كلمة البطريرك يوحنا العاشر في الحفل الرسميّ…
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في الحفل الرسميّ لِتَسَلُّم الدكتور الياس ورّاق رئاسة جامعة البلمند،
البلمند 1 كانون الأول 2018
أيّها الحفلُ الكريم،
يقول السيّد في إنجيلِ يوحنّا:
"أما تقولون: إنّه يكون أربعةُ أشهرٍ ثمّ يأتي الحَصاد؟ ها أنا أقولُ لكم: إرفَعوا أَعيُنَكم وانظُروا الحقولَ إنّها قَدِ ابْيَضَّتْ لِلحَصاد، والحاصدُ يأخذُ أُجرةً ويَجمع ثَمَرًا لِلحياةِ الأبديّة، لكي يفرحَ الزارعُ والحاصدُ معًا" (يوحنا 4: 35 - 36).
نجتمع اليوم لنشكرَ الله ونحمدهُ ونمجّدَه على مواهبِه الغنيّةِ وعطاياه السخيّة الوافرةِ الممنوحة لكنيستِنا الرسوليّةِ الأنطاكيةِ على تلّةِ البلمند المباركة، تَلّةِ حَصادِ العِلمِ والصلاةِ والخلُقِ والخدمة. نجتمع لنشكر الله على هذا الحصاد للبنان بكلِّ أبنائِه ومُفكِّرِيه ومُحِبِّي العِلمِ والإبداع فيه. وإذ نختتم الذكرى الثلاثين لتأسيس جامعتنا تحت كنف دير السيّدة، نتطلّع إلى مستقبلٍ جامعيٍّ مشرقٍ نُودِعُه رجاءً في عناية العليّ، وأمانةَ خدمةٍ وثقةٍ في يد الرئيس الجديد، الدكتور الياس ورّاق، لكي يستمر برفع اسمِ الجامعة عاليًا، على مقدار تطلُّعاتنا، وما يستحقُّه أهلُنا في الكورة والشمالِ ولبنانَ وأنطاكيةَ ومَدانا المشرقيّ والعالم.
أيها الأحبّاء،
نجتمع اليومَ في هذا الصرحِ الكَنَسِيِّ العِلميّ، لنحتفلَ بِتَبَوُّؤِ الدكتور الياس ورّاق سُدّةَ رِئاسة الجامعة، وبتجديدِنا عهدَ مَن سَبَقُونا في الخدمة والعطاء في البلمند.
نجدّد عهدَ البطريركِ المؤسِّس، المثلّثِ الرحمة إغناطيوس الرابع، رجلِ الرؤيةِ والحكمةِ والعَمَل، الذي شاء، مع آباء المجمع الأنطاكي المقدس وفي أحلك ظروف الحرب، أن يُطلقَ جامعةً تُحاكي كُبرَياتِ مؤسَّساتِ التعليمِ العالي في لبنانَ وشرقِ المتوسّطِ والعالم، فتكونُ بابًا مفتوحًا على الآخر، ومنبرًا للحوار الإنسانيّ الشفّاف، حوارِ العين المتبصّرة، والعقلِ المتوثّبِ، والقلب النابضِ بالحياة، واليد المبتَكِرة. نعم، ستبقى هذه التلّةُ تَشهدُ لِمَناقب البطريرك هزيم وعطاءاته وإرثه الدينيّ والفكريّ والإنسانيّ.
نجدّد، كذلك، عهد المطارنة أحبار المجمع الأنطاكيّ المقدّس الذين قدّموا كلَّ ما في وسعهم من تضحياتٍ ودعمٍ وإرشاد، لكي تُثبَّتَ أساساتُ الجامعةِ في الحقّ والهويّة المسيحيّة المشرقيّة الأرثوذكسية المنفتحة على محيطها العربيّ والإسلاميّ بموضوعيّةٍ وتبصُّر. وأَخُصُّ بالذكر المثلَّثيِ الرحمة المتروبوليت فيلبّس صليبا والمتروبوليت الياس قربان والمتروبوليت غفرئيل الصليبي الذين رعَوا أبرشيات أميركا الشماليّة وطرابلس والكورة وأوروبا الغربيّة الدائمي الذكر، وصاحبَيِ السيادة المتروبوليت جورج خضر راعي أبرشيّة جبل لبنان السابق، والمتروبوليت الياس عودة راعي أبرشية بيروت الجزيلَي الاحترام.
نجدّدُ أيضًا عهدَ رؤساءِ الجامعة الثلاثة السالفين: الدكتور جورج طعمة الذي نجح في أحلك ظروف الحرب الأهليّةِ في لبنان في إطلاق ورشةِ عَمَلِ الجامعة؛ الأستاذ غسان تويني الاسم الكبير في الفكر والثقافة والصحافة والدبلوماسية، الذي قدّم طيلة ثلاث سنوات كلَّ ما لديه من خبرةٍ ودِرايةٍ وعلاقاتٍ مِن أجل شقّ الطريق، طريقِ العمل الجامعيّ الشاهدِ في محيطه والـمُحدثِ الفَرقَ في بيئته، بما يَكنُزُه من إمكاناتٍ ومصداقيّة؛ وكذلك الدكتور إيلي سالم الصديق العزيز والوفيّ، ناسك البلمند و"الباني" كما اعتاد السلف الراحل البطريرك إغناطيوس الرابع أن يخاطبه وكما يحلو لنا أن ندعوه، أطال بعمره، والذي كرّس خمسًا وعشرين سنةً من مسيرته للعمل والتفاني في بَلْوَرَةِ صورةِ الجامعةِ ومكانتِها الرفيعة، وفي إكمال بُناها التحتيّة، وتوسيعِ إطلالتِها على المدى اللبنانيّ وعلى المستوى العالميّ، فكان أن صُنِّفَتْ عنِ استحقاقٍ في عيدِها الثلاثين في المرتبةِ الثالثةِ لجامعاتِ لبنان. هؤلاء الرؤساءُ الثلاثةُ لهم فضلٌ كبير. هم، مع مساعديهم المخلِصين، أحيَوْا ورشةَ البُنيان وَرَفَعوا أَشرِعةَ العِلم والاِنفتاح والحوار والانطلاق نحو العالم بِخُطى الإقدامِ وجُرأةِ الواثقين.
وقد يَطُولُ بِنا الكلامُ إذا ما ذَكَرْنا سائرَ المتبرّعين الذين واكبوا مسيرة الجامعة ودعموها وكذلك شيّدوا، مشكورين، بِعَطاياهُمُ السخيّة، صُروحَ العِلمِ في مؤسّستِنا البلمندية الجامعة على سائر الأراضي اللبنانية في البلمند-الكورة وفي بيروت-الأشرفية، وسوق الغرب وسن الفيل و في بينو-عكار؛ لذلك، لا بُدَّ مِنَ التأكيدِ على أنّ الأيادِيَ البيضاءَ كثيرة، منها ما نُظِرَ وَمِنها ما استَتَر، فَشُكرُنا لَـهُم جميعاً، لِكُلِّ مَن ساهَمَ بِحَجَرٍ في كُلّيّةٍ مِن كُلِّيّاتِ جامعةِ البَلمند. وَدُعاؤُنا إلى الرّبِّ أن يُعطِيَهم صحَّتَيِ النّفْسِ والجسد، وَيُعَوِّضَهم أضعافَ ما بَذَلُوا.
نقف أيضًا بإجلال أمام جهود مجلس أمناء الجامعة وجميع العاملين في دوائرها، نوابَ رئيسٍ، عمداءَ، أساتذةً، إداريين، تقنيّين وغيرهم، خَدَمُوا بأمانةٍ وَرُوحِ تَعاوُنٍ وَبَذْلٍ، فَأَثْمَرَ تَراكُمُ خبراتِهم وجهودِهم نموًّا وازدهارًا وتمايزًا وتألُّقًا في جودة العمل والعطاء.
جامعتُنا حلقةٌ ذهبيّةٌ في سلسلةِ العملِ التربويّ لِكنيسةِ أنطاكية، تحت كنفِ دَيرِ سيّدة البلمند. إذ تعود جذورُ الحياةِ العِلميّةِ في البلمند إلى العام 1833، زمنِ تأسيسِ المدرسةِ الإكليركيّةِ البلمنديّة، التي قدّمَتْ للكنيسةِ جِيلَ رجالِ الخدمةِ والفكرِ والمثابرةِ في العمل، حتّى أَثمرَتْ في النصف الثاني للقرن العشرين ثانويّةَ السيّدة، ومعهدَ القدّيسِ يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتي، وكُلّيّاتِ الجامعةِ على تَفَرُّعِها كما نعرفُها اليوم. مائةٌ وخمسٌ وثمانون سنةً مِنَ التأنّي والسَّعيِ الحثيثِ لِتَذليلِ المصاعب، حتّى بَلَغْنا ما بَلَغْناهُ مِن خبرةٍ مؤسَّساتيّةٍ ونجاحاتٍ يسجّلها التاريخ.
نحن قومُ نكرم الذين سبقونا ونجلّ أتعابهم. ولكنْ، يبقى الاستمرارُ في الشهادة لفرادتنا وفي الخدمةِ والعطاءِ والإبداعِ أمانةً جسيمةً تُلْقِيها الكنيسةُ على عاتقِنا في هذه الأيّام.
يا أحبّة،
المؤسّسةُ التربويّةُ والتعليميّةُ في الكنيسة تُوجَدُ مِن أجل خدمةِ الإنسانِ وخَيرِه ونُمُوِّه وازدِهارِه في المجتمع ومَيادين العمل والتنمية. غايتُها النهائيّةُ التوجُّهُ نحو الناس والتنبُّهُ لحاجاتِهم الحقيقيّة، المعنويّةِ والمادّيّةِ على السَّواء، وتكوينُ تَصَوُّرٍ واضحٍ لتحدِّياتِهم وتطلّعاتِهم وأهدافِهم، والسعيُ الحثيثُ إلى رَفْدِ رُؤاهم وتلبيةِ الحاجات على أكمل وَجه. وأيُّ انزِياحٍ عن هذا الهدف يؤدّي إلى ضبابيّةٍ وعدمِ وضوحٍ في الرؤيةِ والعمل. لأنّ المؤسّسةَ في الكنيسةِ والمجتمعِ هي الوسيلةُ لا الغاية. أمّا الغايةُ النهائيّةُ فهي مؤازرةُ الإنسانِ لكي ينفتحَ، عَبْرَ تسلُّحِه المسؤولِ بالمعرفة والحِرَفيّة والاختصاص، على آفاق العطاء واللقاء والتبادل البنّاء مع الآخر، سواء أكان الآخر من ديني أم من غير ديني، ومن وطني أم من أرضٍ غريبة. رسالةُ مؤسّسات الكنيسة، لا سيما التعليميّةِ منها، أن تفتح قلوبَ الناس وأذهانَهم على نعمة الله التي يحيا فيها المرءُ بالتأنّي والرِفق والطلب الدؤوب للحقيقة. رسالةُ الجامعة أن تنشئ جيلاً من الخرّيجين ممتلئًا حياةً. لأن "مجد الله"، كما يعبّر القديس إيريناوس أسقف ليون، "هو الإنسانُ المفعمُ حياةً".
لذا تتطلّعُ كنيسةُ أنطاكية أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضى إلى الدَّورِ المحوَريّ لجامعة البلمند في تجسيد رؤيَتِها الخدماتيّةِ في واقع مجتمعاتنا. نقف اليوم على عتبة منعطفٍ تاريخيٍّ في منطقتنا، مَخاضٍ تاريخيٍّ أحدَثَتْه السياسة والحروب وعدمُ الاستقرارِ في حياة أهلِنا وشعوبِنا. أمواجُ الهجرةِ العاتيةُ أدّت إلى إعادةِ توزيعِ شريحةٍ من أبنائنا في شَتاتٍ جديد، وإلى طَرحِ العديدِ من الأسئلة الوجوديّةِ على إنسان الشرق الأوسط في مواجهته للتحدّيات الراهنة لبقائه وعيشه الكريم في هذه الأرض. نحن نصلّي برجاءٍ كبيرٍ لكي تنتهيَ النزاعات المسلّحة في سوريا وفي كل المنطقة في أسرع وقت. نصلّي لكي تُبلسَمَ الجراح، ويعودَ النازحون إلى بيوتهم، ويرجع المخطوفون إلى أهلهم، لا سيما مطرانا حلب يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي. نصلّي لكي تنطلقَ ورشُ الإعمار على كافة الصعد، لا سيما إعمارُ الإنسانِ الشخص، إنسانِ القلبِ والعقل، عَبْرَ مبادرات التربية والتوعية والمصالحة وإعادة مدّ الجسور بين الناس، وترميم الشعور بالمواطَنَةِ والوَعيِ الإنسانيّ للشراكة الحقيقيّةِ بين البشرِ على اختلاف انتماءاتِهم. وذلك لا يستقيم إلّا بالفكر الجامعيّ النيّر، الذي يضيء على حقائق الأمور وعلى حاجات الإنسان المعاصر وسُبُلِ تلبيتها، من أجل رأب الصدع في مجتمعاته. نعم، ننتظر من جامعاتنا في هذه المرحلة الدورَ الرياديَّ الذي طالما لَعِبَتْه جامعاتُ لبنانَ في صَوْغِ الوَعْيِ الجَماعيِّ الإنسانيِّ في منطقتِنا عَبْرَ الاستفادةِ مِن غنى التنوُّع، وقراءةِ حيثيّاتِ التاريخ بمسؤوليةٍ ووعيٍ، والاعتبارِ من مسالِكِه المتعرِّجةِ، واستلهام خبرات الشعوب التي سبقَتْنا في مجالاتِ هَدْمِ جُدرانِ التفرقة والعداوةِ، ومدِّ يَدِ التعاونِ على بناء مجتمعٍ أفضلَ وبيئاتٍ حاضنةٍ لثقافاتِ التلاقي والتعاضدِ والعملِ معاً.
ننتظرُ مِن جامعتنا في البلمند رسالةً إنسانيّةً أخلاقيّةً واضحةً تُوجِّهُها إلى مجتمعاتنا في عهد تشظّي القِيَمِ وانحلالِ الروابط التقليديّة وتفكُّكِ بُنى الأُسرة النموذجيّة التي لطالما تنعَّمْنا بها في مشرقِنا الغنيّ في موروثاته الحضاريّة. ثقافةُ التّفكيكِ السّائدةُ اليومَ في الأوطانِ والمجتمعاتِ والعائلات لا يُـمكِنُ لَـها أن تَبنيَ الحضارة. لذلك نرجو من جامعةِ البلمندِ أن تَنشُرَ ثقافةَ الـجَمعِ إزاءَ ثقافةِ التّفكيك، وثقافةَ البناءِ إزاءَ ثقافةِ الـهَدم، وثقافةَ الوَعيِ والانضباطِ في مواجهةِ ثقافةِ التفلُّتِ والفوضى اللامسؤولة. نحن نؤمن بالمقارَباتِ الجمعيّة التكامليّة، بِجَمْعِ المتفرّقاتِ من أجل استثمار غنى التعدّدية، سواءٌ في الانتماء، أم في المعتقد، أم في الفكر والتقاليد واستقراءِ التاريخ. وهذا يتحقّق بمُنطلقَين اثنين طالما أَلهَما عملَنا في البلمند وهما الانفتاحُ والحوار. وكم تبرز الحاجة إلى هاتَين الفضيلتين في ظلّ ما تَشْهَدُه أيّامُنا من تأجّجٍ لنار العصبيّات والتطرّف، وما يصحبُ هذا من إيديولوجياتٍ وتعابيرَ ونزعاتٍ لا تبني الإنسان ولا تحقّق خيره، بل تؤدّي به إلى الاعتكاف في بيئات منغلقة، مستهلِكة، لا تقوى على التحرّك صوب الآخر، ولا قدرة لها على العطاء والخلق والإسهام في بناء مجتمعٍ حيّ.
أحبائي،
تقوم الخصوصيّة التربويّة لجامعتِنا على الرؤيةِ المسيحيّةِ المشرقيّةِ الأرثوذكسية والآبائيّةِ للإنسان. هذه المقاربةُ الشموليّةُ التي تتناولُ الإنسانَ في كلِّ أبعادِ وجودِه ومستوياته. الإنسانُ المخلوقُ على صورةِ الله ومثالِه هو وَحدةٌ جسديّةٌ نفسيّةٌ روحيّةٌ اجتماعيّة تتكاملُ في التربيةِ والتمرّسِ على المعرفة الفكريّة، والاختبار الحياتيّ، وتدريبِ الحواسّ، واستلهامِ شركة العيشِ والتفاعلِ والتثاقفِ مع الناس ومجتمعاتِهم. وجامعةُ البلمند وُلدت لتكون مِنبرًا للتلاقي ومشغَلاً للإبداعِ بكلّ ما يتطلّبه التلاقي والإبداعُ من النقدِ النافذِ، والتواصلِ الناجعِ، والدقّةِ العلميّةِ، والتِّقانةِ العاليةِ، والاستمراريةِ في التدرّبِ والتمرّسِ والأداء، والتبصّرِ الإنساني، والحدْسِ الفنّي، والأداءِ الموهوب، وتكريس الذاتِ، وعطاء القلبِ والروح. رهانُ جامعتِنا يقوم على الجودةِ التعليميّةِ التي تؤمّنُ وحدَها مجالاً للاستمرارِ في العطاءِ والخدمة في بلدٍ كلبنان. هي تُؤْمِنُ بوجوبِ أن يكون الإسهامُ البحثيُّ الأصيلُ في قِمّةِ أولويّاتها. تؤمن أن الجامعاتِ هي مختبراتٌ للخَلْقِ العِلميّ والإنتاج الفكريّ ونشرِ الجمال. والتحدّي الأصعب الذي تواجهُهُ جامعتُنا هو أن تُبرز أهميّة العلومِ الإنسانيةِ في مجتمعاتٍ يكادُ يطغى فيها منطِقُ الاستهلاكِ في سوقِ العملِ على مُحترَفاتِ الفكرِ والفنِّ والعطاء. ومن هنا تشديدنا على رسالة جامعتنا في تمتين الحضور المشرقي والمسيحي الإسلامي النقي. لقد وعت جامعتنا هذا فكان من ضمن صروحها مركز الدراسات المسيحية الإسلامية ومعهد التاريخ والآثار ودراسات الشرق الأدنى ومركز الشيخ نهيان للدراسات العربية وحوار الحضارات.
ويأتي مستشفى البلمند، والذي هو في طَورِ الإنشاء، ليعزّز بما يقدّمه من الخدمات الصحيّة، إمكاناتِ الخدمة والعيش الكريم في لبنان الشماليّ، ويؤمّنَ فُرصَ دراسةٍ وعملٍ جديدةً لأبنائنا في المنطقة فلا ينزحون، بل يتمكّنون من التمسّك بأرض آبائِهم وأجدادِهم واستثمارِها، ويشجّعون إخوتَهم الشبّانَ على العودة من المهاجر والعملِ والاستقرارِ في بلادنا. نتطلّع أن يُسهم المستشفى في النهوض في مستوى العيش في هذه المنطقة لأن شعبَنا يستحقُّ خيرَ ما في هذه الأرضِ من مؤسّساتٍ وخدمات.
أيها الحفل الكريم،
لبنانُ كبيرٌ في مدارسه وجامعاته. يَرفُدُ مُحيطَهُ العربيَّ بالعلمِ والفكرِ ومَناهجِ الإبداع. ولطالما كان لَهُ دَورُ الرّيادةِ في إطلاقِ ورشِ العملِ التربويِّ في مُحيطِهِ العربيّ، وتَسريعِ عَجَلَةِ المشاريعِ البنّاءةِ في مجالاتِ الفكرِ والأدبِ والإنسانيّاتِ، والعلومِ الوضعيّةِ على ألوانها، والتقنيّاتِ الحديثة، والابتكارِ الفنّيّ، واستلهامِ الجمالِ في الإنسانِ والطبيعةِ والدين، واستثمارِ خيراتِ الأرضِ دون العبثِ بالبيئةِ وانتهاكِ الثرواتِ الطبيعيّة. لا بدَّ لجامعاتنِا من تذكير اللبنانيّين بالدَّورِ الحضاريِّ لِوَطنِهم، وَمِن إذكاءِ الشُّعورِ بضرورة التمرّدِ على كلِّ أشكالِ الفسادِ التي حوَّلَتْ موطنَهم إلى بيئةٍ جريحةٍ مستنزَفة. الجامعاتُ في لبنان، حين تَنأى عن الـمُتاجرةِ بالتعليم، تحملُ شُعلةَ الحقيقةِ وتفضحُ ظلمةَ الفسادِ والـمُفسِدين. وهذا لا يتحقّقُ إلاّ بالنقدِ الذاتيّ الصادقِ، وبالوقوف بتجرُّدٍ أمامَ الربِّ سيّدِ الأرضِ والسّماء، لاستِلهامِ وصاياهُ والتسلُّحِ بنعمتِه وصَلاحِه.
انطلاقاً من هذه الرؤية، أخاطب رئيس جامعتنا الجديد المؤتمن على هذا الإرث العظيم الذي راكمته الأجيال ونسلمه إليه اليوم:
أيها الطبيبُ والأستاذُ الجامعيُّ اللامعُ في علمه وتدبيرِه، وفي روحِه المعطاءِ وقلبِه المخلِص، أنظارُنا كلُّها مشدودةٌ إليك في هذه الساعة المفصليّةِ مِن تاريخِ لبنانَ ومُحيطِه العربيّ، وتَبَلْوُرِ العملِ المؤسّساتيِّ فيهما. رسالتُك وطنيّةٌ وكنسيّة. أنتَ هنا لِتَخدِمَ لبنانَ بِكُلّ مُكَوِّناتِهِ وامتدادِه، وَلِتَخدِمَ كنيسةَ أنطاكيةَ وسائرِ المشرق مِن منبر جامعيٍّ لَهُ فَرادتُه وَلَهُ رسالتُه الإنسانيّةُ الفريدة. لطالما كنتَ رجلَ الخدمةِ الطبيّة، والتعليمِ الجامعيّ، والابتكارِ العلميّ، والتطوُّرِ التقنيّ، وفَتحِ الآفاقِ الجديدة. خبرتُكَ طويلةٌ في ميدان العمل الجامعيّ على المستويَين المحلّيّ والعالميّ. نحن فخورون بك وفرحون، اليوم، يا دكتور الياس ورّاق، بتسلُّمكَ مَهامَّ رئاسةِ جامعة البلمند العزيزة على قلوبنا كلّنا. نضعُ الأمانة بثقةٍ وتقديرٍ بين يديك، إذ نرى فيكَ الرجلَ المؤهّلَ والقادرَ على حمل هذه المسؤولية الكبرى، والطُموحَ الواعدَ لطلاّبِنا وأساتذتِنا وإدارييّنا وأمنائِنا. نتوسّمُ في عملك حقبةَ ازدهارٍ ونموٍّ وريادةٍ وتوثّبٍ نحو المستقبل، وندعو لك بالتوفيقِ والنجاح. ألا بارك الربُّ الإلهُ عملَك، وأعطاك كلَّ حكمةٍ وقوّة وبصيرة، وثبّتَ خُطاكَ في كلّ عمل صالحٍ يسمو بجامعتنا وبلبناننا إلى غاية المنى. بارك الله جميع العاملين في الجامعة أساتذةً وطلاباً وإداريين ومجلس أمناءٍ ومحسنين. بارك الله جامعة البلمند وحفِظها بيتًا رحبًا يخدِم الإنسانَ ويمجدّ الخالقَ بالعلمِ والخُلُقِ والعطاء.
عشتم وعاشت جامعة البلمند وعاش لبنان.
ولله المجدُ في كلّ شيء.