شرعة حقوق الإنسان تستمد جذورها من منطق إنجيلنا…
كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر
في كاتدرائية المخلص، موسكو
الزيارة السلامية إلى بطريركية موسكو وسائر روسيا
صاحب القداسة،
أحبّتي بالمسيح المولود والمتجسدِ من أجل خلاصنا،
يطيب لي أنا الآتي من أرض تلاميذ يسوع الناصريّ أن أنقل لأحبّة يسوع في كنيسة موسكو وكلّ روسيا طيبَ السلام بمولد طفلِ السلام.
أنا موافٍ إليكم من أنطاكية التي نحتَتْ للعالم كلّه اسم "مسيحيين" وأطلقته نغماً يغزو الكيان.
أنا موافٍ إليكم من الشارع المستقيم في دمشق،
أنا موافٍ إليكم من زنبيلة بولس التي لثمت سور دمشق ومنه اكتسحت أسوار المدن وثلَمت أفئدة الناس ببشارة يسوع المسيح.
آتيكم من كنيسة أنطاكية التي أبزغت إلى النور يوحنا الذهبي الفم وأفاضت للمعمورة المعترفين والأبرار.
آتيكم من أنطاكيةِ بولس وبطرس وملاتيوسوثيوفيلوسورومانوس وأفرام ويوحنا الدمشقي،
آتيكم إلى كنيسة موسكو وأسجد وأكرم وإياكم بقايا القديس سرجيوس وأنحني أمام عظمة إيمان هذا الشعب الذي أنبت من رحم إيمانه وغزير تقاه آباء مغاور كييف وشهداء الأزمنة الأخيرة ووداعة القديس سرافيم ساروف الذي استوطن قلوبنا كباراً وصغاراً في أنطاكية.
أوافيكم، ومن معي من الآباء والإخْوة، لأُشعل قلبي جذوة صلاةٍ تذوب مع شموع مؤمنيكم ونفحة بخورٍ تتنسم رضا الرّب وتسأله بشفاعة البتول مريم وكلّ قديسيه أن يحفظ كنيسة روسيا وشعبها الطيب، وأن يسبغ على كنيسة أنطاكية وشعبها سلامه الإلهي ويديم سلامَه في كلّ البسيطة.
بين أنطاكية وموسكو أُخوّة الإيمان التي لا تُنيخها الأيام ولا تكسرها وِهاد التاريخ. بينهما أخوة الإيمان المعتصرةِ بحب يسوع والمختمرة بتعاليم رسله والمعجونة بدم الشهداء. هذه الأُخوة هي كخمرِ قانا الجليل الذي لا يزيده العتق إلا حلاوةً.
وهذا الخمر يجود ويحسن بحضور يسوع الذي يملأ قوارير نفوسنا سواء في موسكو أو في أنطاكية بباهي حضوره العذب ويسقينا دوماً من إكسير خلاصه الإلهي، أعني أسراره الإلهية، مشدداً إيانا في وحدة الإيمان وقوة التناغي.
وأُخوة الإيمان بين الشقيقتين تنجلي في كلّ الأزمنة نبعاً دفاقاً محبة من كلّ منهما تجاه الأخرى وعرفاناً متبادلاً وحنواً وعوناً وأزراً مهما كلح وجه الزمن، وما الأيام الحاضرة والظروف الآنية والزيارة الحاضرة إلا شاهدٌ على عتاقة المحبة بالمسيح الرّب.
بين أنطاكية وموسكو أخوةٌ دمغتها قوة التقليد وحب الآباء والعمل البشاري.
أنطاكية أوفدت لأختها المطران مخائيل السوري في أواخر القرن العاشر الذي عمّد كثيرين. وساهمت بعد ذلك في منحها الرتبة البطريركية على عهد سلفنا البطريرك يواكيم في القرن السادس عشر. ولعلّ من جمالات التاريخ أن يصادف يوم وجودنا في موسكو ذكرى تنصيب البطريرك أيوب أول بطريرك على الكنيسة الروسية في 26 كانون الثاني 1589.
وليس هذا مدعاةَ افتخارٍ بل مقدمةً لطيب علاقة استمرت ومستمرةٍ بعون الله.
وكنيسة موسكو كانت لأختها الأنطاكية خير معين. فـ "بلاد المسيحيين" في عُرف سلفنا البطريرك مكاريوس بن الزعيم هي روسيا. وهذه الأخوة تجلت واقعاً معاشاً في كثير من أبرشياتنا وأديرتنا عبر المدارس الروسية أو "الموسكوبية" أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وكلّ هذا يؤهلنا أن نقول أن أجراس ونواقيس أنطاكية وموسكو عزفت وتعزف وستعزف دوماً لحن أخوةٍ ووحدة حالٍ مهما قست ظروف التاريخ ومهما اعتصرت أفراحاً وأتراحاً على الجميع.
وهذه الأخوّةُ، عرفناها فيكم أيها الأخ الحبيب، أنتم المعروفون بتحدّركم من عائلةٍ ورثت تقى الأجداد وعاشته، والضالعون بمعرفة اللاهوت قولاً وفعلاً وبتجسيدكم إياه مواقفَ إنسانيةً وحضوراً مميزاً.
صاحب القداسة،
عندما تلتقي أنطاكية وموسكو تنتفي مسافات الجغرافية ويذوب اختلاف اللغات في بوتقة لغة المحبة. ولغة المحبة هي المولجةُ حكمَ العلائق بين سائر أغصان كرمة المسيح الأرثوذكسية التي سقاها دمه الكريم.
نصلي ونعمل دوماً ليعملَ منطقُ إنجيلك يا يسوع بين ثنايا أرثوذكسيتنا فنشهدَ لوحدتنا بك بعيشنا إياها بمنطق سلطة المحبة.
نصلي ونعمل أيضاً ليكون إيماننا الأرثوذكسي مرآةً تعكس وجه بارينا وليكون أساسَ وحدتنا الأرثوذكسية والمسيحية سعيُنا للتقرب والاتحاد بالله.
الوحدة الكنسية على المستوى الأرثوذكسي ضرورةٌ تنجلي عبرها استقامة الرأي Orthodoxy وتستبين علناً عبر استقامة الفعلOrthopraxy، وبعيشنا تلك الأخيرة نعطي شهادةً أرثوذكسية عمليةً للآخرين.
والوحدة المسيحية على الصعيد المسيحي عموماً هي شهادةٌ حيةٌ وملموسة لبشارة يسوع المسيح في عالم اليوم وختمٌ دامغ لبنوتنا لله الذي ندعوه كلنا، نحن المسيحيين، أباً. أما الوحدة المسيحية مع إخوتنا الكنائس الشرقية اللاخلقيدونية، فهي، عدا عن كونها، تصحيحاً لرواسب التاريخ، شهادةٌ مسيحية مشرقيةٌ تجمع مسيحيي المشرق في بوتقةٍ واحدةٍ وتشهد بحقٍ للرب يسوع الذي تجسد في أرض المشرق ومنها خرجت رسالته للدنيا.
عرفَ تقليد الكنيسة ما نسميه زيارةً سلاميةً. وقد افتقدتم كنيسة أنطاكية وشعب ديارنا بزيارةٍ سلاميةٍ يوم غادرنا كثيرون بحجة حقوق الإنسان المنتهكة.
كُنْتُمْ سفراء سلامٍ في الوقت الذي غادر فيه سفراء كثيرون. نحن بينكم اليوم، كما وافيتمونا قبل سنتين، سفراءُ سلام وتلاقٍ.
شرعة حقوق الإنسان تستمد جذورها من منطق إنجيلنا ونحن المسيحيين العرب كنا من بين أولئك الذين سَكبوها على صفحات الكتب، لكننا نرفض أن تجيّرَ وتستخدم أداةً لطحن إنسان هذا المشرق في الصراعات والمصالح.
شرعة حقوق الإنسان لم يضعها الإنسان وضعاً، بل هي كما يدل اسمها، Declaration "استعلان" أو "تصريح" أو "إقرار" بما وضعه وغرسه الله في الفطرة الإنسانية من مبادئ وتعاليم وليست فقط قوانين ميثاقية بشرية.
من هنا، هذه الشرعة وجدت لأجل خير الإنسان، ولخير البشرية لا لتستخدم لأغراضٍ أخرى.
افتقدتمونا في دمشق وفي الدار البطريركية تحديداً والقلاقل كانت تطل برأسها على مشرقنا، ونوافيكم اليوم وقدأخذالإرهاب الآثم المدان بالتسلل إلى بلادنا وبلادكم. نطلب ونضرع إلى طفل المغارة أن يسربل بوشاح سلامه الحق ديارَنا ودياركم ويمسح إنسانها بروحه القدوس.
نحن في روسيا الآن وقلبنا يتشظّى على ما يحدث في سوريا وينبض صلاةً من أجل السلام فيها وعودة الاستقرار إليها، ويخفق حباً ودعاءً بحفظ لبنان وصونه من فراغ السلطة.
نحن هنا، وفلسطين والعراق ومصر وإنسانُ مشرقنا فلذةٌ من كبدنا. أسمَوه "ربيعاً عربياً"!
أعود وأجدّد قولي من موسكو؛
" - ربيع ديارنا هو لقيا الآخر والنهوض معه بأعباء الدنيا.
- ربيع إنساننا أن يجد في أخيه في الإنسانية غنى الآخرِ لا وجه التضاد.
- ربيع مشرقنا هو قلب ذواتنا لنرى في الآخر وجه الله لا قلبُ الموازين للاستقواء عليه.
- ربيع سوريا أن يلتقي الإخوة في حوار صادقٍ وغير مشروطٍ رأفةً بإنسان سوريا المعذب.
وهذا الحوار الصادق هو بلسم الشفاء لسوريا وسبيل الحفاظ أيضاًعلى لبنان آمناً مستقراً."
نحن هنا في موسكو وفي عروقنا دماء الإنسان المشرقي الذي يضربه الإرهاب والتكفير. نحن مسيحيي تلك الديار شركاء المواطنة مع كل أطياف أرض المشرق.
مسيحيتنا الحقة شريكة الإسلام السمح وطناً وعيشاً مشتركاً، لكننا لم نكن أبداً في شراكةٍ مع أي فكر تكفيريٍ.
نحن نرى في الآخر غنىً والتماعاً لوجه الحي الباقي.نحن باقون في أرضنا ومتجذرون فيها.
لم تعرف المسيحية الحقة ولا الإسلام السمح يوماً من الأيام في الدين مدعاةً للفرقة بل سبيلاً تنتهجه جبلة التراب لتلتمس وجه البارئ.
المسيحية والإسلام الذي نعرف هما اللذان عاشا ويعيشا حتى الآن، ورغم المصاعب الحاضرة، أخوةً وانصهاراً في ديار المشرق.
المسيحية والإسلام الذي نعرف لا يعرفان منطق الأقلية والأكثرية بل منطق التكامل والتشارك ومنطق الوطن والعيش الواحد ضماناً لخير كلٍّ منهما.
نحمل إليكم، أيها الأخ الجليل، هموم إنسان ديارنا. ونضع أمام عذراء فلاديمير كل أثقال إنساننا. نضع أمام أخوّتكم وأمام شعبكم الطيب قضية المخطوفين، ومنهم أخوانا المطرانان يوحنا وبولس والكهنة القابعين في الأسر، كما نضعها أمام المجتمع الدولي بأكمله.
ونشعلُ قلوبنا صلاةً أمام عذراء فلاديمير ونضم ضَرَعاتنا إلى أدعية إخوتنا المؤمنين ههنا من أجل راهبات معلولا ويتاماها ونرفع الصوت عالياً: كفى ازدراءً بكل نبيلٍ في أرضنا وكفى تغنياً وترثياً وتباكياً على إنسان مشرقنا، وكفى تبشيراً بشعاراتٍ هي بالمبدأ رائعةٌ ومثاليةٌ لكن تطبيقها العملي زيْفٌ وسرابٌ وبهتان.
وفي الختام، أتوجه بالشكر لفخامة الرئيس فلاديمير بوتين ولكم يا صاحب القداسة وإلى كلّ روسيا، حكومةً وكنيسةً وشعباً، على كلّ ما قدمتم وتقدمونه لخير كنيستنا وشعوبنا ولإرساء السلام في بلادنا وبلسمة جراح إنسان مشرقنا المعذب.
وما المساعدات الإنسانية التي تدفقت إلى بلادنا من شعبكم الطيب، في الآونة الأخيرة، إلا برهانٌ صادقٌ على عمق هذه الأخوة.
أشكركم على دعوتكم الكريمة، وأطلب من الرّب الإله بشفاعة البتول الطاهرة أن يكتنفكم جميعاً بفيض رأفته ويجزل عليكم من معين خيريّته.
في سنة ١٩٠٢ أهدى القيصر نيقولا الثاني لكنيستنا الأنطاكية ثريّتين تضاءان بالشموع لإنارة كنيستي ديرالبلمند في الكورة، لبنان ودير صيدنايا قرب دمشق في سوريا. والآن وبعد أكثر من مائة عام لا تزال هاتان تُضاءان وتجمعان قلوب المؤمنين في أنطاكية وروسيا في صلاة متقدةٍ إلى الرّب القدير أن يضيء قلوبَنا بسنا سلامه وأن يحمي روسيا وسوريا ولبنان والمشرق والعالم برمته، هو المبارك والممجد أبد الدهور آمين.