معاً. اليوم أسوار دمشق تعانق أجراس بيروت ومغارة مار بطرس في أنطاكية تلامس قبة البلمند. اليوم زحلة تصافح اللاذقية وعكار تمسح جروح حلب. اليوم حمص تعانق جبل لبنان وحماه تغسل شباك صور وصيدا. اليوم أجراس السويداء تعزف نشيد محبتها لكنائس طرابلس والكورة. اليوم أبناؤنا في العراق وفي الخليج العربي يتوسدون صدر كنيستهم الأنطاكية في اجتماع الإخوة. اليوم كنيسة أنطاكية وطناً تعانق، عناقاً رسولياً، أنطاكية في كل بلاد الانتشار. اليوم أبناؤنا في أمريكا الشمالية وكندا والمكسيك والبرزيل والأرجنتين وتشيلي وأستراليا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا والدول الاسكندنافية وسويسرا والنمسا وكل أوروبا وسائر بقاع الأرض يعانقون الكنيسة الأم التي عمدتهم وعمدت أجدادهم ومشحت حياتهم باسم المسيح فمشحوها شوقاً وعطاءً وحنيناً واستماتةً بالدفاع عن قضاياها. اليوم يسجد الجميع للرب يسوع البارئ لكل نسمة والمفرج في كل أزمة، الضابط إيقاع الأوقات والأزمنة والذي ارتضى وجمعنا مصفاً واحداً هنا في البلمند، في هذا الصرح الجامعي الأنطاكي، في الكورة عروس لبنان.
جمعنا اليوم عيد الرسولين. جمعَنا اليوم لنلقى وجوهاً طيبةً ورثت عن أجدادها إيمان الأولين وغرسته في صدور الأبناء واستلّته في كثيرٍ من الأحيان، بحمية بطرس وبحكمة بولس، لتهزم به ضيق زمنٍ حاضر ولتكتسح بنوره شظف بعض الأيام. "أنطاكية هي أول من نحتت كلمة مسيحيين وأرقصتها نغماً على شفاه الأجيال" هذا ما قاله ومن على هذه التلة وفي تدشين معهد اللاهوت المثلث الرحمة البطريرك الراحل الياس الرابع معوض. وها نحن من جديد نكمل ما قاله السلف الراحل ونقول: كنيسة أنطاكية هي محارةٌ قد تبدو للبعض صغيرة ومختبئةً في بواطن تاريخ وجغرافية هذه المسكونة، لكن هذه المحارة هي التي تطبق بحنانٍ على أغلى كنز لديها: الإيمان بيسوع المسيح، وهي التي نشرت عبق طيب هذا الاسم لكل الدنيا، وهي إلى الآن تشهد لاسمه القدوس بمحبةٍ وانفتاحٍ نحو الآخر. وبصبرٍ وبطول أناةٍ تمخر عباب بحر تجارب هذا العالم واثقةً برجاء سيدها وقويةً بإيمان أبنائها الذي يستمدون من نور وجه الرب استنارةً لحياتهم. كنيسة أنطاكية تبني بالمحبة، وهذا ما قاله سلفنا المثلث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، مؤسس جامعة البلمند، في أواخر الثمانينات: "إن كان قدرهم أن يدمروا، فإن قدرنا أن نبني وأن نبقى". وها نحن من بعدك نكمل المقولة ونقول وبصوتٍ واحدٍ: "إذا كان قدرك أن تبني، أيها المثلث الرحمة، فإن قدرنا أن نكمل ونعلي البنيان بتكاتفنا ووحدتنا وأن نجتمع هنا سويةً، كلّاً أنطاكياً في المسيح، ههنا حيث تعبتَ وبنيتَ".
الإيمان "أمانة"، هذا ما تقوله كتبنا الليتورجية عندما تتحدث عن "حفظ الأمانة" و"الأمانة المستقيمة". وكل ذلك يؤهلنا أن نقول: إن إيمان أجدادنا قد حفظ كما تحفظ الأمانة، وأنه وصل إلينا وتسلمناه وتقلدناه رغم كل صعوبات التاريخ. وهذه هي رسالتنا اليوم، أن نحفظ هذا الإيمان الأمانة رغم كل الظروف ووسط أحلك الصعوبات. ويحفظ إيماننا عندما نكون دوماً يداً واحدةً وجسداً واحداً تذوب فيه مسافات الجغرافية ويسمو فيه منطق التآزر وغوث المحتاج. نحن اليوم مصفٌ واحدٌ لنقول لأنفسنا أولاً وللعالم ثانياً أننا جسدٌ واحدٌ يسري في عروقه إيمانٌ واحدٌ وأُخوّةٌ حقة تشربناها من جرن عماديٍّ أنطاكي. بنوتنا لكنيسة أنطاكية وسائر المشرق لا تعني أبداً انكماشاً وتقوقعاً بل هي بذرةٌ أولى لوحدةٍ مشرقية ومسيحيةٍ ولا تعني أبداً تعصباً وتزمتاً تجاه إخوتنا المسيحيين المشرقيين بل دعامةً لوحدةٍ ووحدة حالٍ مع كل مسيحيي المشرق. هذه البنوّة في الوقت عينه تعزف نشيد انفتاحها نحو الأخ والجار المسلم وتعمل الكثير لتبني مع كل أطياف هذا المشرق سلاماً ومواطنةً وعيشاً كريماً لخير كل الناس.
كنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية هي كرمةٌ قولاً وفعلاً. والكرمة تمد أغصانها بعيداً والأغصان نفسها قد تنغرس في أرضٍ جديدةٍ فتثمر رعايا وأبرشياتٍ في أرض الانتشار في الأمريكيتين وأستراليا وأوروبا. قد يكون لهذه الأبرشيات وضع خاص من حيث انغراسها في أرض بعيدة، لكنها نهلت وتنهل من معينٍ أنطاكي رفدها بالكهنة والرعاة وبالخبرة، فكانت هذه الأبرشيات بأبنائها الخيرين، سفيرة روح كنيسة أنطاكية إلى العالم وأزراً قوياً للكنيسة وللوطن الأم. وها هي وحدتنا الأنطاكية التي كانت محور المؤتمر تنجلي في وجود أبناء هذه الأبرشيات فيما بيننا اليوم، وهي التي تضم إلى جانب المهاجرين قديماً أو حديثاً، إخوتنا المهتدين من تلك البلاد، الذين انضموا إلى الأرثوذكسية عن طريق كنيستنا الأنطاكية والذين نفخر بأخوّتنا معهم ونصلي دوماً من أجلهم.
نحن اليوم يا إخوتي في البلمند في ظل عناية العذراء القائدة وتحت قبة ديرها الشهير في ظل زيتون الكورة وفي ضيافة أهلها الطيبين. نجتمع اليوم في جامعةٍ أرثوذكسية أنطاكيةٍ خرجت من رحم كنيسة أنطاكية لتقول للعالم، أن كنيسة أنطاكية التاريخ هي نفسها كنيسة أنطاكية المستقبل وأن متحفية التاريخ لا تستهوينا بقدر ما يستهوينا اتخاذ الدروس من الماضي والنظر دوماً إلى الحاضر والمستقبل.
وإذا ما تكلمنا عن الوحدة الأنطاكية، فإننا نجد أنفسنا أمام أوّل وأبسط قواعد وجودها وهو الوجود المسيحي في هذا المشرق. كنه وحدة أنطاكية الأرثوذكسية والمسيحية هو وجودٌ لا بل انغراسٌ مسيحي منفتح في أرض المشرق بكل بقاعه. وهذا الوجود ضمانه الأول سلام هذي الأرض. نحن الآن ههنا لنصلي من أجل سلام المشرق والعالم.
صلاتنا اليوم إلى الرب الخالق أن يعطي العالم السلام. صلاتنا اليوم من أجل لبنان. صلاتنا أن نتذكر، ويتذكر الجميع دوماً، أن هذه البلاد هي التي أوجدت الأبجدية، والأبجدية هي صورة الحاجة للقاء الآخر. ما أحوجنا في هذا المشرق وفي هذه البلاد بالتحديد لأن نتذكر أن بلاد الأبجدية تستحق منا الأبجدية، أي الحوار والتلاقي. والحوار والتلاقي الداخلي هما الكفيلان بترسيخ الاستقرار في لبنان. إن فراغ الرئاسة فيه يعطل دور المؤسسات المؤتمنة على خدمة المواطن. وهذا كلامٌ نضعه في عهدة السياسيين جميعاً: لقد ائتمنكم شعبكم على لبنان، كونوا على قدر الأمانة.
صلاتنا اليوم من أجل سوريا. لقد تاق هذا البلد إلى سلامك يا يسوع. لقد تاق إلى صوت التعقل والاعتدال ولم يألف لغة الدمار والإرهاب. عرفت سوريا أماناً تفتقده الآن. وعرفت استقراراً وعلمنةً واحتراماً للأديان ولم تعرف يوماً مثل هذا التكفير الذي يرى في الآخر مناقضاً. عرفت دوماً شيوخاً ومطارنةً تحت سقف الوطن ولم تعرف امتهاناً للدين ولا قتلاً للكهنة ولا خطفاً للمطارنة. أليس من حقنا أن نتوق إلى أيام سلامها! وأن نؤكد دوماً أن كل الصعاب تمحوها كلمة حوارٍ صادقٍ وتذيبها لقيا الآخر! أوليس من حقنا أن نعتدّ بأخوةٍ، مسيحية إسلامية كانت وباقية وستبقى رغم كل كبوات التاريخ ورغم كل ما يساق من ايديولوجيات متطرفة خصوصاً في أيامنا الحاضرة. نقولها ومن جديد، سوريا غصن زيتون، ولن ييبس زيتون سلامها.
صلاتنا من أجل العراق ومصر وفلسطين ومن أجل كل بقعة من هذا المشرق ومن هذا العالم الذي يتوق إلى سلامٍ وعيشٍ كريم. يكفينا نزاعاتٍ ويكفينا شعاراتٍ. إن ابتسامة أطفالنا ورغد عيشهم خُلقت لتأنسَ سلام هذه الأرض لا صراعها ودمارها. وإن خطف الناس ومنهم المطرانان بولس ويوحنا والكهنة والصمت الدولي المطبق تجاه قضيتهم وقضيتنا هو وصمة عارٍ في جبين كلّ من تسوغ له نفسه التشدق بحقوق الإنسان زوراً وبهتاناً.
أبعث اليوم ومن البلمند بسلامي القلبي باسمي وباسم إخوتي المطارنة إلى كل أبنائنا في الوطن وبلاد الانتشار. أحييهم فرداً فرداً. وأشكر كل الوجوه الطيبة التي تقاطرت، وبكثافةٍ، من لبنان وسوريا لتشارك في المؤتمر وفي هذا القداس ولترسم صورةً جليةً عن محبتنا لهذه الأرض وعن انغراسنا فيها مهما قست الظروف. كما وأشكر باسمكم جميعاً كل الجنود المجهولين الذين تعبوا ليجتمع الإخوة معاً. أشكر الأسرة البلمندية ديراً وجامعةً ومعهداً وثانويةً. الشكر أيضاً لوسائل الإعلام التي شبكت عبر أثيرها قلوبنا بقلوب أحبتنا الذين فصلتهم عنا الجغرافية وجمعتهم الكأس المقدسة.
"ليكونوا واحداً" هذا كلامك يا يسوع، فلنسر بهديه لنرفع لك الشكر مع أبيك وروحك القدوس، لك المجد إلى الأبد، آمين.