الكتاب المقدَّس وعيشه في الليتورجيا
الكتاب المقدَّس وعيشه في الليتورجيا
غبطة البطريرك يوحنا العاشر (يازجي)
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
قبل أن أتكلم عن العلاقة بين الكتاب المقدَّس والليتورجيا، قد يكون من المفيد أن أعرِّف ما هي الليتورجيا أولاً ثم ما هو الكتاب المقدَّس ثانياً وبعد ذلك نتكلم عن عيش الكتاب المقدَّس في الليتورجيا.
أولاً: الليتورجيا (بشكل مختصر وسريع) هي العبادة الالهية أي الخدم الالهية والأسرار التي بها نأخذ المسيح يسوع بملئه، في سيرة حياته، بالأعياد والمناسبات التي نقوم بها في الكنيسة المقدسة: كعيد الميلاد، الظهور الالهي، التجلي... والتي نتذكر فيها حياة المسيح على الأرض. وكذلك في الأسرار الالهية التي تشركنا وتدخلنا في المسيح يسوع بشكل حقيقي وفعلي، وفي الافخارستيا (سر الشكر) بشكل خاص تقدم لنا المسيح يسوع بجسده ودمه الكريمين. فاللتورجيا هي إذاً الصلوات والطقوس التي نمارسها خلال السنة الطقسية بكل أدوارها، سواء كان في الدور اليومي في صلواتنا اليومية، أو في الدور الاسبوعي كما هي الصلوات الموزعة على الأسبوع، أو في الدور السنوي.
في الليتورجيا يطل علينا الرب يسوع بشخصه بكل ما في الكلمة من معنى وليس على سبيل الرمز أو التصوّر أو الوهم. يطل بوجهه الحبيب علينا، ونشترك معه، ندخل في سر آلامه وموته وقيامته، فنموت معه بالحقيقة في الليتورجيا عن انساننا العتيق الباطل القديم، ونقوم معه كلٌّ منا شخصاً جديداً في الرب بكل ما في الكلمة من معنى. هذه هي الليتورجيا... هي هذا الفعل الذي يدخلنا إلى المسيح يسوع، يشركنا في الحياة التي بالمسيح يسوع بالحقيقة، فنشارك المسيح في آلامه التي احتملها على الصليب ونقوم معه بالحقيقة حاصلين على كل الخيرات التي نبعت من الصليب القيامة والحياة والخلاص...
أما الكتاب المقدَّس فهو أهم إعلانات الله الخلاصيّة للبشر، دوّنه بشر هم الرسل رجال الله القدّيسين، بإلهام الروح القدس بالطبع. وكلمة الله هو الرب يسوع، فالكتاب المقدَّس، نستطيع أن نقول، بأنه سرد خلاصيٌّ محوره قيامة الرب يسوع الذي هو كلمة الله...
الليتورجيا تقدّم لنا الرب يسوع والكتاب المقدَّس هو كلمة الله... هو الرب يسوع أيضاً... وبعد قليل سأتكلم عن هذا الموضع وأقف عنده قليلاً...
مما سبق نجد أن الكتاب المقدَّس والليتورجيا لا يتكلمان عن موضوعين منفصلين، الكتاب المقدَّس يقدم ما تقدمه الليتورجيا... هناك سر التقوى العظيم الذي يتكلم عنه الرسول بولس (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 3:16 ) الذي هو الرب يسوع، وحول هذا السر يتمحور الكتاب المقدَّس وكذلك الليتورجيا... نتكلم عن الرب يسوع سر التقوى العظيم، الذي ظهر عند ملء الزمان لأجل خلاصنا، فالليتورجيا تعطينا الرب يسوع، والكتاب هو كلمة الله أي الرب يسوع.
وهكذا فالحقيقة هي واحدة: الرب يسوع الليتورجيا والكتاب المقدَّس والصلوات والأصوام والأسهار والآباء القديسين وكل التقليد وكل الحياة في الكنيسة هي أوجه متعددة لفعل ولخبرة الروح القدس في الكنيسة، في حياة الآباء القديسين، في حياة المؤمنين الذين يختبرون الحياة مع الرب يسوع المسيح الذي هو السر الأوحد، الألف والياء، الأول والأخير في حياتنا...
والآن سأعرض بعض الأفكار عن الترابط أو اللحمة أو العلاقة الصميمية التي بين الكتاب المقدَّس والليتورجيا... يشكل الكتاب المقدَّس بالنسبة إلى الليتورجيا المصدر الأول والأهم لها وسنعطي أمثلة عن ذلك: نلاحظ أنَّه في صلوات نصف الليل والسحر والساعات والغروب والنوم والقداس الإلهي والأسرار يوجد محطة أساسية هي الكتاب المقدس. كلنا نعرف مثلاً أن بداية القداس تكون بِ «مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس..» وبعدها مجموعة من التسابيح والترانيم «بشفاعات والدة الاله...» وما يليها ثم يتم الدخول الصغير، وبعد «قدوس الله» تأتي الرسالة والانجيل... ففي تركيبة خدمة القداس والافخارستيا هناك جزء أساسي أن تتلى مقاطع من الكتاب المقدس، من العهد الجديد: من الأناجيل ومن أعمال الرسل والرسائل...
فنلاحظ أن الكتاب المقدَّس هو جزء أساسي من الليتورجيا... وهنا لا بد من قول ملاحظة جانبية ألا وهي انه في القرون الأولى في الكنيسة كان يتلى أكثر من نصين في القداس الالهي، نحن عادة نقرأ مقطعاً من الرسالة (أو أعمال الرسل) ومقطعاً من الانجيل، ولكن قديماً كان يتلى أربعة أو خمسة نصوص: اثنين من العهد القديم (من التوراة والأنبياء) وثلاثة من العهد الجديد (وهذا كان يتم في إنطاكية في بلادنا)... وفيما بعد بدواعي الاختصار رّتب أن يتلى مقطعان فقط...
نلاحظ أيضاً أنَّه يوجد مقاطع تسبيحية، أي تسابيح وتراتيل، مأخوذة كما هي واردة في الكتاب المقدس، نذكر بعض أمثلة.
ترنيمة نعرفها في صلاة الغروب: «الآن أطلق عبدك يا سيد، حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجه كل الشعوب...» وهي تسبيحة سمعان الشيخ عندما اقتبل المسيح على ذراعيه عند دخوله إلى الهيكل (لوقا 2:29 ). وأيضاً «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع أمته..» التي نرتلها في صلاة السحر ونرتل معها: «يا من هي أكرم من الشيروبيم...»، هذه مقاطع من العهد الجديد أخذت كما هي بحرفيتها واستعملت في الليتورجيا. إذاً يشكل الكتاب المقدَّس والعهد الجديد، بشكل خاص، مصدراً رئيسياً لليتورجيا.
دعونا نتأمل أيضاً في الأعياد التي نعيّدها في سنتنا الطقسية... هناك أعياد تخص السيِّد ونسميها الأعياد السيدية مثل عيد الميلاد والظهور الإلهي والفصح... وهناك أعياد نسميها الأعياد الوالدية التي تخص والدة الإله مثل رقاد السيِّدة وميلاد السيدة، وهناك أعياد القديسين على مختلف مراتبهم من شهداء ورؤساء كهنة وأبرار... فإذا نظرنا إلى تركيبة الأعياد نلاحظ ن جذورها نابعة من الكتاب المقدس... فالأعياد السيدية مثلاً أخذناها من الأناجيل وأعمال الرسل... فمثلاً عندما نعيّد للظهور الإلهي فإننا نقيم تذكاراً للحدث الإلهي الوارد في العهد الجديد عندما أتى المسيح واعتمد من يوحنا في الأردن... وكثير من القديسين الذين نعيّد لهم هم أشخاص ورد ذكرهم في العهد الجديد.. ونعيد للأنبياء ولكثير من القديسين الذين ورد ذكرهم في العهد القديم..
فالتقويم الطقسي إذاً أو الروزنامة الطقسية مبنية على أساس الكتاب المقدَّس لأنَّها أساساً تقوم على سيرة حياة السيِّد التي عاشها عندما ظهر كبشر في الهيئة وتجسد من مريم العذراء لأجل خلاصنا.
إذا تأملنا في الأسبوع العظيم... آلام السيِّد وصلبه ودفنه وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السموات وارسال الروح القدس... من أين جئنا بهذه الأعياد؟ الخميس العظيم والصلب وخدمة الآلام (الاثني عشر انجيلاً) والجناز يوم الجمعة، سبت النور والانحدار إلى الجحيم، والقيامة يوم أحد الفصح... هذا التسلسل لم يرتجل وانما جاء من الكتاب المقدس، من العهد الجديد، ما دوّن عن السيِّد وما عُرف عنه في التقليد أيضاً في الكنيسة.
عندما نتكلم عن الكتاب المقدَّس كمصدر لليتورجيا فلا بد لنا أن نذكر الأعراف الكنسية الليتورجية الموجودة والمتبعة في الكنيسة والتي مصدرها الكتاب المقدس: مثل الصيام والصوات وأوقات الصلوات وغيرها. نرى أن الممارسات الجهادية الروحية، التي لها طابع صلاتي عبادي وطقسي، ترد في الكتاب المقدس... فالرب يسوع نفسه صام، رجال الله في العهد القديم والرسل في العهد الجديد كلهم صاموا، ونحن أخذنا عنهم هذا الأمر، أي أن نصوم وكيف نصوم...
كما أن اللغة الليتورجية واللغة الطقسية مأخوذة من الكتاب المقدس، نقول مثلاً: المعمودية، الميرون، المسحة، الافخارستيا، سر الشكر، مائدة الرب... وما إلى ذلك من تعابير طقسية. فكل هذه التعابير أو لنقل «القاموس الليتورجي» مصدره من الكتاب المقدَّس، وأكثر من هذا... فالكثير من الخدم، مثل سر الشكر والمعمودية والميرون، نتممها كما تممها الرسل، كما حفظ من حياة الرب يسوع والرسل في العهد الجديد ونحن الآن نتمم ما تسلمناه من الرسل، الذي تسلموه هم من الرب يسوع.
كيف نتمم الافخارستيا؟... المسيح جلس مع تلاميذه في العشاء السري وقال لهم: اصنعوا هذا لذكري... ويقول في أعمال الرسل: «وكانوا كل يوم يواظبون على كسر الخبز (أي القداس الالهي) وعلى الصلوات وعلى التعليم...» فالرسل إذاً أقاموا الافخارستيا منذ البدء، ودونوا لنا الأمور التي كانوا يتممونها، ونحن أخذنا منهم، ونتمم حالياً ما تمّموه هم وما تسلموه من السيد...
ولهذا يقول الرسول بولس: «لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً: «ان الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً وشكر... وكذلك الكأس أيضاً... فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» ( 1 كورنثوس 1:23).
إذا قرأنا الاصحاحان 11 و 14 من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، نرى الرسول بولس يتكلم عن موائد المحبة، وعن الافخارستيا (سر الشكر) التي كانت تتم آنذاك، ويعطي بعض التوصيات بخصوص ذلك. فطقوسنا كسر الشكر والمعمودية وغيرها متجذرة في الكتاب المقدس. وانطلاقاً من المعطيات الليتورجية الواردة فيه، وبشكل خاص العهد الجديد، بنيت الخدمة الحالية التي نقيمها في أيامنا. ومن خلال ملاحظات الرسول الواردة أعلاه نلاحظ وجود قراءات كتابية أي مقاطع مأخوذة من الكتاب بحرفيتها، وهكذا نرى الكتاب المقدَّس مصدراً أساسياً لليتورجا.
ثانياً: يجدر بنا هنا أن نذكر أن الليتورجيا قد أّثرت أيضاً في نص الكتاب المقدَّس فالليتورجيا حفظت كلمة الله، وعندما دوَّن نص الكتاب المقدَّس كان لليتورجيا المعاشة في الجماعة المؤمنة تأثير في صياغة ما دوِّن، طبعاً، بإلهام الروح القدس وسوف أعطي مثالاً مهماً على ذلك.
هناك ثلاثة مقاطع في العهد الجديد تتحدث عن جلوس الرب يسوع مع تلاميذه في العشاء الأخير وعن تأسيسه لسر الشكر. المقطع الأول في انجيل متى والثاني في انجيل لوقا والثالث عند بولس الرسول. إذا قرأنا هذه المقاطع نلاحظ أنها ذات مضمون واحد، مع وجود بعض الفروقات من حيث النص وفيما يلي شرح ذلك:
نقرأ في انجيل متى: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر واعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً اشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (متى 26:26-28 ) أما انجيل لوقا فيذكر: «ثم تناول كأساً وشكر وقال خذوا هذه واقتسموها بينكم لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتَّى يأتي ملكوت الله. وأخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم اصنعوا هذا لذكري.
وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم» (لوقا 22:1٧-20).
أما بولس الرسول في ( 1 كو 11:23-2٧ ). فيقول: «لأنني تسلمت من ما سلمتكم أيضاً أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً وشكر فقال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري. كذلك الكأس أيضاً بعدما تعشوا قائلاً هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري، فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء». وهو نص مهم جداً عن التقليد والتسليم.
عندنا إذاً ثلاثة نصوص تتفق بالمضمون ولكن تختلف بالصياغة. وسمعنا ما يقول الرسول بولس «سلمتكم ما تسّلمت من الرب» فالرسل كانوا أمينين بشكل دقيق للغاية أن يعطوا ما أخذوه و أن يسلِّموا ما تسلَّموه دون أي زيادة أو نقصان. و لذا كان التقليد الرسولي هو المقياس لدى الكنيسة، لأن الرسل هم الذين تسلموا البشارة الجديدة وهم الذين سلموها كما تسلموها، وكما يقول الرسول بولس:»إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما «(غلاطية 8:1) فالرسل الذين كان عندهم هذه الدقة الكبيرة لتسليم ما تسلموه من الرب تركوا لنا ثلاثة نصوص تخلف من حيث الصياغة، فكيف نفسر هذا؟ التفسير بسيط: نعرف أن العهد الجديد كتب بين عامي 60 و 90 ميلادية، وسفر أعمال الرسل يخبرنا بأن المؤمنين كانوا يجتمعون ويكسرون الخبز، أي في أورشليم كانوا يجتمعون ويكسرون الخبز وكذلك في الاسكندرية وفي انطاكية... وكانوا يرددون الكلمات التي علمهم الرب أن يقولوها. فكانت تقال هذه النصوص في التقاليد المحلية وفي الممارسات الليتورجية أثناء إقامة الافخارستيا هنا وهناك، وعندما دوّنت في مرحلة لاحقة كتب العهد الجديد، دوِّنت كما تسلمناها من الرب، حاملة في صياغها بصمات الممارسة المحلية في الكنائس. وقد اتفق النقاد والبحاثة على أن هذه النصوص كتبت كما كانت تقال في الاجتماعات الليتورجية ومن ثم استخدمها الآباء والرسل وكاتبوا الأناجيل. وعلى سبيل المثال يستعمل الرسول بولس في رسائله عبارة: «نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم. آمين» (رومية16:24 ) هذا نص افخارستي، ونسمعه اليوم في القداس الإلهي عندما يقول الكاهن من على الباب الملوكي: «نعمة الرب يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس لتكن مع جميعكم» وهذا النص الإفخارستي أخذه بولس الرسول واستعمله في الكتاب المقدس.
الرب يسوع هو سر التقوى، والكتاب المقدَّس والليتورجيا يقدّمان الرب يسوع. هناك مقطع من الرسالة إلى أهل فيليبي ( 2:5-11 ) وهو مقطع جميل جداً، يقول الرسول بولس: «فليكن فيكم هذا الفكر الذي بالمسيح يسوع أيضاً الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى ذاته آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذا وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتَّى الموت موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض ويعترف كل إنسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب». هذا نص كان يستعمل في الإفخارستيا والاجتماعات الليتورجية.
مما سبق نجد أن الكتاب المقدَّس، من ناحية، هو مصدر الليتورجيا في كثير من الطقوس والممارسات والعادات والأعراف والأعياد، كما أنه، من ناحية أخرى، قد كتب في الكنيسة التي كانت تعيش بالروح القدس في الليتورجيا سر المسيح يسوع. فعندما دوِّن الكتاب المقدَّس أتى من هذه الحياة الكنسية، التي تقوم بشكل أساسي على الليتورجيا، في الإفخارستيا (كسر الخبز) والصلاة والصوم وما إلى ذلك. فجاء الكتاب المقدَّس بإلهام الروح القدس من هذه الحياة ومن هذا التعايش، فالليتورجيا والكتاب متداخلين مع بعضهما.
ثالثاً: وهنا نؤكد أن الكتاب المقدَّس محتوى في الليتورجيا. فإذا تأملنا في كتبنا الليتورجية مثل السواعي، والتريودي الذي نستعمله في فترة الصوم، والبنديكستاري الذي نستعمله في الفترة الواقعة بين الفصح والعنصرة، وكتاب المعزي الذي نستعمله من بعد العنصرة وحتى الدخول في الصوم من جديد، وكتاب الميناون الذي يحوي أعياد القديسين، فإننا نراها تحتوي مادة كتابية غنية تحتل حجماً لا يستهان به من مجمل الكتاب.
وبافتراض ضياع النص الكامل للعهد الجديد، يمكننا عن طريق الكتب الليتورجية إعادة تجميع المادة المكوِّنة للنص الأصلي للعهد الجديد، فهو محتوى وموَّزع كتلاوات متتالية في كل عيد ومناسبة وفي صلوات السحر والغروب. فالمزامير، مث ً لا، تتلى بكاملها خلال كل اسبوع. كما نلاحظ أنَّه في فترة الصوم الكبير وفي كتاب التريودي يضاف على الخدم الالهية (علاوة على ما هو معتاد خلال السنة) مقاطع كتابية جديدة، ففي صلاة الساعة السادسة يقرأ من سفر أشعياء النبي، وفي صلاة الغروب يقرأ من سفر التكوين وسفر الأمثال، بحيث أنَّه عندما تنتهي فترة الصوم نكون قد قرأنا، في الخدم المذكورة، سفر أشعيا وسفر التكوين وسفر الأمثال في الكنيسة من كتاب التريودي.
إن تلاوة مقاطع من الكتاب المقدَّس وتفسيرها كانت ولا تزال عنصراً أساسياً في الليتورجيا وهذا ما نراه في كل الخدم الالهية، ففي خدمة الاكليل تتلى رسالة وانجيل وكذلك في خدمة الجناز والمعمودية والقداس الإلهي وفي خدم أعياد القديسين وصلوات السحر والغروب...
رابعاً: إن الليتورجيا منظومة بروح الكتاب المقدَّس، والآباء القديسين الذين كتبوا النصوص الليتورجية كانوا يعرفون الكتاب المقدَّس عن ظهر قلب، فعندما نظموا هذه التسابيح جاءت مشبعة ومسبوكة بروح الكتاب المقدَّس، وأعطي بعض الأمثلة.
نقرأ في الاسبوع الأول من الصوم الأربعيني في خدمة صلاة النوم الكبرى قانون القديس اندراوس أسقف كريت ويسمى «القانون الكبير» وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الترانيم.
فإذا قرأنا هذا القانون نلاحظ أن القديس متشرب الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد وإنه قد سبك بخبرة هائلة هذا النص التسبيحي الخشوعي، الذي فيه يصرخ صرخة الاسترحام: «ارحمي يا الله ارحمني» (وهو الاستيخن الذي يردد على قطع القانون) بكل خشوع ووقار وتوبة وانسحاق، وكيف عبَّر عن هذا الشعور بترانيم متعددة تش ّ كل قصيدة شعرية من 256 بيت أتى فيها بصور متعددة وبشخصيات كثيرة من الكتاب المقدَّس وألبسها للنفس البشرية التائبة، إما بالابتعاد عن قبائح بعض الشخصيات الوارد ذكرها في الكتاب المقدَّس أو لاكتساب فضائل بعضها الآخر. وعلى سبيل المثال نذكر مثلاً من المقطع الذي يستعمل فيه خلفية هي قصة لوط عندما يقول: «يا نفس!! اهزي مثل لوط من طريق الخطيئة. فرّي من سدوم وعمورة، اهربي من لهيب كل شهوة بهيمية» (الجزء الثاني، الأودية الثالثة). «يا نفس!! لا تصيري عمود ملح بالتفاتك إلى الوراء. فليرهبك نموذج الصادوميين» (الجزء الرابع، الأودية الثالثة).
نلاحظ أنَّه استخدم أشخاص وحوادث من الكتاب المقدَّس وأسقطها على النفس البشرية، ونقرأ في الأودية التاسعة فيه: «يا نفس!! لقد أوردت لك من موسى تكوين العالم ومنه كل كتاب قانوني يؤرخ لك المقسطين والظالمين. فلم تشابهي الأولين منهم، لكنك ضارعت الثانين إذا خطئت إلى الله «حيث نراه يورد للنفس البشرية نماذج من الكتاب المقدَّس فيقول» «يا نفس!! لقد أحضرت لك نماذج الكتاب الجديد لتقودك للتخشع. فغاري إذن من الصديقين، واجنحي عن الخطأة واستعطفي المسيح بالصلوات والأصوام والطهارة والوقار»، «المسيح تأنس ودعا اللصوص والزواني إلى التوبة. فتوبي يا نفس. لأن ها قد فتح لك باب الملك، وسيتقدم فيخطفه الفريسيون والعشارون والزناة إذا عادوا راجعين» المسيح خلص المجوس واستدعى الرعاة وأوضح محفل الأطفال شهداء، وشرَّف سمعان والعجوز الأرملة، الذين لم تغاري منهم يا نفس، لا في أفعالهم ولا في سيرتهم. لكن ويحٌ لك إذا حوكمت». «إن الرب إذ صام في القفر أربعين يوماً جاع أخيراً مظهراً بذلك الطبع البشري. فلا تسترخي يا نفس وإن غار عليك العدو بل صادميه بالصلاة والصوم فيندفع عنك بالكلية».
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن كتاب التريودي، الذي نستعمله في فترة الصوم الكبير، يفتتح صلواته في أحد الفريسي والعشار بالترنيمة: «لا نصّلين يا إخوة فريسياً، لأن من يرفع نفسه سيتضع، بل فلنتذلل أمام الله متضعين، ولنهتف بواسطة الصيام بصوت العشار قائلين: «اللهم اغفر لنا نحن الخطأة» المنظومة على خلفية قصة الفريسي والعشار الواردة في الإنجيل (لوقا: 9-14).
نذكر مثالاً آخر جميلاً جداً: تقام خدمة البراكليسي في فترة صيام السيِّدة العذراء في شهر آب و»براكليسي» كلمة يونانية معناها الابتهال أو التضرع المقدم لوالدة الاله... البراكليسي هو قانون مؤلف من مجموعة من الترانيم تش ّ كل تسعة مقاطع. وكل مقطع نسميه تسبحة، والقطعةال الأولى من كل أودية تكون هي الوزن والمقياس شعري للطروباريات أو للقطع التي تليها. وبالمقابل هناك في الكتاب المقدَّس، مجموعة من التسابيح نسميها التسابيح الكتابية ونستخدمها في العبادة في صلوات السحر في فترة الصوم: تسبحة موسى، تسبحة النبي حبقوق، تسبحة دانيال تسبحة الفتية الذين طرحوا من أتون النار دون أن يؤذهم لهيب النار... وغيرها، فإذا أخذنا القطعة الأولى من كل أودية من قانون البراكليسي وقارنا مضمونهما مع التسابيح نلاحظ ما يلي: توجد تسعة تسابيح كتابية مستخدمة في الليتورجيا وهناك تسعة تسابيح في البراكليسي تتطابق كل تسبحة مع التسبحة الكتابية المقابلة لها: (أي القطعة الأولى من الأودية الأولى مع التسبحة الأولى، والثالثة مع الثالثة... والتاسعة مع التاسعة) إذاً فالنص الليتورجي الذي هو تسبحة للعذراء مريم مأخوذة من الكتاب المقدَّس ومنظوم بروح الكتاب المقدس. ونذكر مثالاً على ذلك:
«إن الشعب الاسرائيلي قد جاز على الرطوبة كأنه على اليابسة هارباً من الشقاء المصري فهتف صارخاً لمنقذنا وإلهنا نسبح» (البراكليسي، الأودية الأولى) فالترنيمة تتكلم عن خروج الشعب الاسرائيلي من مصر وعبوره البحر الأحمر على اليابسة... والتسبحة الأولى من الكتاب المقدَّس (سفر الخروج، الاصحاح 15 ) تتكلم عن الموضوع نفسه عندما وقف موسى وسبّح الرب بعد خروجه من مصر. أما الأودية السادسة من البراكليسي فتقول: «أسكب أمام الرب تضرعي وأحزاني قدامه أخبر، لأن نفسي قد امتلأت من الشرور، وحياتي دنت من الجحيم فإليك أتضرع مثل يونان هاتفاً، أصعدني من الفساد يا إلهي». وهو موضوع التسبحة السادسة الكتابية (سفر يونان النبي، الاصحاح 2) التي قالها يونان النبي عندما كان في جوف الحوت... وكذلك التسبحة الكتابية التاسعة «تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى تواضع أمته...» وهي مقطع من الإنجيل (لوقا 1:6 ) أدخلت إلى الليتورجيا مع ترنيمة «يا من هي أكرم من الشيروبيم» التي تعاد بمثابة لازمة بعد كل آية من آيات التسبحة...
إذاً هناك تداخل وتطابق وعيش واختبار حقيقي وفعلي للكتاب المقدَّس الذي هو كلمة الرب. وقد سبكت هذه الخبرة لسر التقوى العظيم، الذي هو الرب يسوع، في نصوص، إن كانت نصوص كتابية (التي هي العهد الجديد) أم نصوص ليتورجية (التسابيح المستخدمة في العبادة).
نذكر أخيراً أن الكتاب المقدَّس يفسّر أيضاً بعد الصلاة والسجود والحياة في الكنيسة وهنا أعطي مثالين: الأول ... نحن نتلو في كل قداس إلهي، بعد الرسالة وقبل الإنجيل، صلاة أو إفشيناً يطلب فيه الكاهن أن نطأ الشهوات الجسدية حتَّى نسمع الكلمة المحيية، التي هي الانجيل، أي أننا نؤكد في الكنيسة على أن الكتاب المقدَّس هو كلمة الله. وكلمة الله لا تقرأ ولا تفسَّر كأي كتاب آخر. كلمة الله تقرأ وتفسر لكي تدرك أنت، كي تصل أنت عبر هذه الكلمات إلى ما يريده الله منك، لأن كلمة الله لك والكتاب ليس كتاباً تاريخياً وليس قصة، لهذا لا يقرأ ككل كتاب ولا يفسر ككل كتاب... فمثلاً نقول في أعمال الرسل «الذين أراهم نفسه حياً براهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله» (أعمال 1:3) ولكننا لا نجد في النص بماذا كلمهم... فهل من المعقول أن ما قاله الرب خلال هذه الأربعين يوماً لم يكن له قيمة ولهذا لم يدوّنه الرسل!! هذا هو التسليم الذي تكلم عنه الرسول بولس... ولهذا نحن نؤكد على أن الكتاب المقدَّس ليس كأي كتاب عادي...
وأذكر مثالاً آخر: توجد في انجيل لوقا (الاصحاح 24 ) حادثة تلميذي عمواس: ظهر الرب يسوع لتلميذي عمواس وهما ذاهبان لقريتهما وسار معهما وحادثهما ولم يعرفا أنَّه السيِّد مع أنهما كانا اثنين من تلاميذه. وعندما مال النهار دخل ليتعشى معهما... ولما جلسوا للطعام «أخذ يسوع خبزاً وشكر وكسر وناولهما فانفتحت عيونهما وعرفاه...» بقي ماشياً معهما كل النهار وهو السيِّد ولم يعرفاه، حتَّى أنهما قالا له: «أأنت وحدك غريب عن أورشلم...» ولكن عندما جلس معهما وكسر الخبز (أي قام بفعل ليتورجي) عرفاه وانفتحت أعينهما. وهنا نتسائل أنَّه إذا كان تلميذي عمواس سائرين مع السيِّد ولم يعرفاه، فكم بالحري ألا يعرفه كثيرون يمسكون بالكتاب المقدَّس ويقرؤونه. إن التلميذين لم يعرفاه إلا عندما بارك وكسر وناول فانفتحت أعينهما وعرفاه... عرفاه عند كسر الخبز... وهذه هي الليتورجيا التي تقدم لنا المسيح يسوع، كما أن نص الكتاب المقدَّس هو كلمة الله، الذي هو سر التقوى العظيم، سر التقوى هو الرب يسوع الذي أتى وقبلته الكنيسة وعاشته وحافظت عليه ونقلته بالليتورجيا وبنص مكتوب وبتسليم شفهي.
إن الليتورجيا تقدم لنا المسيح يسوع، كما أن نص الكتاب المقدَّس هو كلمة الله الذي هو سر التقوى العظيم، سر التقوى العظيم هو الرب يسوع الذي أتى وقبلته الكنيسة وعاشته وحافظت عليه ونقلته بالليتورجيا وبنص مكتوب وبتسليم شفهي. فالحقيقة هي الرب يسوع وقابل هذه الحقيقة وناقلها ومفسرها هو الكنيسة. فالرب الإله يعطينا بنعمته الالهية بشفاعة العذراء مريم والدته الكلية الطهر والقداسة وكل رهط الآباء القديسين والأبرار، يعطينا هذه القوة لتنفتح عيوننا نحن على هذا السر العظيم الذي هو شخص الرب يسوع المسيح حتَّى نعيش معه فنتطهر ونتقدس ونكتشف إن الحقيقة واحدة ألا وهي الرب يسوع، وان الكتاب المقدَّس هو كلمة الله، أي الرب يسوع، وأن الليتورجيا تقدم لنا أمراً واحداً هو الرب يسوع، وأن الألف والياء في حياتنا هو الرب يسوع، وأن الرب يسوع هو الذي يقدّس كل انسان آتياً إلى العالم لنكون مع سائر الذين أرضوه في مجده إلى الأبد آمين.