الرسالة الرعائية بمنـاسبة الـيوم التضـامنـيّ…
برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
العـطاءُ معيـارُ انتسـابِنا إلى ملكـوتِ السـموات
"إن فعلتم هذا بأحد إخوتي هؤلاء الصغار... فبـي فعلتموه" (مت 25: 40)
لقد حدّد المجمع الأنطاكيّ المقدّس يوم الخامس عشر من أيلول للعام الحالي يوماً تضامنيّاً بين كافّة الرعايا في ربوع الكرسيّ الأنطاكيّ، وطناً وانتشاراً، من أجل دعم العمل الإغاثيّ والإنسانيّ الذي قامت وتقوم به بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بالتعاون مع جهات دوليّة وحكوميّة وكنسيّة ومدنيّة. فإنّ حجم المآسي والآلام التي عصفت، ولا تـزال، بأبنائنا وإخوتنا في سوريا يفوق كلّ وصف، والامكانيّات المتوفّرة محدودة، لا تكفي لتغطية إلاّ جزءٍ يسيرٍ من الحاجات الفعليّة، الضروريّة والأساسيّة للحياة، نعني بذلك توفير المأكل والمشرب والكساء والدواء والطبابة والسكن بحدّها الأدنى.
نحن نؤمن أنّ الله حبانا الوجود والحياة ولم يطلب منّا بدلاً عن هذه العطيّة الثمينة. سخى علينا سخاء يليق بالخالق وحده، إذ منحنا الخيرات التي نتمتّع بها حتى تكون حياتنا ملوكيّة بكلّ معنى الكلمة. إلاّ أنّنا شردنا عن الحقّ، وبإرادتنا اخترنا الابتعاد عن النعمة، فصار واقعنا مجبولاً بالألم والمرض والشرّ والموت.
هو نفسه لم ينأَ عن هذا الواقع الجديد، بل أرسل ابنه الوحيد ليعيش معنا كواحد منّا، مقيمٍ بيننا، ليعيدنا عن شرودنا، وينير عتمتنا، ويرشدنا إلى الحياة، ويعرّفنا على الحقّ، ويعلّمنا استخدام حريّتنا، ويضمّد جراحنا، ويحيي نفوسنا، ويغفر خطايانا، ويمنحنا غبطته السماويّة.
لقد شاركَنَا الحياة الانسانيّة ببساطة ما بعدها بساطة، دون تكلّف: رافق أرملة نائين في تأبين وحيدها، وأقامه حيّاً؛ فتّش عن النازفة الدّم وصرفها مبرؤة النفس والجسد؛ علّم تلاميذه أن يشاركوا بما لديهم من الخبز والسمك الجموعَ التي سارت وراءه ويطعموها بأيديهم؛ فحص إيمان المرأة الكنعانيّة ووهبها مرادها بعد أن عظّم إيمانها؛ وضع نفسه بتصرّف قائد المئة بشأن شفاء خادمه؛ تأخّر على صديقه المريض لعازر لكنّه أعاده حيّاً إلى أختَيه مريم ومرتا؛ اقترب ولمس عاهات الأعمى والممسوس والأبرص وصاحب اليد اليابسة وصرف الجميع معافى في الروح والجسد معاً.
لكنّه ترك لنا وصيّة هي خيرة الوصايا، حلاً لكلّ معاناتنا، وهي وصيّة المحبّة: أن نحبّ الله عن طريق محبّة أخينا وقريبنا، ذاك الذي انجبل معنا في هذه الانسانيّة التي تتطاول عليها الشرور، وتدمى بآلام نحن صانعوها، عن معرفة وعن جهل، بسبب من أنانيّتنا ومصالحنا، سواء كنّا أفراداً أم جماعات أم دولاً.
لم يوصِ الربّ بشيء لذاته؛ لم يطلب أن نقدّم له تكريماً أو نعبّر عن امتنان أو نقرّ بفضل. لا بل اقتبل من أيادينا عذاباً، وسمع منّا سباباً، ولقي منّا عتاباً وتعنيفاً، واحتمل منّا النكران والخيانة، واقتبل السياط والهزء والصلب.
لكنّه كان صارماً عندما أوصانا بالقريب، فقد وضعه معياراً لانتسابنا إلى ملكوت السموات. أوصانا أن تقترن عبادتنا بخدمة القريب، وجعل محبّة الضعيف والمحتاج وخدمتهما مساويةً في الكرامة لخدمته هو. لقد وضعنا بين فكَّي كمّاشة: من جهة، مثلُ السامريّ ينير ضمائرنا ويحفّز نوايانا في اتجاه التضامن مع أخينا المحتاج بالاقتراب منه والاعتناء به؛ ومن جهة أخرى، مثلُ الدينونة الأخيرة يضعنا أمام تحديد حياتنا الأبديّة منذ الآن، إذا ما صممنا آذاننا عن صوت المحتاج، أو أغلقنا عيوننا عن رؤية المعاناة، أو كتّفنا أيادينا عن مدّها إلى القريب، أو أشحنا بقلبنا عن تحسّس آلام أخينا، أو ألْـهَينا عقلنا بغير الخدمة والمساعدة.
إنّ صمود الشريحة الكبرى من أبنائنا اليوم، من المتضرّرين والمعوزين والمشرّدين والمرضى والجرحى والعاطلين عن العمل، لا يمكن أن يستمرّ من دون دعم كلّ الإخوة، الميسورين وغير الميسورين، ليس فقط بفلس الأرملة، وإنما بما أوتينا من محبة فاعلة، تترجَم على أرض الواقع التفاتاً حسيّاً وعمليّاً مع مَن جار عليه الزمن بخسارة وظيفة، أو مسكن، أو أحبّة، أو معيل، إلخ.
لم يفتأ الله عن مدّ يده لنا في بؤسنا وأعاننا وشفانا وأنقذنا. أَفَلا نمدّ يدنا نحن بدورنا لأخينا؟ هناك من يقوم بذلك يوميّاً على أرض الواقع، لكنّهم يحتاجون اليوم من الذين يعيشون جغرافيّاً بعيداً عن هذا الواقع، أن يعبّروا عن مشاركتهم بعطاء يجودون به على كنيستهم، ويُرسل إلى البطريركية لدعم الجهود التي تقوم بها على هذا الصعيد.
الكنيسة اليوم تدعوكم، بما أوتيتْ من محبّة وعزم وامتنان، أن تُكرِموا أخاكم لكي تُكرَموا من الله. القلب الجريح ينادي قلبكم الكريم والمحبّ والمعطاء، أينما وُجدتم، لتمدّوا يد الأخوّة والتضامن والمؤازرة. جودوا بما جاد به الخالق عليكم من خيرات لا تُوصف وإحسانات لا تُحصى؛ اسعوا في سدّ حاجات أهاليكم؛ كونوا تعزيتهم. هم آباؤكم في أكرم وأثمن ما عندكم: الإيمان؛ فبادلوهم بما هو أدنى: بِمساهمتكم وسخائكم.
ألا بارك الربّ أعمالكم وأكثر ثمار إحساناتكم في ملكوته السماويّ. آمين.
صدر عن مقامنا البطريركي في دمشق.
بتاريخ السادس من آب 2013.