والِدَةُ الإلََهِ في الأَيقونَةِ
والِدَةُ الإلَهِ في الإيقونة
١- لاهوت إيقونة والدة الإله:
إِنَّ اسْمَ وَالِدَةِ الإِلَهِ يَحمِلُ في مَعناهُ كَلَّ سِرِّ التَّدبيرِ الخَلاصِيِّ لِلبَشَرِ. هذا ما عَبَّرَ عَنهُ المُدافِعُ الكَبيرُ عَنِ الأَيقوناتِ القِدّيسُ يوحنّا الدِّمَشْقِيُّ.
هذا الاسْمُ بِالتَّحديدِ يُشيرُ إلى الحَدَثِ الأَهَمِّ في البَشَرِيَّةِ جَمْعاءَ، ألا وهو اتِّحادُ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّةِ بالطَّبيعَةِ البَشَرِيَّةِ، وبِالتّالي هو خلاصُ البَشَرِ مِنَ الفَسادِ والخَطيئَةِ.
صحيحٌ أنَّ اصطلاح "والدة الله" أًثبِتَ في المجمع المسكوني الثالث المنعَقدَ في أفسس عام ٤٣١م، إلّا أنَّ روحانيَّتهُ مِن صلب الإيمان المسيحيّ. ألا نقول في الجزء الأوّل مِن دستورِ الإيمانِ الذي هو من المجمع المسكوني الأوَّل عام ٣٢٥م أنَّ "ابن الله تجسّد مِن الروح القدس ومِن مريم العذراء"؟
كذلك يجب ألاّ يغيبَ عن فِكرِنا ما قالته أليصابات للعذراء عندما أتت مريم لتخدمها بعد البِشارةِ مباشرةً: "فمِن أين لي هذا أن تأتي أمُّ رَبِّي إليَّMήτηρ τοῦ Κυρίου" (لوقا٤٣:١)؟
وقد استعُمِلَ الكسندروس الإسكندريّ (٣١٣-٣٢٦م) هذا الاصطلاح قبل المجمع الثالث، وقال القدّيس غريغوريوس النزينزي (+٣٨٠م) "ملعون كلّ من لا يقول إنّ مريم هي والدة الإله THEOTOKOS θεοτόκος.
فكلمة θεοτόκος مركّبة منθεός أي الله و Τόκος (مولِد) مِن الفعل τίκτω وتعني يلِد، أي خروج الجنين مِن الرحم وعلى أساسِها تُصبح مريم العذراء θεοτόκος، أي هي والدة الإله غير المنفصل في طبيعتيه الإلهيّة والبشريّة، وليس Χριστοτόκος أي أم المسيح كما ادّعى نسطوريوس عندما وقَع في الهرطقة.
الرّبّ يسوع المسيح مولود غير مخلوق، بمعنى أنّه لم يولد من أب بشريّ ولا هو مجبول بيد، بل هو إله كامل مولود من الله الآب خارج الزمن، وعندما تجسّد أصبح أيضًا إنسانًا كاملاً مولودًا من العذراء مريم في الزمن. فجمع بتجسّده الطبيعة البشريّة مع الطبيعة الإلهيّة.
٢- والدة الإله في الكتاب المقدّس:
بَينَ السِّفرِ الأَوَّلِ مِنَ الكِتابِ المُقَدَّسِ وَالسِّفرِ الأَخيرِ مِنهُ، أَيْ بَينَ سِفْرِ التَّكوينِ وسِفرِ الرُّؤيا، نَتَعَرَّفُ إلى العَذراءِ مَريَمَ صاحِبَةِ النَّسلِ العَظيمِ، أمِّ يسوعَ المسيحِ ساحِقِ رَأسِ الحَيَّةِ، ونَتَعَرَّفُ أَيضًا إلى المَرأَةِ المُتَسَربِلَةِ بِالشَّمسِ، والقَمرُ تَحتَ رِجلَيها، وَعَلى رَأسِها إِكليلٌ من اثْنَيْ عَشَر كَوكَباً (رؤيا ١:١٢).
٣- والدة الإله والقداسة:
كَما تَجَسَّدَ اللهُ لِيُصبِحَ الإِنسانُ إِلهًا، هكذا هي مريمُ، ثَمَرَةُ قَداسَةِ العَهدِ القَديمِ، وبابُ العَهدِ الجَديدِ، وهي لَيسَتْ حوّاءَ الجَديدَةَ وحسب، بل نَموذَجُ قَداسَةِ الإِنسانِ الَّذي يَتَلَفَّظُ بِما تَلَفَّظَتْ بهِ أمامَ دَعوَةِ اللهِ لَها عِندَما قالَتْ لِلْمَلاكِ: هوذا أَنا أَمَةُ الرَّبِّ، لِيَكُنْ لي بحَسَبِ قَولِكَ.
جَوابُ مَريمَ هذا هُوَ العُنوانُ العَريضُ لِلتَّأَلُّهِ. فاللهُ يَدعو وَالإِنسانُ يَقولُ: آمين.
وليسَ لِلْقداسَةِ مَصدَرٌ آخَرُ غَيرُ اللهِ، مِن هُنا ابتَهَلَتْ مَريَمُ في تَسْبِحَتِها قائِلَةً: "تُعَظِّمُ نَفسي الرَّبَّ وتَبتَهِجُ روحي باللهِ مُخَلِّصي". (لوقا ٤٦:١).
٤- ما تقوله لنا والدة الإله في الإيقونة:
اللهُ هو المُخَلِّصُ الوَحيدُ، وَما من مُخَلِّصٍ آخرَ نَدنو منهُ. ولَوِ اقتَرَبْنا أَكثَرَ مِن إيقونَةِ والدَةِ الإِلهِ لَسَمِعْنا ما خاطَبَنا بِهِ القدّيس يوحنّا الإِنجيلِيُّ قائِلاً: "انظروا إلى الَّذي كان من البَدْءِ، وبِغَيرِهِ لَم يَكُنْ شَيءٌ مِمّا كانَ، والَّذي فيهِ كانَتِ الحَياةُ والحياةُ كانَتْ نورَ النّاسِ" (يوحنا ١:١).
نعم، هذا هو الإله الذي تَحْمِلُهُ العَذراءُ مَريمُ بَينَ ذِراعَيها: الرَّبُّ القَديرُ الَّذي صَنَعَ بِها عَظائِمَ، واللهُ الَّذي ارْتَضى أَنْ يولَدَ من أَحشاء امرَأَةٍ طاهِرَةٍ نَقِيَّةٍ.
وَتُكْمِلُ مريَمُ مَعَ التِّلميذِ الحَبيبِ لِتُعلِنَ أيضًا: "الكَلَمِةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا " (يوحنا ١٤:١). فَما لَمَسَتْهُ يَدَيها تُخبِرُنا بِهِ لِكَيْ يَكونَ لَنا شَرِكَةٌ مَعَهُ وَيَكونَ فَرَحُ السَّماءِ كامِلاً.
٥- والدة الإله وسر التجسّد:
كَيفَ لِلْخالِقِ أَنْ يُصْبِحَ إِنسانًا؟ هنا السِّرُّ بِكامِلِهِ، وكُلَّ أَيقونَةٍ لِوالِدَةِ الإِلهِ تعطي جَوابًا. أَيقوناتُ والدة الإله تَأخُذُنا في مَسيرَةِ إيمانٍ مُتَرابِطَةٍ تَبدَأُ مِن لَحظَةِ دُخولِ مَريمَ إِلى الهَيكَلِ وتَكريسِ نَفسِها لِلّهِ مُنذُ صِغَرِها،
وحتّى لَحظَةِ وِلادَةِ ابنِها الوَحيدِ، مُرورًا بِالبِشارَةِ وأَناشيدَ المَلائِكَةِ وأَقوالِ الأَنبياءِ في العَهدِ القَديمِ، وعَلى رَأسِهِم إشِعياءُ النَّبِيُّ الّذي يقولُ في آيَتِهِ العَظيمَةِ:" ها إنَّ العَذراءَ تَحبَلُ وتَلِدُ ابناً وتَدعو اسمَهُ عِمّانوئيل أَيِ اللهُ معنا". (١٤:٧).
وَنُكمِلُ المَسيرَةَ مَع نَبوءَةِ سِمعانَ الشَّيخِ لِنُعلِنَ أيضًا: "ها إنَّ أَعيُنَنا قد أَبصَرَتْ خَلاصَ اللهِ الَّذي أَعَدَّهُ أَمامَ كُلِّ الشَعوبِ نور لاسْتِعْلانِ الأُمَمِ وَمَجداً لِلشَّعبِ الظّافِرِ والمُنتَصِرِ"، فَلا نكتفي بأن نَنضَمُّ مَع النَّبِيَّةِ حَنَّةَ إلى المُنتَظِرينَ فِداءَ الرَّبِّ وخَلاصَهُ، بل نعترف أنّه تم.
وعلى الرَّغمِ مِن سُكونِ مَريمَ وصَمتِها الدّائِمِ، نَراها تَدعونا جَميعًا بِأَعلى صَوتِها لِتَقولَ لَنا ما قالَتهُ لِلْخُدّامِ في عُرسِ قانا الجَليل: "مهما قال لكم فافعلوه" (يوحنا ٥:٢).
فَطوبى لِلَّذي يُصغي إلى هذا القَولِ ويَعمَلُ بِهِ ويَنمو عَلَيهِ فيتألّه. وها هي الشّاهِدَةُ العَظيمَةُ، مَنْ هي أَكرَمُ مِنَ الشّيروبيمِ، تَنتَصِبُ أَمامَنا حامِلَةً بَينَ ذِراعَيها مَنْ لا يَسَعُهُ الكَونُ.
وَقَد أَتَتْ هذه الوِلادَةُ العَجيبَةُ تَرجَمَةً لِحياتِها النَّقِيَّةِ وصَبرِها وجِهادِها وتواضعها وطهارتها. فَبِقَدرِ ما كانَ يُريدُ اللهُ أنْ يَتَجَسَّدَ، كانَ يُريدُ أنْ تَقبَلَ العَذراءُ، بِمِلءِ حُرِّيَّتِها، هذا التَّجَسُّدَ، لأَنَّهُ لا يَفرِضُ نفسَهُ ولا يلغي حريّة الإنسان. وها مَريَمُ، بِإِرادَتِها الكامِلَةِ، قَبِلَتْ أنْ تُصبِحَ والدةَ الإِلهِ.
ولَو أَنعمنا النَّظَرَ في أَيقونَةِ والِدَةِ الإِله، لأَخَذَتْنا الدَّهشَةُ وَغَمَرَنا التَّعَجُّبُ والفَرَحُ.
فمَريَمُ الإِنسانَةُ تُقُدِّمُ لِلْبَشَرِيَّةِ الإِلهَ المُتَجَسِّدَ.
وهي تَسأَلُ النّاظِرَ إلى أَيقونَتِها أَنْ يُشارِكَها هذا القَبولَ ويُجَسِّدَ اللهَ في حَياتِهِ؛ فَهَلْ مِن دَعوَةٍ تُوَجَّهُ إِلَينا أَسمى مِن هذه الدَّعْوَةِ؟ وَهَلْ نَحْنُ مُستَعِدّونَ لِهذا المَجدِ العَظيمِ؟
وهنا عَبَّرَ القِدّيسُ نيقولاوس كاباسيلاس في هذا السِّياقِ قائِلاً:" لَيسَ التَّجَسُّدُ عَمَلَ الثّالوثِ فَقَط، بَلْ هو عَمَلُ مَشيئَةِ العَذراءِ أَيضاً وَإيمانِها".
وهكذا، كُلُّ قَبولٍ لِهذا التَّجَسُّدِ في حَياتِنا يَتَطَلَّبُ مِنّا الإِصغاءَ وَالسَّماعَ لكلمة الله وتواضع وإفراغ للذات.
ويتابع القِدّيسُ قائلاً: "عِندَما نَظَرَ اللهُ إلى مَريمَ، لم يَسْتَطِعْ إِلاّ أَنْ يَتَجَسَّدَ مِنها".
وإذا سَأَلْنا كَيفَ تَمَّ ذلك، تَأتي اللّيتورجيَةُ لِتُعْطِيَنا الجَوابَ، فَتَقولُ:" لَقَد وُلدَ الابْنُ مِن دونِ أَبٍ، هذا الإِلهُ المَولودُ مِنَ الآبِ مِن دونِ أُمٍّ".
٦- العبور إلى العمق وتكريم والدة الإله:
يُخطِئُ كُلُّ مَنْ يَكتَفي بالشكل الخارجي لإيقونَةِ والِدَةِ الإِلهِ من دونِ أَنْ يَعبُرَ إلى العمق، إلى الجَمالِ الحَقيقِيِّ الإِلَهِيِّ الكامل، إلى قُدْسِ الأَقداسِ. وهذا الجَمالُ لا يُمكِنُ إِدراكُهُ إِذا بَقينا واقِفينَ في الخارِجِ نَنْظُرُ بعيونٍ تُرابِيَّةٍ مِن دون الروح.
وهُنا يُطرَحُ السُّؤالُ: ماذا يُمكِنُ أَنْ نَقولَ لِلَّذي يُغَيِّبُ نَفسَهُ عَن كُلِّ هذا الفِردَوسِ مُتَمَسِّكًا بِحجَجٍ كِتابِيَّةٍ مَليئَةٍ بِأَحرُفٍ أَفرَغَها مِن روحِها وباتَتْ غَريبَةً عَن روحِيَّةِ النَّصِّ نَفسِهِ وكاتِبِهِ المُلهَمِ؟ أَو بماذا نُجيبُ كُلَّ مَنْ جَرَفَتْهُ هَرطَقَةٌ، فادَّعى المَعرِفَةَ الحَقَّةَ وهو في الحَقيقَةِ أَعْمًى يَقودُهُ أَعمًى وكِلاهُما يَقَعانِ في الحُفرَةِ؟
فَمَنْ فَقَدَ أُمًّا في هذه الحَياةِ أَدرَكَ ثِقْلَ غِيابِها، فَكَيفَ بِالأَحرى مَنْ يَتَّمَ نَفسَهُ مُفتَخِرًا بِأَنَّهُ يُحسِنُ قِراءَةَ الكِتابِ، ويُقابِلُهُ آخَرُ ضاعَ الفَرقُ عِندَهُ بَينَ العِبادَةِ والتَّكريمِ؟
إنَّ التَّمْجيدَ القَويمَ لا يَتِمُّ إِلاّ في الصّلاةِ والتَّخَشُّعِ والصَّومِ. عِندَئِذٍ يُصْبِحُ بِإِمكانِنا أَنْ نَصرُخَ مَع أَليصابات قائِلينَ: "مُبارُكَةٌ أَنتِ في النِّساءِ وَمُبارَكَةٌ هي ثَمْرَةُ بَطنِكِ. فَمِن أَينَ لي هذا أَنْ تَأَتي أُمُّ رَبِّي إِلَيّ؟" (لوقا ٤٣:١-٤٤).
وَلا سَبيلَ لإيجادِ الجَوابِ خارجَ التَّدبيرِ الإِلهِيِّ ومَحَبَّةِ اللهِ اللاّمَحدودةِ لِلبَشَرِ.
اللهُ هو صاحِبُ الخُطوَةِ الأُولى، وَمَنْ قَبِلَهُ مُتَجَسِّدًا قَبِلَ الّتي تَجَسَّدَ مِنها. فَتَكريمُ والِدَةِ الإِلهِ وعِبادَةُ الرَّبِّ يُؤلّفانِ تَناغُمًا جميلاً، ويَرسُمانِ سِرًّا لا تُدرِكُهُ العُقولُ البَشَرِيَّةُ.
"ماذا نُقَدِّمُ لَكَ أَيُّها المَسيحُ الإلهُ؟ السَّماءُ تُقَدِّمُ لَكَ المَلائِكَةَ، والأَرضُ خَيراتِها، أَمّا نَحنُ فَنُقَدِّمُ لَكَ أُمًّا عَذراءَ".
هذه التَّرنيمَةُ يُرَنِّمُها المُؤمِنونَ عَشِيَّةَ عيد الميلاد، وهي تُعَبِّرُ عَنِ الإِكرامِ والإجلالِ الّذي يَكِنُّهُ كُلُّ مُؤمِنٍ في الكَنيسَةِ أَدرَكَ معنى قَولة مَريمَ: "تُطَوِّبُني جَميعُ الأَجيالِ ".
وقَد أَتى هذا الإِكرامُ بشكل طَلَب يَسوعَ الأَخيرِ عَلى الصَّليبِ بِقَولِهِ "هذِهِ هِيَ أُمُّكَ" (يوحنا ٢٧:١٩) مُقَدِّمًا بِذلك والِدَتَهُ أُمّا لِكُلِّ تِلميذٍ حَبيبٍ.
مِن هنا، تُصبِحُ الإيقونة حُضورًا لاهوتِيًّا يُرافِقُ حضور السَّيِّد في حَياتِنا ويُسَلِّطُ الضَّوءَ عَلى كُلِّ الأَحداثِ الخَلاصِيَّةِ، مِنَ الخَلقِ الأَوَّلِ حتَّى الخَلقِ الجَديدِ، فَنَكتَشِفُ أَنَّ مَريَمَ لَيسَتْ مجرّد امرَأَةً بين سائر النِّساء، بَلْ تُمَثِّلُ كُلَّ إِنسانٍ يَحيا في هذا الكَونِ بحيث تُصبِحَ البشريّة جمعاء مَدعُوَّةً مَعها إلى أَنْ تَمتَلِئَ مِنَ الرّوحِ القُدُسِ لِتَلِدَ المُخَلِّصَ.
هذا بِالتَّحديدِ ما عَناهُ الرَّبُّ يَسوعُ عِندما قالَ: "مَن يَصنَعْ مَشيئَةَ أَبي الَّذي في السَّماواتِ فهو أُمّي وإِخوَتي"(متى ٥٠:١٢). ومَن في هذه المَسكونَةِ عَمِلَ بِهذهِ المَشيئَةِ الإِلهِيَّةِ أَكثَرَ مِن والدَةِ الإِلهِ نَفسِها؟
فَعَظَمَةُ مَريَمَ تَكمُنُ في أَنَّها كانَتْ تَسمَعُ كَلَمِةَ اللهِ وتَحفَظُها في قَلبِها، أَي إنَّها أَصبَحَتْ وَإِيّاها واحِدًا؛ وهناك عبارة "ايباكويي" أَي إنَّها كانت تَحتَ السمْع أَي في طاعةٍ كاملةٍ لكلمة الله.
مِن هُنا، يَصِحُّ القَولُ: "كونوا مَريَمِيّينَ فتَخلُصوا".
وَلَيسَ في هذا انحِرافٌ، لأَنّ المَعنى الحَقيقِيَّ لِهذهِ العِبارَةِ هو أَنَّ النِّعمَةَ قد أُعطِيَتْ لِكُلِّ إِنسانٍ لِكي يلدَ المَسيحَ في حَياتِهِ وحَياةِ الآخرينَ.
وَمن ولد المسيح أَصبَحَ هو نَفسُهُ مَسيحًا بالنعمة.
٧- والدة الإله تدعونا:
تَدعونا والدَة الإِلهِ في إيقوناتها إلى التَّأَمُّلِ في اتّحادِ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّةِ بِالطَّبيعَةِ البَشَرِيَّةِ؛ فَنَرى هذا الأمرَ مُتَجَسِّدًا في يَسوعَ المَسيحِ. هي تقودنا إلى المسيح.
العَذراءُ تتقدّم المُؤمِنينَ وتَسبِقُهم وهُم يَتبَعونَها. سَبَقَتْنا في وِلادَتِها المُخَلِّصَ وسَبَقَتنا في رُقادِها، وقَد رَفَعَها الرَّبُّ فَعَبَرَتِ المَوتَ المَغلوبَ بِابْنِها القائِمِ في اليومِ الثّالِثِ، وها نَحنُ في كل جيل وجيل نطلب شَفاعَتِها.
"جُعِلَتِ المَلِكَةُ عَن يَمينِكَ بِذَهَب اوفير". هذا ما أَنشدَهُ المُرَنِّمُ في المَزمورِ الخامِسِ والأَربَعين.
٨- إيقونة والدة الإله على حامل الإيقونات أو الإيقونستطاس:
نَرى أَيقونَةَ والدَةِ الإلهِ في الكنائِسِ الأُرثوذُكسِيَّةِ على الأَيقونِسطاسِ عَن يَمينِ إيقونة السَّيِّدِ، حامِلَةً الرَّبَّ يسوعَ. في صلاة السَّحَرِ، يخرُجُ الكاهِنُ أَوِ الشَّمّاسُ لِيُعلِنَ مِن أَمام البابِ المُلوكِيِّ بِصَوتٍ جَهورِيٍّ وتَخَشُّعٍ كَبيرٍ: "لِوالِدَةِ الإِلهِ وأُمِّ النّورِ بِالتّسابيحِ نُكَرِّمُ مُعَظِّمينَ". ثَمَّ يَخرُجُ حاملاً المِبخَرَةَ لِيُبَخِّرَ كُلَّ إنسانٍ موجودٍ في الكَنيسَةِ على أَنَّهُ مَشروعُ قَداسَةٍ، كَما يَبدَأُ الجَوقَ بِتَرنيمِ ما يُعرَفُ في اللّيتورجيا الأُرثوذُكسِيَّةِ بِالتَّسبِحَةِ التّاسِعَةِ، وهي تَسبِحَةُ مَريَمَ العَذراءِ بَعدَ زيارتِها لأَليصابات. هذا الترتيب الليتورجيّ ينبثق مِن إيمان الكنيسة بشفاعة والدة الإله والإكرام الجزيل لها.
٩- الخصائص العامة والمشتركة في إيقونات والدة الإله:
تُعَرَّف والدة الإله في الإيقونة بهذه الأحرف اليونانيّة MP ΘY. وهي تلخيص عبارة Mήτηρ Θεού أي والدة الإله.
ولها اسم آخر هو Θεομήτωρ.
- الجمال:
ليس في الأيقونة جمال أرضي بل جمال إلهيّ، وهو بعيد كل البعد عن مقاييس الجمال البشريّ، إذ هو جمال النور والنعمة الإلهيّتين المنسكبين على القدّيس، فكم بالأحرى والدة الإله الممتلئة نعمة.
ليس في الأيقونة جمال أرضي بل جمال إلهيّ، وهو بعيد كل البعد عن مقاييس الجمال البشريّ، إذ هو جمال النور والنعمة الإلهيّتين المنسكبين على القدّيس، فكم بالأحرى والدة الإله الممتلئة نعمة.
- الألوان في إيقونة والدة الإله:
غالبًا ما نرى والدة الإله ترتدي اللون الخمريّ مِن الخارج والأزرق مِن الداخل. الخمريّ يرمز إلى المجد الإلهيّ والأزرق إلى الخلق، بينما الرب يسوع يرتدي العكس كونه إلهًا وتجسّد ولبس الطبيعة البشرية. هذه الأَلوانُ تُتَرجِمُ التَّدبيرَ الخَلاصِيَّ الّذي أَعَدَّهُ اللهُ للإِنسانِ، ودعوته لنا للتألّه. وهذا ما أَدركَتهُ الكَنيسَةُ مُنذُ البَدءِ وأعَلَنَهُ الآباءُ القِدِيسونَ بوضوحٍ تام. فَنقرأُ مثلًا ما قالِهُ القِدّيس ديديمس الضرير:”اللهُ أَصبَحَ إِنساناً لِيُصبِحَ الانسانُ إِلهًا“.
هذه هي غايَةُ التَّجَسُّدِ الإِلهِيِّ، أن نصبح آلهة بالنعمة.
وبِمُجَرَّد النَّظَرِ إلى أَيقونَتَيِ السَّيِّدِ والسَّيِّدَةِ نُدرِكُ ما نَحنُ مَدعُوّون إليه، فَنَشدو عِندَئِذٍ مَع بولُسَ الرَّسولِ مُرَنِّمينَ: ”لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ“. (غلاطية ٢٧:٣)
- اللباس:
تتوشّح والدة الإله بالمنديل الطويل المسمّى مافوريون Maphorion الذي يغطّي رأسها وكتفَيها، وهو مقصَّب بالذهب بحسب المزمور القائل: "منسوجة بذهب ملابسها" (مز١٣:٤٥).
فالإيقونة لا تصوّر هنا لباسها الحقيقيّ الذي كان بسيطًا جدًّا، بل فيها دلالة كتابيّة مسيانيّة تشير إلى تحقيق النبوءات فيها.
- النجوم:
النجوم الثلاث تشير إلى بتوليّة مريم العذراء قَبل الولادة وأثناءها وبعدها.
وكانت هذه النجوم قديمًا في تاريخ الفن التصويريّ تَرمز عند الملوك والحكّام إلى السمو وأنّهم أبناء العلّيّ وأصحاب القوّة والسيادة.
إلاّ أنّ هذه الصفات كلّها أخذت معنى آخر جديدًا في العذراء مريم. فمع أنَّها أضحت والدة الإله، بَقيت مِثال التواضع وإفراغ الذات والوداعة والخِدمة، وهنا بالتحديد تَكمن قداستها.
- الهالة:
رأس والدة الإله محاط دائمًا بهالة، وهي هالة القداسة التي نراها عند كل القديسين. وكلّ إنسان مدعو إلى هذه القداسة مثلها. مع التذكير أن والدة الإله "أقدس من كلّ القديسين". لهذا ندعوها "فائقة القداسة" Παναγια Panaghia
- الوجه:
نلاحظ دائمًا أن الفم صغير ومغلق لأنّ الله هو الذي يتكلّم. الأنف طويل لأنه يتنشّق رائحة الملكوت والعينان تبحران في الصلاة والتأمّل في كلام الله.
١٠- الإيقونات الرئيسيّة الأربع لوالدة الإله:
لوالدة الإله أربعة نماذج رئيسيّة مِن الأيقونات وهي:
العذراء الممجّدة Kyriotissa
العذراء المتشفّعة والآية (والتي تعرف بالأرحب من السموات (
العذراء الهادية Hodigitria
العذراء الراحمة Eleousa
ملاحظة: سنورد شرحًا لاحقًا لكل أيقونة من حيث تاريخُها ومعانيها.
وجه الربّ يسوع المسيح في الإيقونات لا يحمل سمات الطفل العادي، دلالة على إنّه إله، هو رصين ويترجم المجد الإلهيّ وعظمته "الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ" ( كولوسي ١٥:١).
"وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ." (١ تي ١٦:٣)"
هو الكلمة المُتجسّد الآتي بالخلاص لكلّ البشر، ويسمّى "عمّانوئيل" أي الله معنا، وهو يلبس ثوب البالغين في أيّامه المسمّى. Himation
أمّا لون الثوب الناريّ المُنقوش بالذهب الصافي فهو دَلالةً على أنّه الشمس التي لا تغيب. وهو الثوب نفسه الذي نراه في إيقونة الصعود.
تشدّد الكنيسة الأرثوذكسيّة على تصوير والدة الإله مع الربّ يسوع في الإيقونة لتؤكّد للمؤمن أن الرّبّ يسوع المسيح هو المُخلّص، ودور مريم مُستمد مِن أهميّة مخلّصها الذي تحمله بين ذراعيها..
بالمقابل، نجد لوالدة الإله إيقونات تكون فيها بمفردها من دون الرب يسوع، وذلك في الحالات التالية:
1- الأيقونات التي تصوّر أحداث من حياة والدة الإله وهي طفلة أو مع والديها:
- إيقونة القدّيسة حنّة مع مريم مع ابنتها.
- إيقونة مريم بين يواكيم وحنّة.
- إيقونة ميلاد العذراء.
- إيقونة دخول السيّدة إلى الهيكل.
2- إيقونة الشفاعة Deisis التي تتألف من الرب يسوع المسيح في الوسط ووالدة الإله عن يمينه والقديس يوحنا المعمدان عن يساره، وكلاهما يرفعان يديهما ويصليّان ويتضرّعان ويتشفعان.
3 - أحداث خلاصيّة معيّنة حيث تكرّم مريم العذراء لأنّها والدة الإله:
- إيقونة البشارة.
- إيقونة حاملات الطيب.
- إيقونة الصعود.
- في بعض إيقونات العنصرة.
4- إيقونة والدة الإله رئيسة أديار الجبل آثوس
فبشفاعة والدة الإله يا مخلّص خلّصنا.