كلمة البطريرك يوحنا العاشر لمناسبة منحه…
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
لمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية
الأكاديمية المسيحية اللاهوتية-وارسو، ١٦ آب ٢٠١٦
صاحب الغبطة،
السادة رئيس وأعضاء الهيئة التدريسية،
أيها الحضور الكريم،
شرفٌ لي في أول أيام زيارتي الرسمية إلى بولونيا أن أكون بينكم وأتلقى درجة الدكتوراه الفخرية من الأكاديمية المسيحية اللاهوتية في وارسو. وإذ أتوجه بالشكر العميق لغبطة أخي المتروبوليت سابا، متروبوليت وارسو وسائر بولونيا، أخص أيضاً بالشكر والتقدير الهيئة التدريسية وكل العاملين في هذا الصرح.
أنا آت إليكم من الشرق القديم. من كنف أنطاكية الثقافات الأولى. ومن وريثة فكر أرسطو ومن منارة الهلنستية إلى حوض الشرق ومنه إلى العالم. أنا آت إليكم من أنطاكية الرمز بكل ما لقوة الكلمة من معنى. قد يتوه المفكرون فيما كانت عليه أنطاكية من تأثير وتأثر فكري. مسيحياً وحضارياً، البعض اعتبرها يونانية والبعض سريانية والبعض عربية. البعض رآها آرسطية الفكر تجسدية النزعة بولسية المنحى. والبعض الآخر رأى فيها مجد الأقدمين وسكر بروميتها أو ببيزنطيتها. وكل ذلك ليس إلا تأكيداً أن كنيسة أنطاكية هي المعجن الأول لكل الثقافات ولكل الحضارات في بوتقة حضارة المحبة وثقافة المحبة التي أرساها الرب يسوع المسيح تجاه كل الناس.
ولعل فرادة التاريخ في أنطاكية تكمن أنها لم تكن يوماً، على رغم أهميتها، عاصمة سلطةٍ بل عاصمة فكرٍ ولاهوت. ومثلها مثل باقي المدن، كان لها أريج لم يزل عبقه في جنبات التاريخ وفي محاضر المجامع المقدسة وفي قلب وذهن كل مسيحي في يومنا هذا. جار التاريخ عليها زمنياً وحطم بعضاً من أسوارها لكن سور لاهوتها لم يتزعزع في شهادة حية ليسوع المسيح. أقول هذا رغم ما حدث فيها من انقسامات وما نابها من بدعٍ وما هز كيانها من انشقاقات، لأوكد أنها كانت دوماً موئلاً وساحة للاهوتٍ حيٍ انسكب تاريخاً وعقيدة وليتورجيا وفناً كنسياً وحواراً مع الآخر أيا يكن.
يسرنا اليوم كبطريرك لأنطاكية التي حفرت لنفسها في التاريخ اسم ونهج مدرسة اللاهوت التفسيرية، المدرسة الأنطاكية، أن نكون معكم وبينكم في الأكاديمية المسيحية اللاهوتية في وارسو. إن هذه الأكاديمية بالإرث الذي تنقله وبالاسم المسيحي الذي تحمله لخير دليل أن أمهات الجامعات في العالم كانت أسوار الكنائس وساحات الأديار. وهذا بحد ذاته ليس انغلاقاً ولا تفكيراً مسيحياً متزمتاً بل خير دليلٍ أن المسيحية، رغم كل هفوات المسيحيين في التاريخ والحاضر، كانت وما زالت وستبقى في أساس الحضارة الإنسانية لأوروبا ولكثير من البلدان وهي مدعوةً أولاً وأخيراً أن ترفد مجتمعاتها بكل ما لديها من جمالات وقيمٍ وأنوارٍ تمحو كل فكر انعزالي وتكفيري وتعبد بالمحبة والانفتاح السبيل إلى التقاء الحضارات لا إلى صراعها.
وأنطاكية الفكر هي ذاتها أنطاكية دم الشهداء والمعترفين. أنطاكية اللاهوت هي ذاتها أنطاكية الشهادة الحية على مر التاريخ وفي الحاضر. ولعل أهم ما يميز هذه الكنيسة أنها كانت أولاً وأخيراً كنيسة الأرض والشعب الحي. كنيسة الأجراس التي لا تجد صداها في الوديان والجدران فحسب بل في جدران النفوس وفي بواطن أعماقها. وبحكم وجودها، كان لكنيسة أنطاكية الدور الرائد في العلاقات المسيحية مع كل الكنائس والطوائف. وإذا كان البعض يتكلم عن الأخوة المسيحية المسيحية في المؤتمرات فنحن في أنطاكية، كما أنتم إخوتي في بولونيا، نعيشها في الأزقة والحارات والعلاقات الاجتماعية المبنية على رسوخ الإيمان والانفتاح على الآخر بآن معاً. وكانت أيضاً ولا تزال الكنيسة الأولى والأقرب إلى فهم الحضارة العربية والإسلامية بكل أبعادها. ومن هنا، باعها الطويل في الحوار المسيحي الإسلامي وتركيزها الأول والأخير على بناء جسر التواصل مع الآخر واكتشافها الأنا من خلاله.
لقد سعت كنيستنا الأنطاكية أن يكون لها معهد للاهوت في عصرنا الحديث والحلم أمسى حقيقة في سبعينيات القرن الماضي. وخرج المعهد المنشود يحمل اسم القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي. وهو مؤسسة تتبع مباشرة للكنيسة وتقدم العلم اللاهوتي تحت إشراف الكنيسة الأنطاكية وبإدارة منها. وقد أثمرت كنيستنا في الآونة الأخيرة إلى جانب المدارس والمعاهد بناء جامعة البلمند في لبنان، وهي واحدة من أهم الجامعات، وهي الابنة الأكاديمية البكر لكنيسة أنطاكية سائر المشرق. ونعمل الآن أيضاً لنتحدى وجه التاريخ ونبني جامعة الحميراء في قلب سوريا، لنعزز بذلك إرادتنا في البقاء ورسوخنا في أرضنا وإيماننا بالعلم سبيلاً للخلاص من كل فكر ظلامي وطريقاً إلى تمتين المجتمعات الحديثة.
وفي الأيام الأخيرة ومنذ أكثر من خمس سنوات، تدفع هذه الكنيسة واحدةً من أقسى فواتير الإرهاب والعنف والتكفير الأعمى وتدفع أكثر من ذلك ثمناً مضاعفاً لتزييف تاريخ وحاضر العلاقات الاجتماعية والثقافية في أرضها. تتواجد كنيستنا اليوم في سوريا ولبنان والعراق وتركيا والخليج العربي وفي كل بلاد الانتشار. وهي اليوم تسعى لأن تكون يداً واحدةً لمواجهة هذا الظرف المصيري والمتمثل في الحرب على سوريا وفي سوريا.
منذ أكثر من خمس سنوات انطلقت الأزمة في سوريا تحت مسميات لا تمت لها بصلة. ونحن كمسيحيين مع غيرنا من الناس ندفع من دمنا ومن دم أولادنا ثمناً باهظاً لزيف الباطل. ندفعه تشريداً وتهجيراً لأبنائنا وقتلاً وخطفاً وعنفاً وإرهاباً أعمى وهزاً لاستقرار دولٍ قامت على تضحياتنا وتضحيات غيرنا. ندفعه كنائس ومساجد تحرق وأوابد تسوى بالأرض ومطارنة وكهنة وشيوخاً يقتلون ويخطفون تحت أفعالٍ اللهُ منها براء. ولعل قضية أخوينا يوحنا ابراهيم وبولس يازجي مطراني حلب هي واحدة من أكثر القضايا التي تختزل ولو بشيء من الاختصار معاناة إنسان ذلك المشرق، وهما المخطوفان منذ أكثر من ثلاث سنوات وسط سكوت الجميع واكتفاء ذوي القرار بالإدانة التي تقارب حد الصمت.
نحن بينكم الآن وقلبنا في سوريا وفي لبنان وفي كل بقعة من أرضنا في المشرق كنا وسنبقى فيها مهما قست الظروف. بلادنا تغلي دماراً ومحناً ونحن نغلي تجذراً فيها وقوة أصالةٍ وانتماء. وكل ذلك نستمده من قوة إيماننا لأن أجدادنا كانوا في أرضهم منذ ألفي عام وهم الذين سمعوا وقع أقدام الرسل وأسمعوا بشارة يسوع المسيح إلى الدنيا بأسرها.
نشكر لكم إخوتي تكريمكم ونعتبره بالدرجة الأولى وساماً نضعه على صدر كنيسة أنطاكية وجبين كل متنوّر في الشرق، فمن الشرق نورٌ وساطع نورٍ. وصلاتنا اليوم إلى أبي الأنوار أن يديم مراحمه على بلادكم العزيزة ويمسح بسلامه بلادنا ويكلل العالم بنور حضوره الإلهي.