عظة البطريرك يوحنا العاشر في الكاتدرائية…
عظة البطريرك يوحنا العاشر
في الكاتدرائية المريمية، رأس السنة الميلادية 2017
أيها الأحبة،
تكرّ اليوم سبحة الأيام وتكر معها سنو حياتنا. وها نحن على عتبة عامٍ جديد نفتتحه اليوم كما دوماً بالصلاة. نحن اليوم لنجدد العهد مع رب نفوسنا يسوع المسيح أن نكون له وحده. نحن هنا لنفرش نفوسنا مهداً لذاك الذي توسّد المزود قبل ألفي عام ونرفع طرْفنا إلى ذاك الطفل الإلهي ونقدم له ذهباً ولباناً ومرّاً كنوز قلوبنا، محبّةً وتواضعاً وصبراً. نحن هنا لنغترف من وجْهِهِ مياه التعزية في محننا ولنتلقّف من ضعة مغارته بيارق الرجاء والأمل وسط مغاور وكهوف ضيقاتنا.
هو عامٌ جديد نرنّم فيه لرب الأزمان وسيدها. هو عام نجدد فيه النفس والقلب. ونتسربل فيه أجنحة الرجاء وسط كل ضيقٍ وشدة. في مثل هذا اليوم من كل عام، يرنو الإنسان إلى خالقه ويصبو إليه متلمّساً حضوره في باطن النفس والقلب البشري ويسأل ربَّ الزمان وسيد الأوقات أن يلمس قلبه ويضع يده في حياته.
يأتي رأس السنة بعد أسبوع من عيد الميلاد، وهذه الفسحة قد تكون مدعاةً لأن يقول كل واحدٍ منّا في نفسه: انظر أيا إنسان وتأمل ميلاد يسوع المسيح. ضعْه نصب عينك وتمعّن به وقرّرْ واحكم إذا ما كنت تريد من هذا الميلاد أن يكون فاتحة تجدّد وميلادٍ روحيٍّ لك. يسوع المسيح لا يقتحم حياتك ولا يغصب نفسك. أنت مدعوٌّ في الفسحة ما بين ميلاده وبدء السنة الجديدة أن تتأمل إذا كنت ترغب أن تختم قلبك بهذا المولود الجديد وتجعل من ميلادِه ميلادكَ به وميلادَه فيك. فهو إذ يولد في المغارة ويضطجع في المزود خارج المحلةِ، يطرق على الباب وينتظر أن تفتح له أنتَ مغارة قلبك ليدخل ويضطجع في كل ثنايا كيانك. هو لا يريد قلباً متكلّفاً ولا استقبالاً ملوكياً. فكّر وتأمّل وإذا ما قررتَ أن يكون هو بذاته سيّدَ حياتك، فعندها وافِه وافتح له باب سنتك وامضِ عقدَك معه. فهو لا يقتحم القلب عنوةً لا بل يريدنا نحن أن نطلبه وأن نبادر إليه تماماً كما بادر هو وانحدر من علياء سمائه ليستوطن ما بين طينتنا وجبلتنا التي اعتراها الفساد.
ورسالة اليوم وقديس اليوم هما خير دليلٍ أنّ الربّ لا يقتحم حياة أحد ولا يأسرها بل ينتظر من الآخر أن يدرك وبملء حريته أنَّ حياتَه من الرب وأنْ يؤسَر من تلقاء ذاته بذاك الطفل الإلهي البسيط الذي بذرَ تعليمه محبةً في كل الدنيا. باسيليوس الكبير، الذي نعيّد له اليوم، أخذت بمجامع قلبه الفلسفة وعلوم الدنيا الخطابية. أُشبع منها لكنّه لم يغرق في حبائل الغرور ولا في ترهات العالم الباطلة. وكأن به استمع لصوت بولس الرسول الذي سمعناه اليوم في مطلع رسالته إلى أهل كولوسي: "إياكم أن يخبلكم أحدٌ بالفلسفة وبغرورٍ باطل. وليس حسب المسيح". باسيليوس الكبير درس الفلسفة اليونانية وتزوّد من كل علوم الدنيا. لكن شباك صيادي الجليل بالنسبة له كانت أقوى من شباك مفوَّهِي أثينا وكلمة الإنجيلي البسيط حفرت في قلبه أكثر من فصاحة الخطباء، فتملّكَتْ قلبَه وانقلب كيانُه وانعجن بالربّ على رغم تزوّده بكل علوم الدنيا ومنها الفلسفة التي استعان واستفاد منها أيما فائدة. وهكذا إذاً، مضى قدِّيسُنا مكرّساً حياته للرب وخاتماً حياته بدمغته فأمسى واحداً من أعظم آباء وقديسي الكنيسة.
يطلُّ العام الجديد وسوريا الجريحة تدخل عامها السادس من الأزمة. يطل ونحن ندفع من دماء أبنائنا ليبقى الوطن. كل حمم الإرهاب وكل شظايا التكفير انصبّت على أرضنا وهي الغريبة عنها. يكفينا دماً ويكفينا خراباً. هذا البلد سيبقى واحداً موحّداً وستعود إلى أحضانه كل أراضيه كما عادت حلب. لقد أمضيت الميلاد في حلب، كما تعلمون، واتقيت بالجميع كباراً وصغاراً. تعزَّينا بهم وتعزَّوا بنا. تشدَّدنا بهم وتشدَّدوا بنا. وإنكم لن تصدقوا، أحبتي، ما شاهدناه، ماذا فعلت تلك الأيادي الغاشمة من تدمير وخراب. لم يتركوا حرمةً لا لكنيسةٍ ولا لمسجدٍ ولا لمتحفٍ ولا لبيتٍ ولا لمستشفى ولا لشيء. ولكن حلب ستعود بصمود أبنائها كما كانت وأشدَّ بهاءً. دعوتنا اليوم إلى تعزيز جهود المصالحة فيه وتمتين أسس العيش الواحد. ودعوتنا أيضاً إلى القوى الكبرى إلى المبادرة إلى رفع الحصار الاقتصادي الخانق الذي يحرم الكل من لقمة العيش بينما لا يحميهم من وابل القذائف التي تنهال على رؤوس الآمنين لأن سوقَ السلاح مفتوحة على مصراعيها. وستعود سوريا بكاملها كما كانت وكذلك أشدَّ بهاءً.
إن ما تشهده المنطقة ليدعو الجميع إلى وقفة حق وتأمّل. كفانا إرهاباً وكفانا دماءً. نحن كمسيحيين في هذا الشرق ندفع كغيرنا ضريبة ما يجري. ونحن هنا لنسمع الصوت من جديد: دماء مسيحيي مصر هي دماؤنا وبيوت مسيحيي العراق بيوتنا ونحن أخوة التاريخ والجغرافية مع مسلمي هذا الشرق ومع كل أطيافه ومكوناته، أقلياتٍ كانوا من حيث العدد أو أكثريات. وهنا ومن جديد نضع برسم العالم كله والمنظمات والحكومات قضية مطراني حلب التي تختصر شيئاً من معاناتنا كمسيحيين مشرقيين والتي تعتبر بحق طعنة الباطل في جسد الحقّ. نضع برسم الجميع قضية المطرانين يوحنا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ ما يقارب الثلاث سنين وثمانية أشهر. ونهيب بالجميع النظر إلى هذا الملف الإنساني والعمل الجاد على إطلاقهما مع كل المخطوفين.
صلاتنا اليوم من هذا المكان المقدّس، من أجل لبنان أيضاً. ودعوتنا أن يبقى هذا البلد موئلاً للمواطنة والعيش المشترك بين كل أطيافه. ندعو الجميع إلى الحفاظ على ميثاقية هذا البلد ترجمةً للعيش الواحد والمواطنة والخروج من المنطق الفئوي الطائفي إلى بوتقة الوطن الذي يسمو بتضافر جهود كل أبنائه ومن كل الفئات. نشكر الله أن الأيام الأخيرة آلت إلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية ونصلي ونأمل أن تسفر الأيام القادمة عن تبنّي قانون جديد للانتخاب وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها وذلك حفاظاً على المؤسسات الدستورية ورأفةً بالمواطن الذي يدفع من صحّته وأتعابه ضريبة غالية. إن التوافق في القضايا الكبرى التي تهم هذا البلد هو مناطٌ بتقبّل منطق الحوار الجادّ واعتماده دوماً لحلحلة كل العقد والملفات.
ونتوجه كذلك إلى جميع أبنائنا في الوطن وسائر بلاد الانتشار بسلامٍ ميلاديٍ بطفل المغارة وبركةٍ رسوليةٍ من كنيسة مريمية دمشق، من كنيسة أنطاكية، كنيسة الرسولين بطرس وبولس. بارك الله عائلاتكم وأولادكم وأعطاكم من لدنه كل نعمةٍ سماويةٍ وأرضيةٍ. سلامٌ ميلاديٌّ لأهلنا الصامدين في أكثر من بقعة من هذي الأرض. سلامٌ للثابتين في الرجاء وسط كل ما يجري من اضطرابٍ وضيق معيشة.
يا يسوع يا من هدّأ العاصف هدّئ عاصف ضيقاتنا. يا يسوع يا من اتّخذ طينتنا اجلها بنورك وأفض عزاءك في قلوبنا. يا يسوع يا من شفى أسقام الناس اشف جراح نفوسنا. ردّ المخطوفين واسِ المهجّرين أعطنا سلامك وارحمنا وارحم عالمك، فإنّك مباركٌ إلى دهر الدَّاهرين.
وكلّ عام وأنتم بخير.