الآب السماويّ وعيد الأب

الآب السماويّ وعيد الأب
 
في اليومِ الواقعِ فيه ٢١ حزيران، يُعيِّدُ العالَمُ لِعيدِ الأَب. مُناسَبَةٌ رائِعَةٌ لِنُحيي آبائِنَا الجَسَدِيّينَ والرُّوحِيِّينَ الَّذينَ رَقَدُوا والَّذينَ ما زَالُوا عَلى قَيدِ الحَياة. سَنَأخُذُ المُناسَبَةَ هَذِهِ لِنَتَوَقَّفَ عِندَ الآيَةِ الَّتي قَالَها الرَّبُّ يَسوع: "وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". (مت٩:٢٣).
 
هُناكَ تَفسيرَاتٌ خَاطِئةٌ لِهَذهِ الآيةِ بِالتَّحديدِ أَتَتْ إمّا مِن رَدَّةِ فِعلٍ أَو لِغَايَةٍ خَارِجَ مَفهومِ اللّاهوتِ الحَقيقيّ. لِذا وَجَبَ التَّوضِيحُ، كَما نَقَلَهُ إلينَا الآباءُ القِدِّيسونَ الَّذِينَ عَاشُوا بِالرُّوحِ القُدُسِ وامتلأوا مِنه.
 
في المَفهومِ الإنجيلِيّ، كَمَا في أَيِّ مَفهُومٍ تَفسِيريٍّ آخرَ، يَجِبُ أَخذُ التَّفسيرِ الكَامِلِ لِنَصٍّ أو آيَةٍ أو جُمْلَةٍ ما، ولَيسَ أَيُّ تَفسيرٍ مُجتزَأ.
 
لِننْتَبِهْ جَيِّدًا لِهَذا الارْتِبَاطِ: "أَبًا عَلَى الأَرْضِ". لقد قَالَ الرَّبُّ بِوُضُوحٍ "على الأَرضِ" γῆς، وأَتبَعَهَا "لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِοὐράνιος " مَقصَدُ الرَّبُّ الدَّائمُ أَلَّا نُسَلِّمَ أَمرَنا إلاّ للرَّبِّ، وأَلاّ نَكُونَ أتبَاعًا لِأحدٍ عَلى الأَرضِ بِمَعَنى "الاستزلام"، بَلْ نَعِي أَنَّنا خُلِقْنَا أَبنَاءَ اللهِ بِالتَّبنِّي وبِالنِّعمَةِ والحَق. مِن هُنا عَلَّمَنا يَسوعُ أَن نُصَلِّيَ صَلاةَ "الأبانا".
 
بِالمُقابِلِ إنَّ الآبَ السَّماوِيَّ لدَيهِ أَبناءٌ رُوحيّون أَخلَوا ذَاتَهُم وَتَقَدَّسُوا وَأولَدُوا أَبناءً للمَلَكُوتِ بِالرُّوحِ القُدُس. وعَلاقةُ هَؤلاءِ الأَبناءِ بِمَن وَلَدَهُم عَلاقَةُ بُنُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ بِالمَسيحِ وَبِحَسبِ المَشيئَةِ الإلهِيَّةِ وَليسِ بِحَسَبِ أَيّ مَشيئَةٍ أُخرى. وهَذا يَعنِي أنَّ الأَبَ الرُّوحِيَّ يَلِدُ أبناءً لِلمَلكُوتِ، وَيُعَلِّمُهُم بِحَسبِ مَشيئةِ اللهِ والتَّسليمِ في الكَنيسةِ، "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ." (مت ١٩:٢٨-٢٠)، ويَجعَلُهُم أبناءً للهِ وليسَ- لا سَمح اللهُ- أبناءً لِنَفسِه.
 
وهَذا بِالتَّحديدِ مَا كَتَبَهُ بُولسُ الرَّسولُ مَثلًا إلى أهلِ كورِنثُوس، بَعدَ أن شَرحَ لَهُم حَجمَ التَّضحيَةِ الَّتي يَقومُ بها خَادمُ المَسيح: "لَيْسَ لِكَيْ أُخَجِّلَكُمْ أَكْتُبُ بِهذَا، بَلْ كَأَوْلاَدِي الأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ. لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ". (اكو ١٤:٤-١٥). كذلك يَدعُو أُنسيمُس ابنَهُ وأحشاءهُ (فيلمون ١٠،١٢)، طبعًا هُوَ ابنُهُ في الرُّوح.
 
وعَمليَّةُ الوِلادةِ تَستَمِرُّ في الكَنيسةِ، وَهُناكَ حِكمةٌ آبائيَّةٌ تُلَخِّصُ هَذا المَوضُوع: "مَن لا يَكُونُ ابنًا لا يَستَطِيعُ أن يَكُونَ أبًا". كُلُّ مُؤمِنٍ بِحاجَةٍ لِأب ٍرُوحِيّ يَترافَقُ وإيَّاهُ على دَربِ المَسيح. وهَذا الأَبُ هُوَ ابنٌ لِأبٍ آخرَ وَلَدَهُ في المَسيحِ، وَهكَذا دَوالَيك. فَنُشَكِّلُ كُلُّنا أبناءً لِأبٍ وَاحِدٍ تَجَسَّدَ وتَألَّمَ وصُلِبَ وقُبِرَ وَقَامَ وأقَامَنا مَعَهُ وهُوَ مَعَنا إلى الآبد.
 
كَذلكَ نقرأُ الإنجيليَّ يوحنّا يَقولُ: "يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا". (١يو١:٢). كما يُكَرِّرُ مناداتَهم بِالأولادِ في أَكثرَ مِن مَكانٍ في الرِّسالَةِ نفسِها.
 
كَما هُناكَ نُقطةٌ مُهمَّةٌ جِدًّا هِي التَّواضُعُ والخِدمَة. وهُنا يَجِبُ على الأبِ أن يَكُونَ المِثالَ في ذلك. لِهذَا تَجرّأ بولسُ الرَّسولُ بِقَولِه: "أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي". (١كو١٦:٤). وهذا أصلًا ما طَلَبَهُ الرَّبُّ يَسوعُ المسيحُ مِنّا: "وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِمًا لَكُمْ." (مت١١:٢٣).
 
وبِالعَودَةِ لِعيدِ الأب، إنّ مُهمَّتَه لا تَنحَصِرُ فقط بِالوِلادَةِ الجَسديَّة، إذ إنّ فِعْلَ "ربّى" رَفَعَهُ إلى العلى.