رسالة رعائيّة ٢٠١٧
برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي
أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء،
يا نفحة المسيحية الأولى في هذا الشرق وحامليها إلى العالم،
يطيب لي أن أخاطبكم وأنقل إليكم وأستذكر معكم معاني الصوم الكبير المقدس في هذه الأيام المباركة.
"من أعطى خبزه للجائع فقد ابتاع لنفسه الملكوت. ومن أنكر على عطشانٍ كأسَ ماءٍ فقد أنكر على ذاته نبع الحياة. إن الله لمحبته للفقير باع ملكوتَه، وكيما يقدر كل إنسانٍ أن يقتنيه، سعّرَهُ الله بكسرة خبزٍ. لقد شاء الله أن يحوز الجميعُ ملكوتَه، وهو الطالب فقط ثمناً رخيصاً يمكن لكل الناس أن يدفعوه... فليكن غداؤنا عشاءً للبائس حتى تتجهّز لغدائنا مائدةُ المسيح. فلتكن أصوامنا مباهجَ للفقير حتى ينجلي صومنا في هذا الزمن مباهجَ أبدية... إن الرحمة بالنسبة للصيام هي تماماً كالربيع بالنسبة للأرض. فكما يُزغّفُ نسيمُ الربيعِ كلَّ براعم الحقول، هكذا تماماً تنمي الرحمةُ حتى الإزهار كلَّ بذور الصيام، وتقود للإثمار كلَّ فضيلة الصوم لتعطيَ قمحاً سماوياً ".
بهذه الكلمات فهم الآباء الأوائل الصيام الأربعيني المقدس. الصوم ليس مجرد امتناعٍ عن لقمة الطعام، بل هو بالدرجة الأولى رياضة للنفس كي ترتقي. الصيام أولاً وأخيراً هو لفتة محبة للأخ المحتاج ومدراسٌ لكل الفضائل التي تكتمل وتزهر في النفس البشرية. الرحمة جناح الصيام والمحبة هي قلبه وكيانه وبهما ترتقي النفس البشرية لتبلغ مدارك السماوات. والمسيح المخلص نفسه صام ليعلمنا أن نطوّع بالصيام أهواء النفس واللذة الأرضية ونستغني عن الزائل كيما نغتني بالأبدي.
نحن في أيامٍ أحوج ما نكون فيها إلى التكاتف ولو بكسرة خبزٍ. نحن شعب أنطاكيٌّ واحدٌ نثره الله على هذه البسيطة لكنَّ قلبه يبقى عند إخوةٍ له يُستهدفون حتى برمق العيش وبكَسْرة الخبز. طوال هذه الأزمة التي تعصف بالشرق، حاولنا ككنيسةٍ ونحاول دوماً أن نؤمّن كسرة الخبز لأحبائنا المترسخين في أرضهم، والمقاسين كل ويلات الحروب والدمار. نصلي ونعمل بكل ما أوتينا من قوة أن يصل رغيف الخبز إلى فم كل جائع ونأمل ونُيقن أن كافة أبنائنا في الوطن والانتشار عارفون أن الأيام الصعبة تستلزم منهم ومنا جميعاً أن نوفر لقمة العيش لنطعم بها جاراً أو قريباً أو مهجّراً أو أهلاً راسخين في الأرض الأولى، وتحت التينة الأولى والزيتونة الأولى في بلاد الوطن.
إن واجبنا هو أن نكون إلى جانبهم مهما فصلت بيننا مسافات وأن نكون دوماً ذراعاً خيرياً للكنيسة التي تصارع على كافة الصعد لتبقى ويبقى الوطن ببقاء أبنائه فيه رغم كل الأهوال. نداؤنا اليوم لكل أبنائنا في الوطن والانتشار: أنتم الكنيسة وبكم وحدكم نضمد جراح أهلنا الحاصلين في الضيق وخصوصاً في هذه الأيام المباركة التي نقترب فيها من الصوم المقدس.
صلاتنا جميعاً قلباً واحداً وفماً واحداً من أجل السلام في سوريا ووحدة ترابها والاستقرار في لبنان والحفاظ على ميثاقية العيش فيه. صلاتنا اليوم ودعوتنا إلى كل مراكز القرار في الدنيا. كفى بؤساً في هذا الشرق. نحن كمسيحيين ومع غيرنا نقاسي الحرب والإرهاب والتكفير ونقاسي مع إخوتنا من كل الأطياف والأديان كل أصناف التمييز العنصري. نحن نقاسي إرهاباً وخطفاً ومحو أوابد حضارةٍ أولى. نحن نتوق إلى السلام ونسعى ونريد وعاقدون كل عزمنا أن نبقى في أوطاننا ويبقى إنساننا في أرضه. ومن يبتغي الخير لهذه الديار فما عليه إلا أن يساعد الناس على البقاء في بيوتهم وأرضهم ليهنأوا بالسلام.
لا يسعنا اليوم إلا نضع في أسماع العالم والمجتمع الدولي ومن جديد قضية مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ ما يقارب الأربعة أعوام. إن قضيتهم وقضيتنا هي محك الحق في دنيا الباطل والمصالح. وموقفنا اليوم هو ذاته قبلاً: إذا كان المقصود من خطف المطارنة هز انتمائنا إلى هذه الأرض فنقول ونؤكد إن الشرق الأوسط هو مهبط المسيحية على هذه الأرض ووجه المسيح لن يغيب عن هذا الشرق ونحن من رحم هذه الأرض وباقون فيها إلى أن نُلاقي وجه الخالق. وقضية المطرانين تختصر ولا تختزل مأساة كل المخطوفين والمأسورين. ومن هنا دعوتنا إلى إطلاق المطرانين المخطوفين وكل مخطوف وإغلاق قضيتهما التي تدخل عامها الرابع وسط صمت دوليٍّ مطبق.
من دمشق، سلامٌ ومحبة لكم يا أبناءنا في الوطن وبلاد الانتشار وصلاةٌ حارة كي يضع الله عزاءه في قلوبكم وقلوبنا. نرفع صلاتنا في هذه الأيام المباركة إلى رب الملائكة كي يرسل سلامه إلى العالم أجمع ويزيح بصليبه صليب شقاء هذا الشرق ويكلل إنسانه بسطيع القيامة البهجة.
صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق
بتاريخ التاسع عشر من شباط للعام ألفين وسبعة عشر.