عظة البطريرك يوحنا العاشر في القداس الإلهي في…
عظة البطريرك يوحنا العاشر
في القداس الإلهي في كنيسة القديس سابا - بلغراد، 14 تشرين الأول 2018
صاحب الغبطة،
الإخوة المطارنة المشاركين لنا في الخدمة،
أيها الشعب المحب المسيح،
جمعتنا اليوم مائدة الرب الشكرية ومن حولها رفعنا بخور صلاتنا أمام المسيح له المجد. اليوم كنيسة أنطاكية وكنيسة صربيا تسجدان أمام الحمل الذبيح من أجل خلاص العالم، أمام "الذي يؤكل ولا ينفد بل يقدس الذين يتناولونه"[1]. فما أطيب كأس الرب الشكرية التي جمعتنا بكم يا إخوة! وما أجلَّها لحظةً تزول أمامها ترهات التاريخ والجغرافية لنتحد معاً فماً واحداً وقلباً واحداً نقتات من محبة فادينا خبزاً جوهرياً قوت حياةٍ ونرتشف من كأسه المقدسة نبع خلاص وإكسير شفاء.
صاحب الغبطة،
أيها الإخوة،
من الخبز السماوي غير الفاني أردت أن أبدأ كلامي ومن شعر خالد لمرنم مسيحي عظيم أورد قائلاً:
"فلنعلمنَّ جميعنا يا معشر الحائزين
إيماناً كلياً بالمسيح،
أننا باقترابنا بورع من الخبز السري
واغترافنا بعدها من كأس الخلاص
مدفوعين بنية طاهرة نقية،
ومساهمتنا كلنا في جسد المسيح ودمه
بإيمان حي به،
(فلنعلمنّ) أننا ننال الرجاء أن نحوز مواطنة شبيهة بما للملائك.
بالحق إن جسد المسيح الأقدس الذي قاسى الآلام هو
خبز سماوي لعدم الفناء"[2]
هذا كلام رومانوس المرنم الذي نقيم بحسب التقويم الشرقي تذكاره اليوم[3]. ومن كلامه ومن ذكراه وهو القديس الأنطاكي المولود في حمص والخادم في بيروت والقسطنطينية، يطيب لي أن أتأمل مائدة الرب الشكرية التي جمعتنا اليوم مع إخوتنا في صربيا. وفِي ذكرى حنانيا الرسول الذي يتقاسم اليوم الليتورجي معه، ونتقاسم نحن معه جيرة الشارع المستقيم، يحلو لي أن أستذكر كلامه لبولس الرسول: "قد أرسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق ... كي تبصر وتمتلئ من الروح القدس"[4]. ويطيب لي بادئ ذي بدء أن أنقل إلى الأحبة في صربيا محبة إخوتهم في كنيسة أنطاكية هناك حيث دعي التلاميذ مسيحيين أولاً.
من أنطاكية التي عمّدت بولس بيد حنانيا أول أساقفة دمشق، ومن أنطاكية بطرس وبولس وبرنابا وكوارتوس وإغناطيوس الأنطاكي ويوسف الدمشقي أطل عليكم. ومن أنطاكية لوقا الإنجيلي والدمشقي يوحنا ورومانوس المرنم التي جدلت عشقها للمسيح موسيقى ورسماً وشعراً ولاهوتاً أعانق كنيسة الشهداء والأبرار في صربيا.
المسيح ضمان حياتنا والمسيح وحده ركيزة وجودنا. لعل هذا ما يمكن أن يختصر ما واجهته وتواجهه كنيسة أنطاكية وكنيسة صربيا. منذ ألفي عام والمسيحية مغروسة في الشرق ومزروعة في أرض صربيا التي وصلها رسل الرسل. والإيمان عندنا وعندكم، يا إخوة، يتخطى مجرد الفعل العقلي ليمسي شيئاً من كينونة الوجود وصميمه. في تاريخها تجاوزت أنطاكية كل وعورة التاريخ وحفظت درة المسيح في محارة قلبها. وصربيا أيضاً تجاوزت جلجلة آلامها لتنبض بيسوع فجر قيامة.
يجمعنا اليوم سر الشكر الإلهي، والليتورجيا بجوهرها هي حركة شكران. وجمعتنا وتجمعنا إلى اليوم وحدة الإيمان منذ فجر المسيحية. ووحدة الإيمان هذه تترجمها إلى عالم اليوم حقيقةً وواقعاً ملموساً وحدةُ الشهادة ليسوع المسيح وسط كل تحديات عالم اليوم. ومن هنا يا أحبة ضرورة المصارحة وتبادل الخبرة بكل ما من شأنه توحيد الشهادة الأرثوذكسية في عالم اليوم. إن المجمعية السليمة المرتكزة بالدرجة الأولى إلى كأس الشركة الواحدة هي الركيزة والأساس.
لقد ابتدأ التحضير لمجمع أرثوذكسي كبير منذ مطلع القرن الماضي. لكن خيبة أملنا كأنطاكيين من التسرع في عقده من دون حلحلة عقد كبيرة حالت دون اشتراكنا مع ثلاث كنائس أخرى في مجمع كريت ٢٠١٦. نذكر وبألم شديد ما بدر من تعدٍ مقدسي علينا بإقامة أبرشية لبطريركية القدس في قطر في آذار ٢٠١٣ وإقامة مطران عليها رغماً عنا. ونذكر أيضاً وبالمرارة عينها فشل العمل الأرثوذكسي الجامع لحلحلة هذا الملف مما حدا بِنَا إلى قطع الشركة مع بطريركية القدس وذلك بعد استنفاد كافة السبل إلى حل الملف وتصلب الموقف المقدسي تجاه كل المبادرات. وكل هذا حصل ويا للأسف حين كانت كنيسة أنطاكية تتلقى الضربة تلو الأخرى في تهجير أبنائها وتهديم أوابدها وخطف كهنتها ومطارنتها مطراني حلب يوحنا ابراهيم للسريان الأرثوذكس وبولس يازجي للروم الأرثوذكس المخطوفين إلى الآن منذ أكثر من خمسة أعوام. لسنا هنا لنضع اللوم على أحد فيما جرى بالنسبة لمجمع كريت، لكننا هنا لنتأمل ولو قليلاً في أجندة ما جرى ويجري. لماذا علينا أن نناقش قضايا كالاستقلال الذاتي أو الإدارة الذاتية في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى وحدة كاملة وكنائس راسخة؟ مما لا شك فيه أن الأرثوذكسية يجب أن تتطارح مشاكلها في اجتماع الكبار ولكن من غير المنطقي أن يقتصر اجتماع الأحبار على محاولة حلحلة هذه الأمور من دون أن يقول كلمة حياة ينتظرها منا عالم اليوم.
أقول كلمةً هنا وللتاريخ: أنطاكية المسيحيةِ الأولى والمجمعيةِ الرسوليةِ أجبرت أن تكون خارج كريت ٢٠١٦ ولَم تشأ من ذاتها أن تكون. وما أجبرها هو، بالدرجة الأولى، غياب الشركة الكنسية مع إحدى الكنائس وتسويف إيجاد الحل أو وضعه وراء أفق المجمع بالإضافة إلى أمور أخرى تأتي بدرجة ثانيةٍ منها ملاحظات على إلزامية القرارات وعدم انجلاء الصورة فيما يخص قضية الانتشار الأرثوذكسي وغير ذلك من ملاحظات على الوثائق. هذا لسان حال أنطاكية. وكلمة سرها، وهي ابنة ألفي عام من المجمعية المسيحية، للعالم الأرثوذكسي ولغيره ولنجاح كل لقاء أرثوذكسي جامع هي مبدأ بناء التوافق والإجماع فيما يخص القضايا الكبرى وهو ما كرسته الخبرة الأنطاكية الخلاقة في ابتكار حلول تشهد لها أروقة العمل الأرثوذكسي وكواليسه.
صلاتنا إلى المسيح يسوع، في هذه الأيام التي نسمع فيها عن تحرك رياح الاستقلالية الكنسية في أكثر من مكان، أن يدرأ عن كنيسته كل أمواج الإثنية الطاغية ويحفظ وحدة كنيسته وسط ألغام السياسة وتقلبات التاريخ وروح الفردية الهدّامة فتلتمع فيها صورة مجده. نحن أحوج إلى وقت تكون فيه المسيحية الأرثوذكسية كلمةً واحدةً وبوتقة واحدة في خضم هذا العالم الذي ينوء تحت كم من الانقسامات. وحدة العالم المسيحي الأرثوذكسي أمانةٌ يضعها يسوع المسيح بين أيدينا. وتوافق الكنائس الأرثوذكسية هو ما يصون بالدرجة الأولى وحدتها وتلاحمها. نحن مؤتمنون أن نحفظ الأرثوذكسية واحدةً موحدةً في وجه ما يعصف بعالمنا من انقسامات نتجاوزها بمن أرادنا واحداً ليتمجّد ويشع مجده إلى العالم فينا.
نحن هنا لنؤكد أمامكم وعبركم لأوروبا والعالم أجمع أن مسيحيي الشرق الأوسط جزء منه مهما جار الزمن. وقد بذلوا الغالي والرخيص ليبقوا في الأرض التي جبلتهم يمين العلي بها. في قلبهم شيء من نصاعة ثلج لبنان ومن فرات سوريا والعراق ومن هدير الأردن ومن بيارات فلسطين. وفِي كيانهم نفحة من القدس الشريف ومن الظلم الذي لحق بفلسطينها وشعبها. نحن كمسيحيين في هذا الشرق راسخون فيه وحاضرون منذ ألفي عام. وانتماؤنا إلى أرضنا هو شيء من صليب وقيامة المسيح حملناه وسنحمله دوماً. نحن كمسيحيين في الشرق نشعر ونلمسُ أن حضورنا فيه رسالةٌ وشهادة. ونحن متكلون على قوة ربنا وعلى الخيرين في هذه الدنيا لنبقى هناك راسخين متجذرين. نحن لا نطلب من العالم الخارجي أن يحمينا كمسيحيين. عشنا في الشرق ألفي عام وتقاسمنا المرارة والفرح مع إخوتنا من كل الأديان. المسيحيون لا يحتاجون حمايةً لهم بل يطلبون سلاماً وأمناً لهم ولغيرهم في الأرض التي يحيون فيها مع كل الأطياف. أعطُوا سلاماً للشرق لتروا كيف يحيا الكل فيه بوئام. الشرق الأوسط يا أحبة أكبر من مجرد أرض. هو مهبط الرسالات السماوية وأرض التجسد. ونحن كأنطاكيين كنيسة التجسد وكنيسة الحضور الملموس والحضور الحي الذي يَسطعُ شهادةً حيةً ووجوداً فعالاً يتخطّى مجرد العدد والكم إلى الفرادة والدور والرسالة. نحن مع غيرنا مسؤولون أن ننفض عن الشرق متحفيّة التاريخ وغبار الأزمنة ومؤتمنون على رسالة فادينا وعلى حضوره عبرنا وفينا في الهياكل البشرية لا في تلك الحجرية وحسب.
صلاتنا اليوم من أجلكم غبطة البطريرك ومن أجل الرعية الموكلة إلى عنايتكم الأبوية. صلاتنا أمام سيد القيامة من أجل كل الشعب الصربي ومن أجل القيمين عليه والمؤتمنين ومن أجل خير صربيا. ونثق ونيقن أنكم ترفعون صلاتكم من أجل شعبنا الطيب ومن أجل خيره واستقراره ونذكر هنا بشكل خاص جرحنا النازف المتمثل بخطف مطراني حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي منذ أكثر من خمس سنوات والذي يرسم صورة لما تعرض ويتعرض له الإنسان المشرقي من عنف وخطفٍ وامتهان كرامةٍ وسط عبثية الحروب والمصالح. صلاتنا من أجل سوريا ولبنان والشرق الأوسط بكل بلدانه ومن أجل خير العالم أجمع وسلام المسكونة.
نسأل التوفيق لفخامة رئيس البلاد ولمعاونيه لما فيه خير هذا الشعب الطيب. بوركت صربيا شعباً وكنيسةً وبوركت قلوبكم إخوتي الحاضرين. وبورك هذا اليوم بشفاعة القديسين حنانيا الرسول ورومانوس المرنم اللذين جمعانا اليوم مصفاً واحداً وعنصرةً متجددة ملتمسين مراحم إلهنا العظيم ومخلصنا يسوع المسيح، له المجد إلى الأبد آمين.