القدّيسان كيرلّس ومثوديوس
القدّيسان الرسولان الجديدان كيرلّس ومثوديوس أخوان بالجسد من مدينة تسالونيكة. إليهما يعود الفضل، بنعمة الله، في تبشير الشعوب السلافية. ولدا من لاون وماريا، في كنف عائلة كريمة المحتد، طائلة الثروة. مدينة تسالونيكية، في القرن التاسع الميلادي، كانت ملتقى شعوب متعدّدة، كما عرفت تأثرات سلافية واسعة. من هنا أن الأخوين وُجدا، منذ الطفولية، في تماس مع السكان السلافيين الذين نزلوا تلك النواحي. هكذا تعلّما اللغة المحكية للسلاف وأخذا عنهم عاداتهم.
مثوديوس، وهو البكر، كان من مواليد العام 815م. وقد اتّسم بالهدوء والوداعة. تسنّى له أن يتلقى العلوم القانونية فبرز فيها لدرجة أنه عيّن حاكماً لمقاطعة كان السلافيون يقيمون فيها لعلها في بيثينيا، وتحديداً في أوبسيكيون. في غضون سنوات قليلة أدرك مثوديوس أنه لا حقّ له أن يضيّع وقته بالاهتمام في ما ليست له قيمة أبدية، فاستقال وفرّ من العالم كمثل العصفور من فخّ الصيّاد ليلتحق بأحد أديرة جبل الأوليمبوس (بيثينيا). هناك ترّهب وسلك في الطاعة ومحبّة الصلاة، كما انكبّ على دراسة الكتب المقدسة. كان في سعيه مثالاً يُحتذى.
أما كيرلّس فمن مواليد العام 827م. تمتّع، بنعمة الله، بذكاء خارق وذاكرة غير عادية. كان يحلم، منذ حداثته، بأن يتخذ لنفسه زوجة مهيبة لا كالزوجات، ولا أميرة جميلة بل حكمة الله، كمثل سليمان جديد. في سن الرابعة عشرة حفظ، عن ظهر قلب، أشعار القدّيس غريغوريوس اللاهوتي. وبدموع كان يتوسّل إلى معلّميه أن يعلّموه قواعد اللغة ليتسنّى له أن ينفذ إلى معانيها. ذاع صيت مواهب الشاب الصغير حتى بلغ أذني المستشار الملكي العظيم الشأن ثيوكتيستوس. هذا استقدمه إلى القسطنطينية وتعهّده. أكمل كيرلّس، بسرعة، علومه العامة ودرس العلوم العالية على أبرز معلّمي عصره: لاون، عالم الرياضيات، والقدّيس فوتيوس (6 شباط) الذي أصبح كيرلّس لديه التلميذ الحبيب. في عهدة فوتيوس تعلّم كيرلّس الحكمة الحقانية وهي "معرفة الإلهيات والإنسانيات التي تُعلّم الإنسان كيف يسلك في كل شيء على صورة الخالق ومثاله". لُقّب بـ "الفيلسوف" وبات معروفاً في أوساط القصر. تنبّأ له ثيوكتيسيوس بمستقبل سياسي باهر شاءه أن يفتتحه بالزواج من أحدى قريباته. ردّ كيرلّس العرض بلياقة مشيراً إلى أن جلّ اهتمامه هو تلقّي "العلم" واستعادة المجد الذي أضاعه الجدّ الأول. على أنه قبِل أن يصير شماسّاً وأن يتبوأ مركز المستشارية البطريركية لدى البطريرك القسطنطيني القدّيس أغناطيوس. لكنه لم يلبث طويلاً في وظيفته إذ غادرها إلى دير كليديون، على البوسفور. هناك التقى البطريرك المنحّى المحارب للإيقونات يوحنا السابع غرامّاتيكوس، ودخل معه في جدال حام دفاعاً عن الأرثوذكسية.
في غضون ستة أشهر استُدعي كيرلّس إلى العاصمة المتملّكة حيث رضخ لطلب المستشار ثيوكتيستوس وقبل أن يكون أستاذاً للفلسفة. وفي العام 815 – ولم يكن سنّه قد جاوز الرابعة والعشرين – أوفده الإمبراطور ميخائيل الثالث، في مهمّة دبلوماسية، إلى الخليفة العبّاسي المتوكّل. لكن المحادثات مع العرب ما لبثت أن تحوّلت من سياسية إلى لاهوتية. دافع كيرلّس عن الإيمان بالثالوث القدّوس دفاع الشهداء القدماء، كما أبرز سمو الأخلاق المسيحية على ما عداها. نتيجة ذلك نفذ بالكاد من محاولة قتل بدسّ السّم، فعاد إلى بيزنطية، برحمة الله، سليماً معافى. فلما اغتال برداس ثيوكتيستوس المستشار، حامي كيرلّس، ليستأثر بالحكم سنة 855م، انضمّ قدّيسنا إلى أخيه مثوديوس، في جبل الأوليمبوس، في سعي وراء الحكمة الإلهية في الصمت والصلاة. هكذا اجتمع الأخوان ليصليا معاً ويدرسا معاً.
في العام 860م، بعدما استشار الإمبراطور البطريرك فوتيوس، أخرج كيرلّس من خلوته ليرسله في بعثة إلى الخان الأكبر للخازار، الخازار شعب من أصل تركي تهوّد، فيما بعد، وشكّل، فيما يظن، أكثر اليهود المعاصرين. إلى ذلك الحين لم يكن الخازار قد اختاروا ديانتهم. فبعث الخان إلى القسطنطينية يطلب أن يُبعث إليه بعالم مقتدر متمرّس في أمور الدين ليجادل اليهود والعرب الذين كانوا يحاولون استمالة شعبه، كلّ إلى دينه، اليهودية أو الإسلام. رافق كيرلّس في رحلته أخوه وكوكبة من الرجال الأفذاذ. درس الفيلسوف العبرية في الطريق وتلقّى، بصورة عجائبية، معرفة اللهجة السامرية. في قصر الخازار، كانت للقدّيس كيرلّس وفريقه مناقشات لاهوتية طويلة وحامية مع اليهود. وقد أفحم كيرلّس معلّمي الناموس مبيّناً لهم تفوّق الإنجيل على ناموسهم، الأمر الذي أدّى بالعديد من الرسميّين الخازاريّين البارزين إلى اقتبال الإيمان المسيحي، كما جرى إطلاق سراح من كانوا أسرى لدى الخازار من المسيحيّين. وبعدما وقع الأخوان مع الخان معاهدة تحالف عادا إلى بلادهما. في الطريق هَدَيا شعوباً وثنية في شرصونة، عند البحر الأسود، كما حملا معهما رفات القدّيس كليمنضوس الرومي المعيّد له في 24 تشرين الثاني. هذه جرى اكتشافها بصورة عجائبية في شرصونة يومذاك.
ما أن قدّم كيرلّس تقريره للإمبراطور بشأن مهمّته لدى الخازار حتى خلا إلى الهدوئية والصلاة بمحاذاة كنيسة الرسل القدّيسين. أما مثوديوس فبعدما امتنع عن قبول السيامة الأسقفية رضي أن يصير رئيساً لدير بوليخرونيون حيث كان سبعون راهباً يجدّون في سبل الحياة الملائكية.
دامت خلوة الأخوين بعضاً من الوقت. ثم في العام 863م وصلت إلى القسطنطينية سفارة من لدن أمير مورافيا، المدعو راتيسلاف. جاؤوا يطلبون من الإمبراطور أسقفاً ومعلّماً قادراً على تعليمهم، في لغتهم، الإيمان المسيحي الذي سبق لهم أن تلقّوه، جزئياً، من المرسلين الفرنجة الآتين من بافيار. غير أن هؤلاء المرسلين كانوا يكرزون باللاتينية ويقيمون الخدمة الليتورجية بلغة غير مفهومة. هذا جعل اقتبال المسيحية، بين السكّان، قليلاً ولزم الأكثرون عاداتهم الوثنية. جواب ميخائيل الثالث كان أنه ليس من حقّه أن يكون وصيّاً على إيمانهم، وامتنع عن إعطائهم أسقفاً إذ لم يشأ أن يغتصب تلك البلاد من أسقف رومية لأنها تابعة له. لكنه وعد بإيفاد رجال قادرين على تعليم الشعب عن الخلاص بيسوع المسيح في لغتهم دون أن يعمل على فرض اللغة اليونانية عليهم.
كيرلّس الفيلسوف كان الوحيد الذي توفّرت فيه الصفات المطلوبة في من يصلح لمثل هذه الإرسالية، لا فقط لحكمته بل لمعرفته اللغة المحكيّة البلغارية وسواها من اللغات البارزة المعروفة في ذلك الزمان: اليونانية واللاتينية والعبرية والخازارية والتركية والسريانية والسامرية. قَبِل "الفيلسوف" المهمة المسندة إليه بمثابة أمر من الله، لكنه طلب وقتاً ليُعدّ نفسه. فانكب على الصلاة وسأل العون من الله أن يكشف له كتابة تصلح لتأدية أصوات اللغة السلافية بشكل مناسب. وفي التقليد أن كيرلّس تلقّى الأبجدية السلافية كما تلقّى موسى، كليم الله، الوصايا الإلهية، فبات بإمكانه للحال أن يكتب الآيات الأولى من إنجيل يوحنا بالأحرف السلافية الجديدة. على هذا النحو، وبعد قليل من الدرس والتنقيح، بات بإمكان الشعوب السلافية أن تمجّد الله بلغتها. وإذ استعان كيرلّس بأخيه مثوديوس وتلاميذ آخرين من أصل سلافي، انكبّ، بسرعة، على ترجمة القراءات الإنجيلية الليتورجية على مدار السنة وكذلك القدّاس الإلهي وكتاب الساعات، وكتاب المزامير. وهكذا بعدما أعدّ فريق العمل المبارك هذا العدّة اللازمة لهذا العمل الرسولي الأجلّ غادر إلى مورافيا في السنة 863م.
استُقبل الموفدون بإكرام جزيل في قصر الأمير راتسلاف الذي أسند إليهم مهمّة تنشئة فريق من التلامذة على الأبجدية الجديدة. حقّق الأخوان نجاحاً طيّباً، ففي غضون ثلاث سنوات (863 – 866) تمكّنا من جمع أكثر من مائة تلميذ قاموا، بدورهم، بنشر الإنجيل في كل المملكة. غير أن هذا النجاح السريع أثار محاسد المرسلين الفرنجة ومقاومتهم. أما الأخوان فبعدما وضعا الأسس الأولى لهذا المشروع الفذّ، قرّرا العودة إلى القسطنطينية لسيامة البارزين من تلاميذهم. لكن طريق العودة كانت مقطوعة بسبب تدهور العلاقات بين بيزنطة وبلغاريا. لذلك قرّرا التوجّه إلى البندقية، من هناك، سالكين طريق البحر. وبانتظار أن تقلع السفينة بهم التقاهم الإكليروس المحلّي ووجّه لهم الاتهامات عينها التي سبق للمرسلين الفرنجة أن وجّهوها ومنها أنهم يقيمون الخدمة في السلافية فيما ليس مسموحاً أن تُقام إلا باليونانية أو اللاتينية أو العبرية. ويبدو أن الموضوع أُحيل على البابا نيقولاوس الأول الذي استدعى كيرلّس ورفاقه إلى رومية.
وصلت الإرسالية إلى رومية فاستقبلها الشعب بحماس خصوصاً لأنها كانت تحمل رفات القدّيس كليمضوس الرومي. فجأة توفي البابا نيقولاوس وخلفه أدريانوس الثاني. هذا بارك عمل الرسولين الجديدين ووضع، باحتفال مهيب، الترجمة السلافية للكتب المقدّسة على مذبح كنيسة القدّيسة مريم الكبرى. كما أدان متّهميهم، المتمسّكين باللغات الثلاث الأنفة الذكر من دون سواها من اللغات في الخدمة الإلهية، أقول أدانهم بالهرطقة. كذلك سام أدريانوس بنفسه مثوديوس كاهناً وكذلك ثلاثة من تلاميذ الأخوين. وفي الأيام التالية تسنّى للمسامين حديثاً أن يقيموا الخدمة الإلهية بالسلافية في العديد من كنائس المدينة.
وخلال إقامة الإرسالية في رومية، وُجد كيرلّس منهكاً من كثرة الأسفار والأتعاب فمرض مرضاً شديداً. وبعدما تلفّى الثوب الرهباني باسم كيرلّس رقد في الرب ودفن بإكرام جزيل في بازيليك القدّيس كليمنضوس. وقد جرت عند قبره عجائب جمّة.
من جهة أخرى بلغ خبر نجاح الإرسالية في مورافيا أسماع أمير بانونيا، المدعو كوسيل، فرغب، هو أيضاً، في أن يكون لشعبه نصيب في الهداية، فطلب من رومية أن تُوفد مثوديوس وفريق العمل إليه فلبّى البابا أدريانوس طلبه. وبعد مهمّة أولى تكلّلت بالنجاح، عاد مثوديوس إلى رومية ليُصيَّر أسقفاً على سيرميوم ويرعى لا بانونيا فقط بل كل الشعوب السلافية في أوروبا الوسطى أيضاَ. هذا كان في العام 870م.
تابع مثوديوس كرازته بالإنجيل وإقامة الخدم الإلهية بالسلافية وتوسّع فسام الكهنة والشمامسة ووضع للكنيسة الجديدة أسسها القانونية التنظيمية، لاسيما لخبرته في الإدارة والقانون. تابع ذلك كلّه ببركة جميلة إلى أن أتى إلى مورافيا في العام 873م. هناك تغيّرت الظروف وتبدّلت الأحوال. فقد استأسر سفاتوبلوك بالسلطة بعدما فقأ عيني راتيسلاف وأعاد البلاد إلى الفلك الجرماني. بنتيجة ذلك ألقي القبض على مثوديوس ومثل أمام مجمع انعقد في بافيار. وبعد محاكمة صوريّة احتجز في صوابيا، في أحد الأبراج فعانى بشدّة لاسيما لقسوة الطقس هناك.
بقي مثوديوس في الأسر سنتين ونصف السنة بلغ في نهايتها البابا يوحنا الثامن خبرُه فعمل على إطلاق سراحه.
وما إن عاد القدّيس إلى مورافيا حتى استعاد نشاطه بهمّة متزايدة دون أن يولي الحظر بإقامة الخدمة الإلهية بالسلافية أية أهمية. كذلك لم يتردّد مثوديوس في توجيه اللوم لسفاتوبلوك لمجونة، كما ناهض، دونما هوادة، التعليم بالانبثاق من الآب والابن (Filioque) الذي كان إكليروس الفرنجة يحاول فرضه على البلاد. رفع الفرنجة القضيّة إلى البابا وكذلك فعل مثوديوس عام 879م. والنتيجة كانت أن مثوديوس عاد من رومية مظفّراً وثبته البابا في كل حقوقه. غير أن الفرنجة أبوا أن يناموا على الضيم فاستمروا يناهضون مثوديوس. اتّهموه بالتمرّد على الإمبراطور فاضطر مثوديوس للتوجّه إلى القسطنطينية حيث أطلع الإمبراطور باسيليوس الأول والبطريرك فوتيوس على نتائج عمله مؤكّداً خضوعه الكامل لهما (881م). استُقبل، هناك، استقبالاً طيّباً وأقرّه الإمبراطور والبطريرك معه في خدمته الرسولية الفذّة.
عاد قدّيس الله وتلاميذه إلى مورافيا ولم يعد الفرنجة يزعجونهم، فنعموا بالهدوء والسلام. وتابعوا ترجمتهم للكتب الكنسية. استكمل مثوديوس، في ستة أشهر، الترجمة الكاملة للكتاب المقدّس وكذا لنصوص آبائية وقانونية متفرقة، أي كل ما يلزم الكنيسة السلافية لتتمكن من استيعاب إرث المسيحية البيزنطية. بعد ذلك عيّن خلفاً له، القدّيس كورازد، ورقد بسلام في الرب في 6 نيسان سنة 885م.
بعد وفاة مثوديوس عاد الفرنجة إلى الواجهة من جديد. فبعدما أقنعوا البابا استفانوس الخامس بلا أرثوذكسية مثوديوس، حظي الأسقف ويتشييغ على صلاحيات كاملة في مورافيا. إذ ذاك حمل الفرنجة بشدّة على تلاميذ مثوديوس: كورازد وكليمنضوس وأكثر من مائتين من القدّيسين المعترفين. بعضهم ضُرب وجُرّر وسط الشوك. الأصغر سنّاً بينهم بيعوا عبيداً لتجّار البندقية، فيما نُفي آخرون إلى أطراف الإمبراطورية. وقد وجد كورازد ملجأ في بولونيا وآخرون في بوهيميا، فيما بلغ كليمنضوس وناحوم وسابا وأنجلير ولفرنديوس بلغاريا حيث استقبلهم القيصر بوريس كملائكة الله.
عمل الأخوين المعادلي الرسل في مورافيا لم يبق له أثر لأن المجريّين اجتاحوا وخرّبوا مورافيا وجعلوها تحت سلطة اللاتين بصورة نهائية. ولكن من خلال الكنيسة البلغارية شكّل جهد الأخوين بذاراً لتراث بيزنطي سلافي غني بلغ أوجه في روسيا كييف إثر هداية القدّيس فلاديمير المعيّد له في 15 تموز.