لأنّ الموت الحقيقيَّ هو مَوتُ الخطيئة
عظة صاحب الغبطة في القداس الإلهي كنيسة سيدة طرطوس
باسم الآب والابن والروح القدس، الاله الواحد آمين
صاحِبَيِ السّيادة باسيل وأثناسيوس. قُدسَ الآباءِ الأجلّاء، أيّها الأحبّاءُ جميعًا.
فرحٌ كبيرٌ لنا أن نكونَ معاً في هذا القدّاس الإلهيّ، نرنّمُ ونسبّحُ لِلرّبِّ بِفَمٍ وقلبٍ واحدٍ في هذه الكنيسة، كنيسةِ السيّدةِ العذراءِ في هذا المقامِ الشّريفِ في طرطوس.
الّرسالة والإنجيلُ اللذان استَمعنا إليهما قبل قليل، فيهِما تَذكيرٌ بشيءٍ أساسيٍّ في حياتنا، ألا وهُوَ: ما معنى الإيمان؟ ما معنى أن يقول الواحد مِنّا إنّهُ إنسانٌ مؤمن؟
وَرَدُ المقطعِ الّذي تُلِيَ من رسالة بولس الرّسول إلى أهلِ رومية قَولُه: "إذْ قد أُعتِقْتُم مِنَ الخطيئةِ أصبَحتُمْ عَبيداً لِلبِرّ"، وأيضاً: "قد أُعتِقْتُم من الخطيئةِ واستُعبِدْتُم لله". كأنّه يقول: مَن كان عَبداً للخطيئةِ لا يكونُ عَبداً لله، ومَن يتحرَّرُ مِن الخطيئة، يكونُ عبداً لله. النُّورُ والظُّلمةُ لا يجتمعان، ورَبُّنا هو النُّور، هو مُعطي الحياة، هُوَ الدَّيّان. فَكُلُّ مَن يقولُ إنّه يؤمنُ بِالرّبّ، عليه أن يَنعتِقَ من الخطيئة، أن يَبتعدَ عن الظّلمة وأن يَلتَحِقَ بالفضيلة، بالنور. فكما سَمِعنا "عندما أصبَحْنا عبيداً لِلبِرّ، خاضعينَ للرّبّ، فعلينا أن نَنعَتِقَ من الظّلمة والخطيئة."
ثمّ ينتقل الرّسولُ إلى نقطةٍ أُخرى، وكأنّه يَشرحُ ويُفسِّرُ بِشَكلٍ عَمَلِيٍّ ما معنى هذا الكلام، لأنّ إيمانَنا بالرّبّ لَهُ المجدُ ليس مجرَّدَ كلام، فنحنُ لا نؤمنُ بإلهٍ بعيدٍ في السّماء، فيما نحن على الأرض. ليسَ إيمانُنا نَظَرِيّةً جميلةً، أو فكرةً فلسفيّة. نحن مؤمنون بهذا الاله ونَعيشُ كيفَما نُريد ونَشاء، هذا لا يَجوز. ولهذا يُتَرجِمُ الرّسولُ ويقول: ما معنى القَولِ الّذي ذَكَرَهُ، أوّلًا مَن يريد أن يَعبُدَ الرّبَّ عليه أن يَنعتقَ من الخطيئةِ بنعمةِ الرّبّ.
وانتبِهُوا إلى قَولِه:" فإنّكم كما جَعَلْتُم أعضاءَكُم عبيداً للنّجاسةِ، لِلإثم، كذلك اجعَلُوا أعضاءَكُم عبيداً لِلبِرِّ لِلقداسة". هذا القَولُ يَشرحُ فيه ما معناه أنّكَ أنتَ أيّها الإنسانُ بِكُلِّ كِيانِكَ وأحاسيسِكَ ومشاعرِكَ وأعضائِكَ يمكنُكَ أن تَجعلَ كُلَّ هذه الأمور أعضاء بالخطيئة، حتّى تُمارِسَ أعمالَ الظّلمة، وفي الوقت نفسِهِ تستطيعَ أن تستخدمَ كُلَّ هذه الأحاسيسِ والمشاعرِ وَكُلَّ ما وَهَبَكَ إيّاهُ الله لِلبِرّ، لِلقداسة، وهذا بشكل عمليّ، فالإنسانُ يُمكِنُه أن َيستخدمَ كُلَّ ما في داخلِهِ كي يُسِيءَ أو يَفعلَ الخيرَ للآخر.
يُذَكِّرُنا الرّسولُ اليومَ بأنّنا إذا كُنّا عبيداً لله، فعلينا بنعمته أن ننعتقَ من الخطيئةِ ونتحوّلَ من أعمال الظُّلمةِ إلى الفضيلة. ثُمَّ يَقُولُ إنّ أعمالَ الظُّلمةِ عاقِبَتُها الموت، بينَما الانعتاقُ من الخطيئةِ والتعبُّدُ لله، ثَمَرُهُ القداسة وعاقبتُهُ الحياةُ الأبديّة.
والكلامُ هُنا على الموت. يعتقدُ الكثيرون أنّ الموتَ هُوَ مَوتُ الجسد، وليس الأمرُ كذلك؛ لأنّ الموت الحقيقيَّ هو مَوتُ الخطيئة. مَن يَجعَلْ نفسَهُ عَبداً للإثم، يَصِرْ بعيداً عن سَيِّدِ حياتِه. إنْ أحبَبْنا الله بِكُلِّ صِدقٍ، بِكُلِّ جَوارحِنا، بِقَلبِنا، بذِهنِنا، بِكِيانِنا، فَلْنُعَبِّرْ عن ذلك في كُلِّ صَلاحٍ وفضيلة. لِنَرَ وجهَ رَبِّنا في وَجهِ الإنسانِ الآخَر. فعندما نُطِلُّ على الآخَرِ إطلالَةَ مَحَبّة، آنذاكَ يُعَبِّرُ الواحدُ مِنّا عن إيمانِه بشكلِ حّيّ. وكأنَّ الشّخصَ كتابٌ مفتوح، كما يقول في الإنجيل: "يرى النّاسُ أعمالَنا الصّالحة فيمجِّدوا أبانا الّذي في السّموات".
نحن أشخاصٌ نطلبُ الحياةَ ولا نطلبُ الموت. ولكنَّ الحياةَ الحقيقيّةَ تَكمُنُ بأنْ نَحيا في هذا الشّكل، والموتُ يكونُ نتيجةَ الخطيئة. ولهذا نَرفَعُ الصّلواتِ إلى الرّبّ، لا سِيّما في هذا اليومِ وفي هذه الكنيسةِ المقدّسة، أن يَجعلَنا جميعاً نُدركُ أنّ الإيمانَ ليسَ فلسفةً وكلاماً نظريّاً، وأفكاراً جميلةً نقولُها ونفرحُ بها، بل هو أمرٌ تَنسى فيه ما وراءَكَ وتَمتَدُّ إلى ما هو أمامَك، على حدِّ تعبيرِ الرّسول. الإيمان هو أن نتذكّرَ قَولَ الرّبّ: سِيرُوا ما دامَ لَكُمُ النُّور. لذا نحن ننظرُ دوماً إلى الأمام إلى النور الحقيقيّ، كي يتحوّلَ الواحدُ مِنّا بهذا النور وينعتقَ به من أعمال الظّلمة، ويتزيّنَ بأخلاقِ الإنجيل، فيصبحَ على صورةِ خالقِه، وكما يُريدُهُ خالقُه. إنسانٌ كهذا يُمكِنُهُ أن يَشهَدَ لِلحقِّ وللإيمانِ الحّيّ.
لهذا الهدفِ نُصَلِّي جميعُنا، مسيحيّينَ ومُسلِمين، ونَطلبُ الإيمانَ الصّادقَ الحقيقيّ. يقولُ أحدُ الآباءِ النّسّاكِ الكبار، القدّيس مكاريوس المصريّ إنّه شاهدَ، فيما كانَ يتمشّى في البريّة، جمجمةً على جانبِ الطّريقِ لِشَخصٍ مُتَوَفّى، فنَكَزَ الجُمجُمةَ بِعَصاه، وقال: أينَ أنت؟ فأجابَهُ صَوتٌ: أنا في الجحيم.
- بماذا تَشعر؟
- أشعر بعذابٍ عظيم
- ولماذا تَشعُرُ بِعَذابٍ عظيم؟
- إنّنا هُنا في الجحيمِ مُقيَّدُونَ كُلُّ مِنّا ظَهْرُهُ إلى الآخَر، ولهذا نحن في عذابٍ عظيم.
يعني أنّ الجحيمَ الحقيقيَّ عندما لا يستطيعُ أحدُنا رؤيةَ وجهِ الآخَر. والجّنّةُ الحقيقيّةُ هي عندما يَرى أحدُنا وجهَ الآخَر ويُحبُّه.
رجاؤنا أن يؤهِّلَنا الرَّبُّ لأنْ نَكونَ عائلةً واحدةً، وَجْهُ كُلِّ واحدٍ منِ أعضائِها نَحوَ الآخَر، وليسَ ظَهرُه إلى ظهرِ الآخَر، لِيَرى فيه صُورةَ رَبِّهِ، فَيَنسَكِبَ عليه تَضحيةً وَعَطاءً وَمَحَبّةً وَابتِسامةً. وآَنذاكَ نَكُونُ، وَكَما كُنّا دَوماً في هذا البلد، عائلةً واحدةً، يَرى النّاسُ كيفَ نتصرّف، وَيُمَجِّدُونَ أبانا الّذي في السّموات.
فَلْيَحمِكُمُ الله ويُوَفِّقْ أمُورَكُم، ويَحْمِ سوريا وشَعبَها الحبيب. آمين