عظة البطريرك يوحنا العاشر في الذكرى العاشرة…
عظة البطريرك يوحنا العاشر
في الذكرى العاشرة لارتقاء البطريرك كيريل السدة البطريركية، كنيسة المخلص موسكو 1 شباط 2019
صاحب الغبطة،
أصحاب الغبطة والسيادة، الآباء والرهبان والراهبات الموقرين،
الإخوة والأخوات الأعزاء،
بتأثر قلبي عميق، أعبر عن فرحي لوجودي بينكم يا صاحب الغبطة في هذا اليوم المبارك ولاشتراكنا سويّة في الافخارستيا المقدسة، بمشاركة أخينا البطريرك الصربي ايريناوس والإخوة ممثلي الكنائس الارثوذكسية وسائر الأساقفة بحضور هذا الشعب المؤمن في هذه الكنيسة المقدسة، كنيسة المخلص، في موسكو. وقد رفعنا جميعنا صلواتنا من أجل أن يزيدكم الله من نعمه، وأن يقويكم، وأن يمنحكم الصحة والعافية والعمر المديد لكي تستمروا برعاية كنيسة روسيا بالمحبة والحكمة إلى أعوام عديدة.
وإذ نشكر الله الذي اختاركم منذ عشر سنوات لتتبؤوا سدة البطريركية، هذه السدة التي زينها أسلافكم العظام، ومن بينهم البطريرك تيخن، الذي احتفلنا معاً بمئوية انتخابه في كانون الأول من العام ٢٠١٧، لا يسعنا إلا وأن نستذكر جهاد الكنيسة الروسية وشعبها في القرن الماضي، من أجل الحفاظ على الإيمان المستقيم، في زمن الإلحاد والاضطهاد.
وهنا يحضرني أيها الأخ الحبيب، جهاد عائلتكم الكهنوتية، التي التصقت بالكنيسة في أحلك ظروف تاريخها، والعذابات التي تكبدها جدكم الكاهن، وأبوكم الكاهن، وهي عذابات شاركتم بها، كعائلة أرثوذكسية، أبناء كنيستكم المجاهدة والمعترفة، في مصيرها.
ولا يسعنا أيضاً، يا صاحب الغبطة، إلا وأن نذكر خبرتكم الروحية الشخصية في تلك الأزمنة الصعبة، أزمنة الحكم الشيوعي التي كان لها وسائلها وطرقها الخاصة في اضطهاد الكنيسة وأبنائِها المؤمنين في الأوقات التي تفنن فيها الإلحاد بالضغط على المؤمنين وفي الدعاية ضد الإكليروس. وهنا نتوقف عند ثباتكم على صخرة الإيمان وجهادكم الطويل من أجل الحفاظ على الارثوذكسية المقدسة في ربوع روسيا.
وفي هذا اليوم المبارك، نشكر الله، الذي قواكم بنعمته وحنانه لكي تجوزوا هذا الآتون الملتهب، والذي أعطاكم أن تفرحوا بصوت أجراس الكنائس التي كانت قد صمتت، تقرع من جديد على مدى أراضي روسيا، وأن تشاهدوا المدن وقد عادت تجمّلها قبب الكنائس والصلبان المذهبة، بعد أن كانت قد هدّمت أو أزيلت الصلبان عن قببها. وأن تفرحوا بالمؤمنين يملأون الكنائس التي تتكاثر يوماً بعد يوم ويمارسون إيمانهم بحرية، وبالأديرة تكتظ بالرهبان والراهبات يصِلون الليل بالنهار صلاة لا تنقطع ورعاية روحية.
وكم يسعدنا أيها الأخ الجليل، أن نراكم تقودون كنيسة روسيا الشقيقة، في زمن الحرية، بعد أن شهدتم للإيمان الأرثوذكسي في زمن الإلحاد والاضطهاد، وأن نراكم توظفون كل خبرتكم الروحية، التي تغذت ببطولة الشهداء والمعترفين الجدد في كنيستكم، في إعادة بناء وإحياء ونهضة الكنيسة الروسية التي تزدهر الحياة الروحية فيها اليوم. وما يضاعف فرحنا، هو أننا نرى معكم وبأم العين «المعجزة الكبيرة»، عنيتُ بها معجزة الحفاظ على الكنيسة الأرثوذكسية، التي نجت من أهوال الاضطهاد الطويل والقاسي، ومعجزة عودة العديد من الناس إلى إيمان آبائهم، وأجدادهم، وأجداد أجدادهم، خاصة وأن الظروف الخارجية لحياة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في السنوات السوفياتية لم تكن لتسمح بوضع الأسس لمثل هذا الانبعاث السريع الذي نراه اليوم.
أيها الأخ الحبيب بالرب؛
يشهد تاريخ كنيستكم في زمن الإلحاد، أن الشرير، في حربه على الكنيسة، قد استخدم كل الوسائل الممكنة، وقد عمل في بعض الأحيان من خلال أبناء الكنيسة ورعاتها لإضعافها من الداخل، من خلال إثارة الاضطرابات والانشقاقات فيها. ولكن التاريخ ذاته يعلمنا، أن الاضطهاد بمختلف أشكاله لا يمكن أن ينال من الكنيسة، إن أخلصت لمعلمها، ولتقليدها، وللحقيقة الروحية التي تحملها. وهذا ما اختبرتموه أنتم بالذات يا صاحب الغبطة وشعبكم الروسي العظيم.
ولذلك وفي وسط العاصفة التي نعيشها، حيث تواجه المسيحية عموماً والأرثوذكسية خصوصاً هجوماً متزايداً من قبل المجتمع الاستهلاكي وأصنامه الجديدة التي تدّعي أنها قادرة، باسم الحرية المجردة من المسؤولية، أن تجلب السعادة والرفاه لإنسان اليوم. وفي ظل تهافت كبار هذا العالم، على توظيف الكنيسة في سياساتهم ومصالحهم، والسعي إلى إضعاف شهادتها في العالم، وتفتيتها إلى كنائس قومية، نحن مطالبون أكثر من أي يوم مضى بتفعيل تعاوننا الأخوي، وتعزيز الروابط بين الكنائس الأرثوذكسية الشقيقة، والشعوب التي ترعاها.
لقد سارت الكنائس الارثوذكسية، التي عانت كلها من أهوال الاضطهاد في القرن الماضي، على طريق الشهادة المشتركة للمسيح ولجمال الأرثوذكسية، منذ أن دعا قداسة البطريرك المسكوني أثيناغوراس إلى مؤتمر رودوس في العام ١٩٦١. ولقد رعت علاقاتِنا منذ ذلك التاريخ، قاعدةٌ أطلق عليها قداستُه وعددٌ من معاونيه اسم «الإجماع المقدس»، لأنه عرف أن هذا الاجماع، وإن تتطلب جهداً جباراً من أجل بناء التوافق، فهو ينقذ من التفرد ومن طغيان الكبير على الصغير، أو القوي على الضعيف، في كنيستنا الواحدة. وبأنه يحفظ الكنيسة الارثوذكسية من التشرذم الذي عرفته في العقود الأولى من القرن الماضي نتيجة ضغوط سياسية أو قرارات أحادية أو فئوية، كانت تتخذها هذه الكنيسة أو تلك، أو هذه المجموعة أو تلك، غير آبهة بتداعياتها على الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة.
ولذلك، نكرر اليوم، المواقف التي ينادي بها مجمعنا الأنطاكي المقدس منذ سنوات، والتي تدعو إلى مقاربة كل شؤونا بالاستناد إلى هذا المبدأ المقدس، لعلنا نستطيع بذلك إبعاد السياسة، والعرقية، والشعبوية، وتأثير السلطة والمصلحة والمال عن الكنيسة الأرثوذكسية، والانصراف الى تفعيل شهادتنا الواحدة للمسيح القائم من بين الأموات والغالب لكل تراخٍ أو موتٍ في عالمنا اليوم.
وفيما نحن في فرح هذه المناسبة لا أريد أن أعبر عما في قلوبنا من ألم عميق وحسرة كبيرة لما يجري في كنيستنا الأرثوذكسية هذه الأيام ولما يصيبها نتيجة التفرد وانعدام الحوار والمجمعية ولما حصل مؤخراً في أوكرانيا. ولكني أجد نفسي مضطراً أن أشدد على أنه قد آن الوقت لكي نرفع الصوت عالياً. فإن الصمت أمام الانحرافات مقيتٌ إذا لم يتحول إلى ابتهال وصلاة. أناشد جميع الإخوة، أصحاب القداسة والغبطة، رؤساء الكنائس الأرثوذكسية المستقلة أن نجتمع ونتلاقى ونعلن بذلك للملأ تمسُّكَنا بوحدة كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة ويقينَنَا أنّ نورها من نور المسيح وما زال براّقاً وبهياً.
وختاماً، وباسم جميع أبناء كنيستنا الأنطاكية، وبخاصة في سوريا ولبنان والعراق والخليج العربي وفي كل بلدان الانتشار الأنطاكي، أبناء هذه الكنيسة، الذين يعانون من أهوال الحروب، والخطف، والضائقة الاقتصادية، والتهجير، والتشرد. وبصلوات مطراني حلب يوحنا (ابراهيم) وبولس (يازجي) المغيبين منذ أكثر من خمس سنوات، نصلي أن يمنحكم الرب الإله وكنيستكم وأبناءكم الحكمة والقوة والثبات في هذه الأيام العصيبة. وإننا نشكر كنيستكم المقدسة وفخامة الرئيس بوتين والدولة الروسية على كل ما قدمته وتقدّمه من أجل كنيسة أنطاكية وأبنائها. أكرر تمنياتي، باسمي وباسم إخوتي الحاضرين من مختلف الكنائس الارثوذكسية، بأن يحفظكم الرب الإله بحبه وبحنانه، وبشفاعات والدته الطاهرة والقديسين الذين لمعوا في الكنيستين الأنطاكية والروسية، إلى سنين عديدة، "معافى ومفصلاً باستقامة كلمة حقه".
وإلى سنين عديدة.