القدّيس دوروثاوسأسقف غزّة
نشأته
ولد الأب دوروثاوس في أنطاكية لعائلة مسيحية ميسورة. تلقى قسطاً وافراً من العلم الكنسي وعلوم الدنيا. شغف بالدارسة حتى كان ينسى الطعام والشراب والنوم. هذا أثر في صحته التي بقيت رقيقة. لم يكن يتذوق غير القراءة، خاصة الكتب الطبية، مما جعله يعزف عن المعاشرات الرديئة واختلالات الصبى. قال فيما بعد: "إذا كنا لنرغب في العلم الدنيوي رغبة هذا مقدارها، بقوة العادة، فماذا نقول عن الفضيلة!" نبذ العالم منذ وقت مبكر.
دخول الدير
دخل دير الأنبا ساريدوس، بقرب غزة، وأسلم نفسه، بملء الثقة، لعهدة الشيخين القديسين برصنوفيوس ويوحنا. ومع أنه كان يرغب في عزلة كاملة فإن الشيخين أخذا في الاعتبار ضعفه وحالته الصحية، تاركين له التصرف بملكية عائلية صغيرة واقتناء الكتب التي أتى بها إلى الدير. وإذ لم يكن في وسعه أن يتعاطى الأعمال التقشفية وكانت تهاجمه أفكار النجاسة وزوده القديس برصنوفيوس بالنصح والعزاء أوصاه ألا يسلم نفسه لليأس لأنه فيه مسرة الشيطان، وأذن له بأن يحتسي بعض الخمرة ويعمل ما في وسعه ليقطع مشيئته مركزاً الجهد على النسك الداخلي للقلب التماساً للفضائل الأثمن: التواضع والطاعة ونخس القلب والرأفة بالناس الذكر الدائم لله.
على هذا أمكن دروروثاوس، بتشجيع شيخيه ومؤازرة نعمة المسيح، أن يسحق كل أعدائه. وقد علم، بعد ذلك، أن قطع المشيئة هو القادومية المبلغة إلى الكمال. عملياً، إذ نعتاد قطع المشيئة الخاصة، في الأمور الصغيرة أولاً، ثم في كل عمل، نقتني التجرد، والتجرد يبلغنا، بعون الله، إلى اللاهوى الكاملة. كان كثيراً ما يردد قولة الآباء القديسين: "أي من بلغ قطع المشيئة بلغ موضع الراحة".
موجة حزن
ذات يوم، تعرض لموجة حزن ساحقة لا تُحتمل أتته من إبليس. فإذا ألفى نفسه في ساحة الدير مُحبطاً يتوسل إلى الله أن يعينه، رأى فجأة شخصاً غريباً له مظهر أسقف يدخل إلى الكنيسة. فتبعه ورآه قائماً في الصلاة وذراعاه ممدودتان إلى السماء. فلما أكمل صلاته استدار نحو الراهب الشاب الذي كان مرتعباً وطرق على صدره مردداً ثلاثاً الآية المزمورية: "انتظرت الرب بصبر فأصغى إلي واستمع إلى تضرعي (المز39). للحال اختفى الشخص فامتلأ قلب القديس دوروثاوس نوراً وفرحاً وتعزية وحلاوة. من تلك الساعة لم يعد عرضة للضجر والحزن أو الخوف. وإذ قلق بشأن هذا السلام الذي بدا كأنه يخالف الكتاب المقدس وما يعلمه أنه بضيقات كثيرة ندخل ملكوت الله، انفتح على يوحنا النبي الذي طمأنه قائلاً: "كل الذين يطيعون آباءهم يقتنون هذا اللاهم وهذه الراحة". والحق أن القديس دوروثاوس لم يتخلف مرة عن كشف كل فكر للشيخين. فحالما كان يدون فكراً ليبثهما إياه كان يشعر بالراحة والمنفعة.
تأسيس و إدارة مستوصف للدير
عُين لحفظ باب الدير واستقبال الضيوف وخدمة الأنبا يوحنا النبي. وإذ صار بإمكانه، مذ ذاك، أن يسأل الشيخ مباشرة جنى من تعليمه نفعاً جزيلاً وأحرز تقدماً في معرفة حركات النفس. بعد ذلك أسندت إليه المهمة الصعبة الحصرية أن يؤسس ويدير مستوصف الدير الذي تم إنشاؤه بفضل هبات أخيه في الجسد. وإذ كان دروروثاوس مُعداً إعداداً عجيباً لأداء هذه الخدمة، للدروس الطبية التي سبق له أن تلقاها، انكب عليها بحمية وتجرد كامل. فكان من الصباح إلى المساء مأخوذاً لا فقط بالعناية بالمرضى، ولكن أيضاً بشتى الاهتمامات التي كانت تلهيه عن ذكر الله والسكون. جُرب أكثر من مرة أن يترك الدير التماساً للحياة النسكية، لكن أقنعه القديس يوحنا بالتخلي عن رغبته. قال له إن هذه للبعض مناسبة للتكبر والسقوط وأن ما يناسبه هو "الطريق المتوسط"، طريق الطاعة والمحبة: "بحفظ التواضع في السكون والخفر في اضطرابات المهمات". وأضاف: "أن تكون للمرء وصية وأن ينكب على حفظها، هذا، في آن، خضوع وذكر لله" (الرسالة 328).
كان القديس برصنوفيوس قد وعد دوروثاوس بأنه إن حفظ وصاياه بشأن القرار من الملذات وحرية الكلام والأحاديث البطالة وحفظ المحبة تجاه الجميع وذكر الله فإنه سيأخذ، على عاتقه، خطاياه ونقائصه فيُحصى في عداد "أولاده الحقيقيين الذين ينعمون بالحماية الإلهية". وقد أسندت إليه التنشئة الروحية للشاب دوسيثاوس، الذي بلغ الكمال سريعاً، بفضل توصيات دوروثاوس، قبل أن يُسلم روحه لإلهه.
تأسيس ديره الخاص
إثر وفاة يوحنا النبي و الأنبا ساريدوس والخلوة الكاملة للقديس برصنوفيوس، خرج القديس دوروثاوس ليؤسس، بعون الله، ديره الخاص بين غزة ومايوما. هناك ساس تلاميذه وفقاً للروح التي تلقاها من أبويه، برصنوفيوس ويوحنا، وذلك برفق وتمييز ومحبة مشدداً على قطع المشيئة والتواضع أكثر من تشديده على النسك الجسدي الكبير. هناك تلقى تلاميذه، كتابة، توجيهاته الروحية التي جمع فيها الرزانة في التعبير إلى الحكمة الفائقة، مما جعل هذا المصنف أحد الأعمال الأساسية في التقليد الرهباني الأرثوذكسي. وهو جل ما بقي لنا منه حيث نجهل تاريخ مماته وموضع ضريحه.
هذا وقد عكف القديس دوروثاوس على حث رهبانه على البقاء متحدين في المحبة عارضاً عليهم هذه الصورة: "... افترضوا دائرة مرسومة على الأرض، أي خطاً مرسوماً بالمنقلة (البيكار) بدءاً من محور هو مركز الدائرة. انتبهوا لكلامي هذا وافترضوا أن الدائرة المرسومة هي العالم والمحور هو الله وأنصاف أقطار الدائرة (الشعاع) هي الطرق المختلفة، طرق حياة البشر. فالقديسون عندما يريدون أن يقتربوا من الله يسيرون نحو منتصف الدائرة، وبقدر ما ينفذون إلى الداخل يقترب الواحد منهم من الآخر، وبقدر اقترابهم من بعضهم، يقتربون من الله أيضاً. وتعلمون أيضاً أن العكس أيضاً صحيح. أي كلما ابتعدنا عن الله (المحور) ابتعدنا عن بعضنا، وكلما ابتعدنا عن بعضنا ابتعدنا بالتالي عن الله".