القديس لاون بابا رومية
القديس لاون بابا رومية (+461م(:
معلوماتنا بشأنه، قبل ارتقائه سدة الأسقفية، شبه معدومة.
عائلته، فيما يبدو، توسكانية الأصل. ولد في رومية أواخر القرن الرابع الميلادي، وفق التقديرات، وانضم إلى مصاف الإكليروس في وقت مبكر من شبابه.
صار رئيس شمامسة كنيسة رومية فأتاحت له وظيفته الخوض في القضايا الكنسية المطروحة في زمانه، وكذا الجدل العقائدي المستعر آنذاك. اثنان أُعطي لهما لقب "الكبير" في كنيسة الغرب، لاون الأول وغريغوريوس الأول (540 – 604م)، وكلاهما قديس في الكنيسة الجامعة، سلك لاون كبيراً من أول السلم، كما لاحت صورته. وثمة ما يشير إلى أن تأثيره كان واضحاً على سيكستس الثالث، أسقف رومية السابق له، وفي الشؤون الكنسية بعامة، وكذا في العلاقات الدبلوماسية. ويبدو أنه كان في مهمة دبلوماسية في بلاد الغال (فرنسا)، سنة 440م، حين جرى انتخابه أسقفاً على رومية، إثر وفاة الأسقف سيليستين.
ثلاثة ميّزت سيرته بعامة واستمرت بعد تبوئه السدة الأولى في كنيسة رومية:
1- حرصه على دحض الهرطقات،
2- سعيه إلى توطيد السلام والنظام في كنيسة المسيح.
3- انتهاجه سبيل الوساطة في التعاطي مع المتخاصمين.
هذا وإن الحقبة التي عاش لاون فيها كانت حساسة وخطرة لا سيما وأن الشطر الغربي من الإمبراطورية كان، يومذاك، في طور التداعي تحت وطأة غزوات القبائل البربرية. الغرب كله كان على مشارف عهد جديد غير محدد المعالم.
تحديات جمة واجهته، في مستوى المتغيرات العسكرية والسياسية أولاً، وفي مستوى الهرطقات المبثوثة هنا وثمة، وفي مستوى الوثنيات الشائعة في فكر العباد وأخلاقهم وممارساتهم، وفي مستوى النظام الكنسي والحياة الرهبانة وفي مستوى الرعاية والعلاقة بكنيسة الشرق. وقد نجح هذا الحبر الفذ في الجمع بين الصرامة والرأفة. شخصياً كان مثالاً يحتذى، لا غبار عليه. أول ما سعى إليه كان التجديد الإكليريكي وتوطيد النظام في كنائس أفريقيا وصقلية بعد هجمات قبائل الفندال. دعم أسقف سالونيك وما إليها إذ كانت بعد من توابع الكرسي الرومي. حال دون انفصال كنيسة الغال. تصدى لعبث المانوية والبيلاجية، وكلتاهما هرطقة شاعت في زمانه. اهتم بالنظام الطقوسي ورعى الشعب والكهنة بالوعظ والتعليم والمثال الطيب.
وأولى بناء الكنائس وتزيينها وتشييد المضافات أهمية بينة.
وأكثر ما برز اسمه في مجال الحرص على سلامة العقيدة. دوره في دحض هرطقة أفتيشيس القائل بطبيعة الرب يسوع الواحدة بعد التجسد كان بارزاً. هو الذي أطلق على مجمع أفسس الهرطوقي المنعقد سنة 449م صفة "اللصوصي".
وإليه تعود الرسالة التي وجهها إلى فلافيانوس القسطنطيني والتي كان لها أكبر الأثر على المجمع المسكوني الرابع المنعقد في خلقيدونية سنة 451م في زمن مرقيانوس وبلخاريا. ورد في الرسالة، فيما ورد، "أن الكائن نفسه الباقي في صورة الله صار إنساناً في صورة عبد لأن كلاً من الطبيعتين حفظت خواصها بدون تغيير أو نقص.
وكما أن صورة الله لا تنفي أو تزيل صورة العبد، هكذا صورة العبد لا تعطل صورة الله...ابن الله ينزل من كرسيه في السماء دون أن يبتعد عن مجد الآب ويدخل في هذا العالم الأدنى مولوداً على صورة جديدة بأسلوب جديد في الولادة. لأنه وهو في دائرته الخاصة غير منظور صار في دائرتنا منظوراً، والذي لا يمكن حصره في مكان رضي أن يكون محصوراً. ومع أنه ما زال هو هو قبل الأزل بدأ وجوده في وقت محدود ....الله غير المتألم لم يرفض أن يكون إنساناً متألماً. والذي لا يعتريه موت رضي أن يخضع لشرائع الموت....ولا يعني عجب ولادة ربنا يسوع المسيح في بطن العذراء أن طبيعته تختلف عن طبيعتنا، لأنه هو نفسه إله حق وهو أيضاً إنسان حق...الكلمة لا يتخلى عن المساواة في المجد، والجسد لا يتجرد من طبيعة جنسنا....الذي جرب وهو انسان بحيلة إبليس هو نفسه تقوم الملائكة بواجب خدمته كإله. الجوع والعطش والتعب والنوم، كل هذه من دلائل ناسوته، ولكن إشباع خمسة آلاف بخمسة أرغفة....كان ولا شك من خواص اللاهوت. لا يمكن أن ينسب إلى طبيعة واحدة أن تبكي بشعور الحزن على صديق مات وأن ينسب إليها هي نفسها إقامته بصوت الآمر....لا يمكن أن ينسب إلى طبيعة واحدة بعينها قوله "أنا والآب واحد "وقوله" أن أبي أعظم مني"...يجب أن نؤمن أن في المسيح لا يكون الناسوت بدون اللاهوت الحقيقي ولا اللاهوت بدون الناسوت الحقيقي..." بعد قراءة الرسالة على آباء المجمع الخلقيدوني هتفوا: هذا هو إيمان الآباء، هذا هو إيمان الرسل. هكذا كلنا نؤمن وهكذا يؤمن المستقيمو الرأي. فليكن كل من لا يؤمن هكذا مبسلاً. إن بطرس يتكلم بفم لاون. هكذا علم الرسل....وهكذا علم كيرللس. هذا هو الإيمان الحقيقي.
وقد أورد يوحنا موسكوس (550 – 619م)، صاحب المرج الروحي، نقلاً عن الأنبا ميناس، رئيس دير توغارا، أنه سمع الأنبا أفلوجيوس، بطريرك الاسكندرية، يقول إنه لما خرج إلى القسطنطينية سمع غريغوريوس، رئيس شمامسة رومية، وهو من أهل الفضل، يقول عن القديس المغبوط لاون، بابا رومية، أنه مكتوب عنه في كنيسة رومية أنه لما كتب إلى القديس فلافيانوس، بطريرك القسطنطينية، بشأن أفتيشيس ونسطوريوس الجاحدين، وضع الرسالة على قبر القديس بطرس الرسول، وانصرف لتوه إلى الصلاة والصيام وافتراش الأرض سائلاً إياه العون قائلاً: "إذا كنت، وأنا إنسان، قد ارتكبت خطأ، فانت، الذي أوكل إليه السيد الإله ومخلصنا يسوع المسيح الكنيسة وهذا الكرسي، أصلحه". وانقضى أربعون يوماً، ظهر له الرسول في ختامها، وهو يصلي، وقال له: "قرأت وأصلحت".
فأخذ لاون الرسالة من على ضريح القديس بطرس وفضها فوجدها مصلحة بيد الرسول. وفيما كان الشرق يومها مسرحاً لصراعات لاهوتية غيرت مجرى التاريخ وطبعت بطابعها واقع الكنيسة الجامعة إلى زماننا الراهن، كان الغرب مسرحاً لأحداث عسكرية وسياسية كان لها أعمق الأثر عليه، أيضاً إلى يومنا الحاضر. فلقد اجتاحت قبائل الهانس، بقيادة أثيلا، كلاً من ألمانيا وبلاد الغال، مخلفة الموت والدمار، ثم عبرت الألب ونهبت ناحية ميلانو وأخذت تهدد رومية. إذ ذاك اتجهت أنظار الامبراطور الرومي ومجلس الشيوخ والشعب إلى لاون عساه، كما اعتادوا عليه، يخرج في مهمة وساطة سلامية لدى الغازي البربري فيتحول عن المدينة.
واستجاب أسقف الغرب الأول بعد الصلاة والصيام وخرج باللباس الحبري على رأس موكب مهيب من الكهنة والشمامسة وهم ينشدون الأناشيد الكنسية. وإذا بأتيلا وبرابرته الذين توقعوا مواجهة عسكرية، يواجهون منظراً غريباً كان له أبلغ الأثر في صفحهم عن المدينة وتحولهم عنها. قابل أتيلا لاون بوقار لا مبرّر ظاهرياً له واكتفى من رومية بجزية مالية فرضها عليها. ولما سأله برابرته ما الذي حدا به إلى هذا الموقف المتسامح على غير ما عهدوه اعترف ولم يخف أنه فيما كان لاون مقبلاً إليه رأى بجانبه رجلاً مهيباً حاملاً بيده سيفاً مسلولاً أثار في نفسه الرعدة. هذا الشخص، وفق الظنون، كان إياه الرسول بطرس. للحال تغير قلب أثيلا وأحسن وفادة الموكب وصنع لهم سلاماً.
هكذا بدا لأهل المدينة عبر الأجيال انهم خلصوا بصورة عجائبية من هلاك محتم. غير أن المدينة تعرضت للنهب بعد سنوات، عام 455م، بسبب خطايا بنيها، لما أتى عليها الفاندال الخارجون من إفريقية، بزعامة جنسريك. هنا أيضاً تسنى للاون، بعون الله، أن يقوم بدور مبارك فأقنع الغزاة بالعنف عن الفتك بالسكان وإحراق المباني والاكتفاء بما نهبوه وسوق العديدين عبيداً لهم. هؤلاء عمل لاون على توفير الحسنات والكهنة لخدمتهم حيث أحلهم الغزاة في إفريقية. بعد ذلك انصرف لاون إلى الرعاية على أوسع نطاق، فعزى الملهوفين واحتضنهم وجمع شملهم ورمم الكنائس المنكوبة وعمل على استعادة المدينة والحياة الكنسية، ما أمكن. وقد استمر إلى نهاية حياته يرعى ويعمل على ضبط النظام في كنيسة المسيح ويحفظ الإيمان القويم إلى أن رقد بالرب سنة 461م بعد واحد وعشرين عاماً من الأسقفية المخصبة. يُذكر أنه بقيت لنا من القديس لاون مئة وثلاث وأربعون رسالة وسبع وتسعون عظة ونصوص شتى بينها نصوص ليتورجية.