المجمع المسكوني الأوّل
الله أصبح إنسانًا، دون ان يفقد شيئًا من ألوهيته، لكي يُصبح الإنسان إلهًا بالنعمة وابنًا لله بالتبنّي.
- تعريف:
هو المجمع المسكوني الأوّل الذي انعقد في نيقية (تركيا حاليًّا) عام ٣٢٥م. تم فيه مناظرة اريوس الذي قال عن ابن الله أنّه مخلوق، فحرموه وأعلنوه هرطوقيًّا.
ضم المجمع ٣١٨ أسقفًا معظمهم من الشرق. وكان المترئس فيه ألكسندروس بطريرك الإسكندريّة واسطاثيوس بطريرك أنطاكية ومكاريوس بطريرك بيت المقدس، كما حضر وكلاء يوليوس بطريرك رومية. (١)
- مرسوم ميلانو:
بعد مرسوم ميلانو(٢) الذي صدر عام ٣١٣م والذي أوقف الاضطهادات بحق المسيحيين بإعطائهم حرية العبادة، بدأ اضطهاد ثانٍ أشد خطورةً مِن الأوّل، إذ يحرّف جوهر الإيمان المسيحيّ والتدبير الخلاصيّ، فتأهبت الكنيسة بآبائها القدّيسين لتوضيح الإيمان الحقيقي.
كثير مًن الآباء الذين شاركوا في هذا المجمع كانوا شهداء أحياء، آباء معترفين بإيمانهم، إذ بدت عليهم أثار التعذيب التي تعرّضوا لها في زمن الاضطهاد مِن تشويه وجروح وضرب وجلد وبتر أعضاء. فأتت شهادتهم ترجمة لإيمانٍ كان محفورًا في نفوسهم ومكتوبًا على صدورهم.
- اريوس (٢٥٦-٣٣٠م):
كان يوجد في الإسكندرية كاهن ليبي تميّز بفصاحته يدعى اريوس. أشبع عقله مِن التحاليل الشخصيّة دون الروح القدس فانتفخ ووقع في الشطط. بدأ يعظ ويحاول إقناع المؤمنين بأن وحده الله الآب الإله الحق، بينما الرّب يسوع المسيح هو مخلوق. أنكر اريوس ألوهية الابن فزعم بأنّه كان وقت لم يكن الابن فيه موجودًا، وادّعى أن الابن أوّل مخلوقات الله ومِنْ صُنْعِهِ، كما أن الروح القدس مِن صُنْعِ الآب أيضًا.
بهذا يكون اريوس قد أنكر جوهر الثالوث القدّوس (الآب والابن والروح القدس الواحد في الجوهر الإلهيّ)، وألغى كل اتّحاد بين الله والإنسان بإلغائه التجسّد.
وهنا يٌطرح السؤال: ماذا تريد الإنسانيّة من إلهٍ بقي في سمواته؟ وعلى أي حبٍ إلهيّ كنّا سنتكلّم لو لم يتجسّد الله؟
كلامه هذا يخالف بالكليّة ما بشّر به ربّنا يسوع المسيح، ويعاكس جوهر الإيمان المسيحيّ بأكمله: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ.... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يوحنا ١)، أو ما بشّر به الأمم بولس الرسول: "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ." (١ تي ١٦:٣).
- بطريرك الإسكندريّة القدّيس ألكسندروس (+٣٢٦ أو +٣٢٨):
عُرف االبابا ألكسندروس بطريرك الإسكندريّة بقداسته، فاستدعى الكاهن أريوس التابع له أكثر مِن مرّة وتناقش معه وفسر له أصول الإيمان الحقيقي، وطلب منه الرجوع عن خطأه ولكن دون جدوى. فكان أريوس يزداد تعنّتًا يومًا فيوم ويسعى جاهدًا للإكثار مِن مناصريه، وأصبح لديه جمهور بين الكهنة والشعب. فانتشرت هرطقته بقوّة وتخطّت حدود الإسكندريّة ليصبح له أتباعًا ومناصرين مِن إكليريكيين وعلمانيين.
عندها لجأ البطريرك ألكسندروس إلى إخوته بالإيمان مِن بطاركة وأساقفة مستقمي الرأي لدرع هذا الشطط، وكان قد أوقف أريوس عن الخدمة الذي نشط يطوف المناطق غاشًا المؤمنين وباثًا سمومه وانحرافاته الإيمانيّة مولّهًا نفسه ومنصّبًا نفسه مرجعًا وباحثًا.
- أريوس والملك قسطنطين:
لم يكتف أريوس بعدم طاعة بطريركه، بل لجأ إلى الإمبراطور قسطنطين مشتكيًا على البطريرك ألكسندروس بأنه ظلمه وأفرزه عن الخدمة طالبًا منه التدخل وانصافه.
- انعقاد المجمع:
دفاع آباء الكنيسة القدّيسين المستميت عن الإيمان القويم، وخشية الإمبراطور قسطنطين مِن فوضى داخل إمبراطوريته مِن جراء انتشار هرطقة أريوس بقوّة داخل الإسكندريّة وخارجها، وبدء تكوين جماعات منشقّة عن الكنيسة، جعل قسطنطين يدعم بقوّة انعقاد مجمع كنسيّ كبير لمعالجة الموضوع بأسرع وقت ممكن، فأمّن له التنظيم والحماية اللازمين مع كل تكاليف النقليات والسفر.
افتتح الإمبراطور قسطنطين الكبير المجمع وتوجّه إلى اريوس الذي كان حاضرًا بالقول: "أنت طلبت الإنصاف فقل ما عندك". عندها بدأ اريوس يشرح أمام الجميع أرائه المعوجة، ويستفيض بفصاحته المعهودة واثقًا من نفسه ومعتقدًا بأنه سيفلح في فرض نظرياته الخاطئة. وكان كل كلامه يدور حول أن "الله خلق الابن فكان كلمته بالموهبة، وفوّضه بخلق السموات والأرض. ثم أن تلك الكلمة تجسّدت مِن الروح القدس ومِن مريم العذراء. فالمسيح بالتالي كلمة وجسد وكلاهما مخلوقان".
سأله البطريرك ألكسندروس عندئذ أمام الجميع: بحسب كلامك، مَن يجوز أن نعبد إذًا؟ الذي خلقنا أو الذي لم يخلقنا؟
أجابه أريوس: العبادة تجوز لمن خلقنا.
فوقع أريوس في حفرته. عندها قال له البطريرك ألكسندروس: بحسب كلامك إذًا، تجوز العبادة للذي خلقنا، الذي هو مخلوق، ولا تجوز العبادة للذي لم يخلقنا، وهو الخالق. عبادة المخلوق إيمانًا وعبادة الخالق كفرًا؟!!
هذا كلام مِن أشنع الأقاويل.
وانتهى بعدها الأمر بحرم اريوس، وتطبيق قانون النفي عليه بأمر الملك. ومات اريوس بالنفي بنزول حشو جوفه.
ملاحظة:
لمع في هذا المجمع مرافق البطريرك ألكسندروس، الشمّاس أثناسيوس (القدّيس أثناسيوس الكبير لاحقًا)، إذ كان ينتقل مِن أسقف لآخر يشدّد ويساعد ويوضح، ويكشف ألاعيب اريوس وخفاياه، فاستحق بأن يدعى بطل مجمع نيقية.
- ألوهة المسيح:
دحض المجمع هرطقة اريوس وأعلن الإيمان المستقيم، أي أن المسيح إله حق مولود مِن الآب قبل كل الدهور، وغير مخلوق. وأكّد أن الرب يسوع المسيح إله مِن إله.
وقد استعمل المجمع كلمة "اومووسيوس ομοούσιος" اليونانيّة للدلاة على ألوهة المسيح، وهي ما نقولها في العربية "مساوي للآب في الجوهر"، والأدق القول "الواحد مع الآب في الجوهر"، أي أن المسيح مِن جوهر واحد مع الآب، الجوهر الإلهيّ الواحد.
بناء تم صياغة الجزء الأوّل مِن دستور الإيمان الذي نتلوه في القدَّاس الإلهي وفي صلواتنا، أي لغاية "وبالروح القدس"، الذي عاد وأستكمل لاحقًا في المجمع المسكوني الثاني عام ٣٨١م في القسطنطينيّة.
- تحديد عيد الفصح:
حدّد المجمع تعيين تاريخ عيد الفصح، وإقرار القاعدة التي كانت تعتمدها كنيسة الإسكندريّة للاحتفال بالعيد، فيقع عيد الفصح يوم الأحد بعد أول بدر يلي الاعتدال الربيعي في ٢١ آذار (حساب شرقي)، أي الأحد الذي يلي سبت الفصح اليهودي مباشرة.
- قوانين المجمع:
وضع المجمع تنظيمات إداريّة فسنَّ عشرين قانونًا كنسيًا، منها تثبيت رفعة الكراسي الكبرى الثلاث وهي: رومية والإسكندرية وأنطاكية (قانون ٦)، وأن يحتل كرسي أُورشليم مكانة الشرف الرابعة على أن يبقى خاضعًا لمتروبوليت قيصرية فلسطين.
ملاحظة: لم يأتِ مجمع نيقية على ذكر القسطنطينية لأن مدينتها دُشنت بعد هذا المجمع بخمس سنوات.
- استمراريّة هرطقة اريوس:
في الحقيقة هرطقة اريوس لم تكن جديدة أو بدأت معه، أو حتّى زالت معه. فهي عمرها من عمر الشيطان ومستمرّة تحت أسماء مختلفة إلى اليوم الأخير في المجيء الثاني، يوم الدينونة الرهيب.
فكل هدف الشيطان عدو الإنسان تضليل البشر لإقناعهم بأن الرّبّ يسوع المسيح ليس الله المتجسّد الذي صار أنسانًا من أجلنا، وصُلِبَ عنّا وقام وأقامنا معه، وأصعد طبيعتنا البشريّة بصعوده بعد أن مجّدها فيه، وأرسل لنا الروح القدس الذي مِن عند الآب ينبثق، وسيأتي الرب ليدين الأحياء والأموات.
نعم، الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله.
إله واحد في ثلاثة أقانيم. مثل الشمعة المشتعلة التي هي شعلة واحدة، ولكن في الوقت نفسه نار ونور وحرارة. إنّه احتواء وتحرك متواصل ودائم (περιχώρησις (Perichoresis.
- طروباريّة الآباء
باللَّحن الثامن
أنتَ أيُّها المسيحُ إلهُنا الفائِقُ التَّسبيح، يا مَنْ أَسَّسَ آباءَنا القدِّيسينَ على الأرضِ كواكِبَ لامِعَة، وبهم هَدانا جميعًا إلى الإيمانِ الحقيقيّ، أيّها الجزيلُ الرَّحمةِ المجدُ لك.
------
(١) - كتاب الناموس الشريف - ١٩٩٢
(٢) - مرسوم ميلانو Edictum Mediolanens هو مرسوم أعلنته الإمبراطوريّة الرومانيّة في العام ٣١٣م، وهو يتعلّق بإعطاء الحريّة الدينيّة للمسيحيين ووقف الاضطهاد ضدّهم. بحيث التقى في ميديولانوم (ميلان اليوم) كلّ مِن الإمبراطور الروماني الغربي قسطنطين الأوّل والإمبراطور ليسينيوس لإعادة تنظيم أمور الإمبراطوريّة. مِن ضمن الأمور التي جرى ترتيبها إعطاء المسيحيين مرسوم التسامح الذي كان قد أصدره الإمبراطور غاليريوس قبل سنتين في سيرديكا.
مرسوم ميلانو أعطى المسيحية وضعًا قانونيًا بالعبادة، لكنه لم يجعل المسيحيّة مذهب الإمبراطوريّة الرومانيّة؛ هذا حدث لاحقًا في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأوّل في عام ٣٨٠م مع مرسوم تسالونيكي.