القدّيسان نيقيطا البار ويوسف ناظم التسابيح
القدّيس نيقيطا البار (+824م)
أصله ونشأته: أصله من بيثينيا. نشأ على حسن العبادة والتقوى علَّمه أسقف بيثينيا الكتب المقدَّسة. ولما بلغ الثانية عشر سامه قارئاً. كان دائم التأمل في ما يقرأ. الدعوة إلى الزهد بالعالم نفذت إلى قلبه عميقاً فقرَّر، على غرار والده، أن يترك كل شيء ويحمل الصليب ويتبع المعلِّم.
راهباً، كاهناً ورئيساً للدير: انضم نيقيتا إلى ناسك قديس اسمه إستفانوس كان يقيم في مغارة قرب المدينة. لازمه لبعض الوقت، في تجرّد كامل، لكنَّ الناسك نصحه، لمنفعة نفسه، بالانضمام إلى دير للشركة. قال له: "سوف تجد هناك المعاناة التي تثمر فرقاً، وسيكون بإمكانك، بمكابدة تجارب الحياة المشتركة، أن تقتني التميز وتتقدم صعداً إلى الله". وعلى نصيحة الشيخ انتقل نيقيتا إلى دير المديكيون الذي أسسه القديس نيقيفوروس. أطاع بامتياز وأحب أباه الروحي بلا حدود. وقد لفت اعتداله وصبره الأخوة فأحبّوه. بعد خمس سنوات، سامه القديس طراسيوس البطريرك كاهناً. وأوكلت إليه إدارة الشركة في الدير التي بلغ عدد رهبانها المائة. ذلك بمساعدة راهب اسمه أثناسيوس. وبعد وفات أبيه الروحي ومساعده أثناسيوس وجد نفسه وحيداً، ومن ثم أُرغم على قبول مسؤولية الدير. كانت نعمة الله معه وكانت تجري على يده شفاءات عديدة لأناس مرضى.
أسير اضطهاد: حوالي العام 815م، جدد لاون الخامس الأرمني حملته ضد الأيقونات ومكرِّميها. وإذ أمل في اجتذاب رؤساء الأديرة إلى صفّه، ومن خلالهم الشعب المؤمن برمَّته، دعاهم إلى القسطنطينية. وقف نيقيتا أمام الملك فحاول هذا الأخير استمالته بالأقناع. لكن من دون جدوى. فقد أبان قديس الله بطلان حجج الهراطقة. خشي الملك من القديس، فلما لجأ إلى العنف، وألقاه في سجن مظلم تفوح منه رائحة لا تطاق وأسلمه لقدح وذم مرسليه الذين تواترو على استجوابه.
وقوعه في الضلال وتوبته: بعد أن نفي القديس نيقيتا ورفقته إلى حصن مسَّاليا، أُعيدوا إلى القسطنطينية وبخدعة من لاون أذعنوا إلى طلبه. لم يطل الوقت بنيقيتا حتى أدرك أنه وقع في الضلال. وإذ عضه الندم اعتزل إلى قرب بحر مرمرا ليقدِّم توبة فلم تهدأ نفسه لأن وقع موقفه على الناس أضناه، فعاد إلى القسطنطينية وأخذ يقرع صدره في العلن معترفاً بأنه أخطأ. للحال أوقف واستيق إلى جزيرة القديسة غاليكارية، عند رأس أكريتاس، حيث جرى التنكيل به ست سنوات. صبر على ضيقه، صبراً عجيباً وكان مستعداً أن يكابد كل ما يأتي عليه تكفيراً عن خطيئته وحفظاً للإيمان القويم. ورغم ما كابده في الجسد سمت روحه في فلك المعاينة الإلهية. وقد منَّ عليه الله بموهبة صنع العجائب لصالح أصدقائه الذين كانوا يواجهون المخاطر.
إطلاق سراحه ورقاده: بعد وفاة لاون، عام 820م، عاد السلام وأطلق سراح نيقيتا. الذي حكم على نفسه بالتشرّد الطوعي لأنه لم يجد نفسه أهلاً لأن يعود إلى ديره، فأخذ ينتقل بين الجزر القريبة من القسطنطينية، يعيش إلى ربّه وحيداً،يشدد بصلاته أزر المرضى والمضنوكين. أخيراً استقر في القرن الذهبي المطلُ على القسطنطينية حيث عاش كملاك أرضي. وما إن مضت عليه أشهر قليلة حتى مرض ومات. كان ذلك في الثالث من نيسان من السنة 824م.
القدّيس يوسف ناظم التسابيح (+886م)
أصله صقلّي. انكبّ على قراءة الكتاب المقدّس والتأمّل فيه منذ فتوته. لما سقط موطنه في أيدي العرب المسلمين فرّ وذويه إلى البليوبونيز فإلى تسالونيكي. كان في الخامسة عشرة يومذاك. ترهّب في دير لاتموس وأطاع أباه الروحي طاعة كاملة. سلك في نسك شديد، ينام على الأرض ولا يغتذي سوى بالخبز اليابس والماء ويكتفي من اللباس بأحقره. كان يمضي أكثر لياليه في السجود والترنيم والصلاة. وكان عمل طاعته أن ينسخ المخطوطات. وقد ساهم في جعل ديره مركزاً للخط مرموقاً. سيم كاهناً. انتقل بمعيّة القدّيس غريغوريوس الديكابوليتي إلى القسطنطينية حيث استقرّا في كنيسة القدّيس أنتيباس. كان ذلك طبعاً بإيعاز من أبيه الروحي. في ذلك الوقت شُنَّت حملة عنيفة على المدافعين عن الإيقونات المقدّسة وتحوّلت الكنيسة الصغيرة التي نزلها يوسف مركزاً استقطب المعترفين بالإيمان القويم. أُوفد إلى رومية في مهمّة لدى البابا غريغوريوس الرابع (827 – 844) بقصد إطلاعه على الوضع القائم في الشرق وكسب تأييد كنيسة الغرب للإيمان القويم. أبحر إلى إيطاليا دون أن يأخذ معه شيئاً. في الطريق وقع في أسر قراصنة من العرب وسُجن في جزيرة كريت. خَبِر هناك التسليم الكامل لله. كان عزاء وعوناً للأسرى الذين وجد نفسه بينهم فثبتهم في الإيمان وبثّ فيهم الرجاء إذا كانوا يتعرّضون هناك لصنوف شتّى من التنكيل. كذلك أصلح أسقفاً كان على وشك الوقوع في الهرطقة وهيّأ مؤمناً عامياً للشهادة المجيدة. ليلة الميلاد، فيما رصف في القيود، احتفل يوسف بمجيء شمس العدل إلى هذا العالم منشداً، فإذا بالقدّيس نيقولاوس يتراءى له بهيّاً لامعاً ويدفع إليه رقّاً عليه هذه الكتابة: "أسرع يا رؤوف وبادر لمعونتنا بما أنك رحيم لأنك قادر على ما تشاء" ثم يُنبئه أنه بعد وفاة الإمبراطور ثيوفيلوس، سوف يُطلّق سراحه وأن عليه أن يعود إلى القسطنطينية للعمل على تثبيت الإيمان القويم هناك.
وحلّ اليوم الموعود وعاد يوسف إلى القسطنطينية. رفيقه في مختلاه، القدّيس غريغوريوس الديكابوليتي، رقد فلزم المكان لبعض الوقت ثم انتقل إلى كنيسة القدّيس يوحنا الذهبي الفم. هناك تحلّق حوله العديدون حتى ضاق به المكان فقرّر أن يؤسّس ديراً، غير بعيد من المكان، في موضع قاحل. بنى كنيسة على اسم القدّيس برثولماوس. وإذ رغب في إكرام شفيعه بأناشيد لائقة صلّى وصام أربعين يوماً. في عشية العيد تراءى له القدّيس الذي أخذ الإنجيل الموضوع على المائدة المقدّسة وجعله على صدر يوسف وباركه. مذ ذاك أخذ يتدفق من قلبه، بإلهام الروح القدس، نبع فيّاض من الترانيم والطروباريات لفرح الكنيسة وبنيانها. هكذا تسنّى له أن يكمل عمل المرنّمين الذين سبقوه، فألّف كتاب المعزّي على الألحان الثمانية لأيام الأسبوع استكمالاً لدورة الترانيم القيامية للقدّيس يوحنا الدمشقي (الأوكتوبكوس). كما وضع، إكراماً لعدد كبير من القدّيسين، قوانين وستيخيرات، فأكمل دورة الميناون لكل أيام السنة. على هذا تسنّى للأرثوذكسية المستعادة، بفضل روح الرب فيه، أن تحتفل، بشكل لائق، بأعياد القدّيسين بالإيقونات والترانيم والاحتفالات المقدّسة.
غير أن انتصار الأرثوذكسية هذا لم يخلُ من الغبش، فإن يوسف تحيّز للبطريرك القدّيس أغناطيوس والرهبان الستوديين الذين وقفوا في وجه الوزير برداس بسبب زواجه من امرأة ابنه. فكانت النتيجة أن جرى نفي يوسف إلى شرصونة في الكريمية، سنة 858م، حيث بقي تسع سنوات قضاها في الشكر لله وإتمام عمله الشعري المرموق. فلما تبوّأ باسيليوس الأول المقدوني العرش، سنة 867، استُدعي القدّيس أغناطيوس ومناصروه. فعاد يوسف إلى ديره من جديد وتسنّى له أن ينجز القسم الأكبر من عمله الموسيقي. وكما كان ليوسف تقدير كبير لدى أغناطيوس البطريرك كان له التقدير إيّاه لدى البطريرك القدّيس فوتيوس الكبير الذي دعاه "أب الآباء، المعادل للملائكة ورجل الله". وقد جعله مستشاراً له في إدارة شؤون الكنيسة ومعرّفاً للأساقفة.
وبعدما زيّن القدّيس يوسف الكنيسة بفضائله وأكرم قدّيسيها بأناشيده، اعتزل في ديره ورقد في الرب في 3 نيسان 886م عن عمر بلغ السبعين. هذا ويروى أن أحد أعيان المدينة توجّه في ذلك اليوم عينه الذي توفّى فيه القدّيس يوسف، إلى كنيسة القدّيس ثيودوروس التيروني وصلّى لكي يعينه القدّيس في أمر خادمه المفقود. وبعد ثلاثة أيام تراءى له القدّيس وقال له إنه لم يتمكّن من تلبية طلبه بسرعة لأنه كان مشغولاً، وسائر القدّيسين، باستقبال يوسف المرنّم في السماء بعدما أكرمهم بأناشيد إلهية هذا مقدارها.