الكوليفا
إنّها من أقدم العادات المسيحيّة.
تأتي كلمة كوليفا Κολυβα من اليونانية القديمة κόλλυβo، والتي تعني في الأصل الحبوب.
مقدّمة:
يعود اهتمام الإنسان بالحياة بعد الموت إلى اليوم الأوّل للخلق، والشعوب كلّها، بدون إستثناء، اهتمّت بهذا الأمر وابتدعت له طقوسًا كثيرة مختلفة، حتى إنّها قدّمت أضحية بشريّة وحيوانيّة لاسترضاء آلهة الموت والأرواح.
استمرَّ هذا البحث عند الشعوب ومنهم الشعب العبراني، فكانت نبوءات الأنبياء في العهد القديم التي تكلّمت عن مجيء مخلّص يفدي البشريّة ويعطيها الحياة الأبديّة ألا وهو الرّب يسوع المسيح والذي يعني اسمه بالعبريّة: «الله يخلّص»: يهوه أي الله ولُخّص بالحرف «ي»، وفعل «شَع» يعني الخلاص.
وهكذا بتجسّد الرّب يسوع المسيح تحقّق الوعد الخلاصي، فأخذت الأمور نصابها الصحيح واستقامة العبادة والصلوات.
في العالم القديم:
جرت العادة عند الشعوب الوثنيّة في مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد أن يقدّم في اليونان في مهرجان «Anthesteria» الخاص بالإله الوثني ذيونيسيوس Dionysus وحيث يتم استرضاء أرواح الأموات ما يسمّى بالإهداءات أو «الثمار الأولى».
كانت هذه الثمار معروفة بإسم panspermia (كلّ البذار)، وكانت تتكوّن من خليط من البذور المطبوخة والجوز.
وكان هذا المهرجان أحد المهرجانات الأربعة الأثينية الكبيرة الخاصة بديونيسوس، وكان يُقام سنويًّا لمدّة ثلاثة أيام، من الحادي عشر إلى الثالث عشر من شهر Anthesterion (شباط- آذار), كما عرفت أيضًا العبادة المصريّة «أوزوريس» وشعوب أخرى مختلفة تقديم القمح والبذور في طقوس تكريم الأرواح.
ملاحظة: كانت هذه الممارسات بحثًا عن حماية من ما يُسمّى قاهر الإنسان أي «الموت».
الكوليفا في المسيحيّة:
هي من أقدم العادات المسيحيّة.
اعتمد المؤمنون المسيحيّون عمليّة تقريب القمح مثل ما استعملوا البخّور والشمع وغيرها من الوسائل التي كانت تستعملها الشعوب في العالم ولكن بلاهوت مختلف تمامًا. فلم يعد الموت هو "قاهر الإنسان" بل غُلب الموت تحت أقدام الرّب يسوع المسيح القائم من بين الأموات بسلطان ذاته، وباتوا يقرّبون القمح كعربون وشكر وتمجيد للرّب الذي أعطى الإنسان الحياة الآبديّة.
ولا يهم إن تشابهت الوسائل أو التقديمات أحيانًا بين المسيحيين وغيرهم من الناس، فهذا أمر طبيعي لأن الإنسان هو كتلة مشاعر ويعتمد المنتوجات الطبيعية والزراعيّة والوسائل المتاحة بين يديه في العبادة والتكريم كالزهور والرياحين مثلًا، الفرق، لا بل كلّ الفرق، يكمن في الإله المعبود وإلى من تُقدم العبادة والصلوات.
أمّا ما يشار إليه اليوم بال«كوليفا» فهو خلطة مؤلّفة بشكلًّ أساسي من القمح المسلوق والمكسّرات (اللوز والجوز المطحونان)، وقد تختلف بعض مكوّناتها بين مُعّدٍ وآخر، فنجد الكعك والسكّر والزبيب والرمّان والبقدونس أو النعناع والقرفة.
تُقدّم الكوليفا في أعياد القدّيسين وفي ذكرانيّات الراقدين، وتوضع في طبق كبير الحجم، ليُصلّى عليها في نهاية خدمة القدّاس الإلهيّ في وسط الكنيسة، ويضاء بجانبها شمعةً أو شمعتين إشارةً إلى نور المسيح والحياة الآبديّة، وتقام صلاة مختصة بالذكرى، ثمّ تُوزَّع على المصلّين في أكواب صغيرة. في المقابل يقول المؤمنون «يرحم الله روحه أو روحها» إذ كان الأمر يتعلّق بذكرى راقد أو راقدة، أو يقال «بشفاعة القدّيس أو القدّيسة فلان أو فلانة يا مخلّص خلّصنا» إذ كانت ذكرى قدّيس أو قدّيسة.
تُزيّن الكوليفا من الخارج بمسحوق السكّر بالإضافة إلى مواد أخرى ذُكرت أعلاه، ويكون شكل الزينة إمّا صليب أو شكل أيقونة القدّيس المقام تذكاره.
في بعض البلدان مثل روسيا يُستبدل أحيانًا القمح بالأرز، ارتباطًا بالمجاعة التي حلّت سابقًا في هذه البلاد إذ كان القمح معدومًا، وكذلك في اليابان حيث الأرز هو الطعام الأساسي وليس القمح.
شرح مكوّنات الكوليفا |
|
القمح | يرمز الى قيامة الراقدين، كما قال الرّب يسوع المسيح له المجد: “إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير” (يو ٢٤:١٢). |
الرمّان | يرمز إلى جمال الفردوس |
السكّر | يرمز الى حلاوة الملكوت |
المكسّرات | تُشير الى عظام الراقدين. |
الكعك المطحون | يرمز الى التراب الذي نعود اليه. |
النعناع أو البقدونس | هما استعادة ما يقال في الجناز في مقرّ خُضرة. |
- ارتباط الكوليفا بعجيبة القمح المسلوق التي اجترحها القدّيس ثاوذُورس التيروني في السبت الأول من الصوم الكبير سنة (٣٦٢م):
«بمأكل القمح المسلوق أجارَ ثاوذوروس مدينة التيرونيّين، مبطلاً حيلة الطعام النجس ومعطّلاً مكيدة الوثنيين».
لمّا استلم يوليانوس الملقّب بالجاحد الحكم بعد قسطنديوس ابن قسطنطين الكبير، وانتقل من عبادة المسيح إلى عبادة الأصنام، شنّ إضطهادًا وحشيًّا على المسيحيّين ولكنّه إصطدم بصلابة إيمان المؤمنين رغم شدّة العذابات التي كان يجريها بحقّهم، فعمد على أن ينجسّهم خفيةً علّهم يضعفون ويستسلمون للعبادة الوثنيّة.
فترقّبَ الأسبوع الأوّل من الصوم الأربعيني المقدّس والمعروف بالأسبوع النقيّ لحرارة اندفاع المؤمنين للصوم والصلاة، وأمر والي المدينة أن يستبدل جميع الأطعمة المعتادة في السوق بأطعمةٍ أخرى بعد أن يمزجها أوّلاً بدماء الذبائح المقدّمة للأوثان لكيّ يبتاعها المسيحيّيون في صيامهم فيتنجّسون.
وبالفعل نفّذ الوالي أوامر سيّده وصنع كلّ ما أُمره به ودنّس جميع الأطعمة في السوق.
إلّا أن الله لم يسمح بهذه التجربة لحرارة صلوات المؤمنين وحسن سيرتهم، فأرسل القدّيس ثاوذوروس التيروني إلى إفدوكسيوس رئيس كهنة المدينة، فوقف أمامه باليقظة وكلّمه وجهًا لوجه وقال له:"إجمع بسرعة رعيّة المسيح واطلب منهم أن لا يبتاعوا شيئًا من الأطعمة في السوق لأنّ جميعها مدنّسة" وأعلمه بما فعله الوالي.
فتحيّر رئيس الكهنة بأمره وسأله:"كيف يمكن أن يكون سهلاً للذين ليس عندهم في البيوت ما يحتاجون إليه ألا يبتاعوا من الأطعمة الموضوعة في السوق؟!"، فأجابه القدّيس:"أعطهم سليقة وسدّ عوزهم". فتحيّر أيضًا وسأله:"وما هي هذه السليقة؟" فأجابه المعظّم ثاوذوروس:"هي القمح المسلوق"(المعروفة اليوم بالـ «كوليفا»).
وفي النهاية سأله البطريرك من أنت أيّها الرجل المُحسن إلينا لتساعدنا وتنجيّنا من هذا الشرك الشيطاني، فأجابه القدّيس:"أنا شاهد المسيح ثاوذوروس الذي أُرسل من قبَلِ رّب المجد معينًا لكم".
فمجّد البطريرك الله وأخبر شعبه بما جرى معه وصنع بما أوصاه القدّيس، فحفظ رعيّة المسيح من كلّ دنسٍ وحيل إبليس.
فلمّا أدرك الوالي أن حيلته انكشفت وأنّه خزي جدًا، أمر خائبًا أن توضع ثانيًّا في السوق الأطعمة المعتادة.
أمّا الشعب المسيحي فلمّا مضى الأسبوع قدّموا شكرًا لله وقدّيسه، وبواسطة القمح المسلوق صنعوا تذكاره في مثل هذا الأسبوع فرحين مسرورين.
ومن ذلك الوقت نجدد نحن المؤمنين ذكر هذه العجيبة ممجّدين الله ومكرّمين القدّيس ثاوذوروس العظيم ونصنع "الكوليفا" أي القمح المسلوق، وتكون هذه العجيبة بداية خيّرة في الصوم المبارك وتعزيّةً لكلّ مؤمن يتّقي الله.
ونتيجة لذلك، أصبح هذا السبت الأوّل من الصوم الكبير يُعرف باسم القدّيس ثاوذوروس بحيث يتم توزيع Kollyva على المؤمنين، وهو أوّل طعام يؤكل بعد القدّاس الإلهي في هذا اليوم.
ومنذ ذلك الحين إرتبطت الKollyva بإحتفال ذكرى القدّيسين التي كانت تقام في ساحة الكنيسة وأيضًا وبالرسامات الكهنوتيّة وذكرى الراقدين.
خلاصة:
الكوليفا هي رمز للقيامة من بين الأموات وللمجيء الثاني للرّب يسوع المسيح:"الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبّة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثير"(يوحنّا ٢٤:١٢).
كذلك نقرأ عند بولس الرسول:"يا غبي.الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت. والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير بل حبّة مجرّدة ربما من حنطة أو أحد البواقي"(١كورنثوس ٣٦:١٥-٣٧).
وهذا ما تعلنه هذه الرسالة التي تُقرأ في الجنّاز والتي تقول:"ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد، ولبس هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة، ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟"(١كورنثوس ٥٤:١٥-٥٥).