القدّيس طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة
القدّيس طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينية (806م):
ولد القديس طاراسيوس حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي لعائلة جمعت رفعة المقام إلى الغنى والفضيلة. أبوه جاورجيوس كان قاضياً محترماً لا غبار علي أحكامه، وأمه أوكراتيا امرأة فاضلة تقية أنشأت ابنها على محبة العلم والفضيلة.
كان طاراسيوس، بما تمتع به من مواهب وسيرة شريفة، موضع إكرام الجميع وتقديرهم. وقد ترقى في سلم المناصب حتى صار قنصلاً، ثم بعد ذلك أمين السر الأول للأمبراطور قسطنطين وأمه إيريني. ومع أن طاراسيوس كان عشير القصر الملكي وعرف أسمى المراتب وكان محاطاً بكل ما يمكن أن ينفخ النفس ويُطِّيب الحواس فإنه سلك سلوك رجل زاهد.
ثلاثة أباطرة، منذ العام 726، كانوا قد حاربوا الإيقونات ولاحقوا مكرميها، لاون الإيصافري وابنه قسطنطين الزبلي الإسم وحفيده لاون المدعو خازاروس. هذا الأخير كان قد تزوج من إيريني التي كانت، في خاصتها، أرثوذكسية وكانت قوية طموحة. رقد زوجها عام 780م بعدما خلّف ولداً اسمه قسطنطين كان عمره يومذاك عشر سنوات. وقد تمكنت إيريني بجدارتها وعلاقاتها الطيبة بالنبلاء من أن تأخذ لنفسها الوصاية على ابنها قسطنطين.
بولس الثالث، بطريرك القسطنطينية يومذاك، كان قد تبوأ السدّة البطريركية في زمن الامبراطور الراحل وكان قد جنح إلى القبول بمحاربة الإيقونات رغم تمتعه بمزايا عديدة طيبة. ويبدو أن ضميره صحا وأراد أن يكفر عن ذنبه فاستقال واعتزل في دير فلورس. ولما جاءته إيريني وابنها محاولين ردّه عن قراره امتنع وتمسك باستقالته. فسألاه بمن يوصي بطريركاً محلة فأوصى بطاراسيوس. ويبدو أنه رقد بعد ذلك بقليل. أما اختيار طاراسيوس فطاب للملكة وابنها ورجال الكنيسة والنبلاء في آن معاً. فلما علم طاراسيوس بما جرى حاول التهرب ولكن عبثاً فرضخ وجرت ترقيته في سلم الرتب الكنسية وصُيِّر بطريركاً في عيد الميلاد من السنة 780م.
أول ما عمله طاراسيوس دعوته إلى مجمع مسكوني يُعيد الاعتبار للإيقونات ويضع حداً للأذى الذي سببته الحرب عليها. كتب إلى أدريانوس، بابا رومية وكذلك إلى بطاركة الإسكندرية وإنطاكية وأورشليم. أدريانوس رحّب وأوفد رسولين. كذلك رحّب البطاركة الباقون، لكنه تعذّر عليهم الحضور بسبب وقوع بطريركياتهم في دائرة العرب المسلمين. إلا أنهم تمكنوا من إيفاد مندوبين عنهم. التأم المجمع، أول أمره، في القسطنطينية في الرابع عشر من آب من السنة 786م لكن اضطرابات أثارها محاربو الايقونات أدت إلى تأجيله وإلى تغيير مكانه. فعاد والتأم في نيقية في أيلول من السنة التالية 787.
عدد المجتمعين من الأساقفة أو المندوبين كان ثلاثمائة و خمسين إضافة إلى العديد من رؤساء الأديرة والكهنة والمعترفين. وقد أعيد الاعتبار للإيقونات وأكد المجتمعون أن الإيقونة مستحقة للإكرام دون العبادة وأن هذا الإكرام موجه إلى المرسوم عليها. طاراسيوس هو الذي رأس الجلسات وقادها بحذر وحكمة. ولما انفض المجمع سعى إلى التعاطي مع الهراطقة برفق ليستعيدهم إلىحضن الكينسة، فاجتنب الإجراءات الصارمة بحقهم مما أثار حفيظة الأرثوذكس المتشدّدين كرهبان دير ستوديون، لا سيما القديسين أفلاطون ونسيبه ثيودوروس المعيّد له في 24 تشرين الثاني. إلى ذلك عمل طاراسيوس بجد على التخلص من السيمونية في سيامة الكهنة ودافع عن حق اللجوء إلى الكنائس وهو القاضي بمنع السلطات المدنية من إيقاف أي كان إذا لجأ إلى الكنيسة واحتمى بالمذبح. على هذا ضرب بالحرم جنوداً أوقفوا عنوةً أحد القضاة المتهمين بتبذير أموال الدولة بعدما لجأ إلى كنيسة الحكمة المقدسة.
هذا وقد كانت سيرة طاراسيوس نموذجاً للكمال في عين الإكليروس والشعب معاً. لم يكن على مائدته ما هو غير ضروري ولا اجتاحت مقر البطريركية مظاهر العظمة كما كان الحال في أيام العديد من أسلافه. لم يسمح لنفسه إلى بالقليل من النوم. الصلاة والقراءة ملأتا أوقات فراغه. كانت متعه له، على غرار معلمه، ان يقوم بخدمة الآخرين بدل أن ينتظر الخدمة منهم. لذا نادراً ما سمح لخدّامه بخدمته. سلك في تواضع القلب وألغي استعمال الذهب والقرمز بين الإكليروس وعمل على استئصال العادات الكنسية السيئة بين الناس. محبته للفقير فاقت سائر فضائله. كثيراً ما كان يرفع أطباق اللحم عن مائدته ليوزعها على الفقراء بيديه. وقد عين لهم دخلاً ثابتاً. وحتى لا يتعرض محتاج إلى الإهمال كان يزور بيوت الفقراء والمصحات بتواتر. إكرامه لهم كان يزيد بشكل ملحوظ في موسم الصوم الكبير. مواعظه كانت حثاً قوياً على التقشف. وكان صارماً بشأن التسليات المسرحية.
ثم إن الامبراطور قسطنطين السادس وقع في هيام إحدى وصيفات الملكة ماريا الأرمنية. اسم الوصيفة كان ثيودوتا. وإذ رغب في التخلص من الملكة ادّعى أنها حاولت دس السم له. قوانين الكنيسة لا تسمح له بالطلاق منها، والكل، بمن فيهم طاراسيوس، كان عارفاً بنواياه. حاول الملك استمالة البطريرك فلم يوافقه. قال للرسل الذين أتوا إليه في هذا الشأن: "لا أدري كيف يمكن للأمبراطور أن يحمل وصمة العار على هذه الفعلة الشائنة أمام الملأ، ولا كيف سيكون بإمكانه أن يمنع أو يعاقب الزنى والفجور إذا كان هو نفسه قد أقام مثالاً سيئاً للآخرين. قالوا له أني مستعد لأن أكابد الموت وكل صنوف التعذيب ولا أوافقه على عزمه". وقد هدّد البطريرك الملك بالحرم إن هو استمر في غيّه. هذا الموقف أثار سخط الأمبراطور فحكم على طاراسيوس بالإقامة الجبرية ومنع أياً كان من الاتصال به، كما ألزم زوجته ماريا بالدخول إلى الدير واستمال كاهناً اسمه يوسف، مدبر الكنيسة العظمى، فعمد إلى مباركة زواجه من ثيودوتا. هذا الحدث، فيما يبدو، شجع عدداً من الحكام ورجال السلطة على الطلاق من زوجاتهم أو حتى على الزواج من أكثر من امرأة كما شجع الناس على الفسق.
طاراسيوس لم يعمد إلى إطلاق الحرم ضد الامبراطور لئلا تكون العاقبة على الكنيسة والشعب أشد وطأة مما كانت عليه. لكن هذا الموقف المتروي لم يمنع الملك من اضطهاد البطريرك بشتى الطرق الممكنة كالتجسس عليه وتقييد حركته بسلسلة من المراقبين الذين أخذوا يتدخلون مباشرة في شؤون البطريركية، وكذا نفي العديد من خدامها. استمرت هذه الحالة سنة كاملة أطيح بقسطنطين في نهايتها. وتمكنت أمه إيريني من وضع يدها على العرش بعدما استمالت العديد من رجالات الجيش والقصر فسجنت الملك وعمدت إلى قلع عينيه فمات بعد مدة قصيرة متأثراً بما جرى.أما طاراسيوس فاستعاد حريته وأصدر حرماً بحق يوسف الكاهن الذي زوّج قسطنطين وثيودونا واستعاد الشركة مع دير ستيوديون وقسم من الشعب بعدما كان القديس ثيودوروس الستوديتي قد قطعها معه بسبب تمنعه عن قطع الامبراطور.
ثم أن نيقيفورس الأول (802 – 811) تمكن من انتزاع العرش من إيريني. في أيامه استعادت الكنيسة سلامها. أما طاراسيوس فبعد أسقفية دامت اثنين وعشرين عاماً مرض مرضاً طويلاً مؤلماً، لكنه اعتاد إقامة الذبيحة الإلهية كل يوم متكئاً على عصاه. وقد ورد أنه لما أشرف على الموت دخل في صراع مع الشيطان الذي اتهمه بخطايا لم يرتكبها. وإذ كان ضميره مرتاحاً لدى الله أزاح الشيطان بيده لأنه لم تكن له بعد طاقة على الكلام. رقد في الرب في التاسع من آذار 806م. ودّفن في العاشر منه في ديره. الزيت المشتعل فوق ضريحه ظهر شافياً للعديدين. بعد ذلك بسنوات، وبالتحديد في سنة 820م، لما كان الامبراطور لاون الخامس الأرمني يدعم محاربي الإيقونات ظهر له طاراسيوس في الحلم وأمر شخصاً واقفاً بجانبه اسمه ميخائيل بطعنه بالسيف. بعد ستة أيام قُتل لاون بيد شخص اسمه ميخائيل استولى على عرشه. يذكر أن هيئة القديس طاراسيوس كانت تشبه هيئة القديس غريغوريوس اللاهوتي.