القدّيس مكاريوس الكبير
ولادته ونشأته:
وُلد هذا القدّيس في مصر من أبوين صالحين بارين.
والده إبراهيم لم يكن له ولد .فحدث في إحدى الليالي أن أبصر شخصًا من قِبَل الرّب يقول له أن الرّب سيرزقه ولدًا يكون ذكره شائعًا في أقطار الأرض، ويُرزَق أبناء روحيّين.
وبالفعل، إبراهيم رُزِق ولدًا فدعاه «مقار» من μακάριο Makarios التي تعني الطوبى والغبطة.
لمع بتقواه منذ أن كان صغيرًا، فأقيم مكاريوس الشاب المحبوب من الكهنة ومن شعب القرية قارئًا «أغنسطس» .
ولمّا كملت قامته زوّجه والده بغير إرادته، فتظاهر بالمرض أيّامًا، ثم استسمح أباه أن يمضي إلى البريّة لتبديل الهواء فسمح له.
فمضى وصلى إلى الرّب يسوع المسيح أن يساعده على عمل ما يرضيه.
الرؤيا في البريّة:
فلمّا أصبح في البريّة، أبصر رؤيا كأن كاروبًا ذا ستة أجنحة قد أمسك بيده وأصعده على رأس الجبل وأراه كلّ البريّة شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا،
وقال له:
"يقول لك الله أنّه منحك أنت وأولادك الروحيّين هذا الجبل كلّه لتكرّس كلّ وقتك للعبادة. كثير من القادة يأتون إلى هذه البريّة. اسهر وتذكّر ما أقوله لك:"إن سلكت بكمال، أظهر لك وأعلن لك كلمات الله".
وقد قيل أن الكاروب صحبه كلّ حياته تقريبًا.
لمّا عاد من البرية وجد زوجته قد ماتت وهي بعد عذراء، فشكر السّيد المسيح كثيرًا.
وبعد ذلك مات أبواه فوزع كلّ ما خلَّفاه له على المساكين، ورأى أهل منطقته، شبشير، طهره وعفافه فأخذوه إلى أسقف أشمون فرسمه قسًا عليهم، وبنوا له موضعًا خارج البلد وكانوا يأتون إلىه ويتقربون منه، وعيّنوا له خادمًا ليبيع له شغل يديه وقضاء ما يحتاج إليه.
بعد فترة قصيرة من سيامته كاهنًا ذهب إلى قرية أخرى إذ حسب نفسه غير أهل للكهنوت ولتكريم شعبه له.
تذكر بعض المخطوطات أنّه لم ينل نعمة الكهنوت إلّا بعد ذهابه إلى الاسقيط.
تجربة الفتاة:
لما رأى الشيطان تعاليمه في الفضيلة جلب عليه تجربة شديدة، وذلك أنّه أوعز إلى فتاة كانت قد ارتكبت شرًا مع شاب بأن تدَّعي بأن القدّيس مكاريوس هو الذي أتى معها هذا الشر. فلمّا علم أهلها بذلك، أهانوه وضربوه ضربًا موجعًا، فتحمّله وهو صامت.
وعندما حان وقت ولادتها، لبثت أربعة أيّام معذّبة ولم تلد حتى اعترفت بكذبها على القدّيس، وذكرت إسم الشاب الذي أغواها.
فلمّا سمع ذلك أهل الفتاة، توجّهوا إليه يستغفرونه عما حصل منهم له، فهرب منهم تنكّرًا لمجد العالم، وكان له من العمر وقتئذ ٣٠عامًا، وإذ فكّر ألا يعود إلى قلايته، ظهر له ملاك الرّب وسار معه يومين حتى وصلا إلى وادي النطرون.
ثم قال له القدّيس مكتريوس: «حدد لي يا سيّدي مكانًا أسكن فيه»، فأجابه: «لا لئلّا تخرج منه فيما بعد فتكون مخالفًا لقول الرّب، بل البريّة كلّها لك، فأي موضع أردت، أسكن فيه».
فسكن في البريّة الداخليّة حيث الموضع الذي فيه دير القدّيسين مكسيموس ودوماديوس، وهو المعروف الآن بدير البراموس.
زيارته للقدّيس أنطونيوس:
عندما ذهب لزيارة القدّيس أنطونيوس قال عنه حينما رآه: "هذا إسرائيلي حقًا لا غش فيه»، ثم ألبسه الإسكيم المقدّس وعاد مكان".
ولمّا تكاثرت عنده الأخوة بنى لهم كنيسة وذاع صيته وسمع به الملوك لكثرة العجائب التي كان يعملها.
وظهر له ملاك الرّب وأتى به إلى رأس الجبل عند البحيّرة الغربية المالحة الماء، وأعلمه أن يتّخذ له هذا المكان مسكنًا، وبنى له قلاية وكنيسة لأن شعبًا كثيرًا سيجيء إليه.
القدّيس والبريّة والسرداب:
أكّد القدّيس مكاريوس أن بريّة الإسقيط تفقد قيمتها الرهبانية عندما تدخل إليها المدنّية.
قال:«عندما ترون القلالي اتّجهت نحو الريف، إعرفوا أن نهاية الإسقيط قد اقتربت. وعندما ترون أشجارًا فأعلموا أنّها على الأبواب، وإذا رأيتم أطفالاً أحملوا ثيابكم الجلدية وأهربوا».
حتى في بريّة الإسقيط، اعتاد القدّيس مكاريوس أن يهرب من ازدحام الشعب. ويخبرنا القدّيس بالاديوس أنّه حفر سردابًا تحت الأرض يمّتد من قلايته إلى حوالي نصف ميل، وينتهي بمغارة صغيرة. فإذا ما جاءت إلىه جموع كثيرة، يترك قلايّته سرًّا إلى المغارة فلا يجده أحد.
وقد أخبرنا أحد تلاميذه الغيّورين أنّه اعتاد أن يتلو ٢٤صلاة في طريقه إلى المغارة، و٢٤صلاة في العودة.
رجل المحبّة:
اكتشف القدّيس مكاريوس أن الفهم الحقيقي للتوحّد، ليس هو مجرد العزلة عن البشر، بل هو الرغبة الصادقة للاتّحاد مع الله محب البشر.
المتوحّد الحقيقي يهرب بالجسد عن البشر، لكنه عمليًا، يحب كلّ إنسان.
كان روح الحب والحنو يسود بين رهبانه كانعكاس لحب القدّيس لهم. وقد روي لنا روفينوس قصة عنقود العنب الذي قُدم للقدّيس فقدّمها بدوره لراهبٍ مريضٍ، وعبر هذا العنقود من راهبٍ إلى آخر في كلّ القلالي دون أن يمسّه أحد منهم ليقدّمه للغير.
ستر الخطايا :
عُرف القدّيس بسمته الخاصة بستر الخطايا فقيل عنه: «صار إلهًا على الأرض، فكما أن الله يحمي العالم ويحتمل خطايا الناس هكذا كان القدّيس مكاريوس يستر الأخطاء التي رآها أو سمعها كأنّه لم يرَ أو يسمع شيئًا».
كسبه للوثنيّين:
بحبّه كسب وثنيّين للإيمان، فقد جاء عنه أنّه إذ كان ذاهبًا من الاسقيط إلى نتريا، مع تلميذه سبقه التلميذ الذي التقي بكاهن للأوثان كان يجري.
فقال له التلميذ:«إلى أين أنت تجري أيّها الشيطان؟» فاستدار الكاهن وصار يضربه حتى تركه بين حيّ وميت.
وإذ التقي بالقدّيس مكاريوس مدحه القدّيس: «لتصحبك المعونة يا رجل النشاط». دُهش الكاهن ونُخس قلبه ولم يترك القدّيس مكاريوس حتى جعله راهبًا.
بعض من أخباره:
- ذات يوم ذهب القدّيس مكاريوس ليقطع الخوص، وكان الأخوة معه. فقالوا له في اليوم الأول:"هلمّ وكل معنا يا أبانا،. فمضى وأكل. وفي اليوم التالي طلبوا منه أن يأكل معهم أيضًا. فأبى أن يأكل، وقال لهم:«أنتم تحتاجون إلى الطعام يا أولادي، لأنّكم ما تزالون جسدًا، لكن أنا لا أريد أن أكل الآن».
- زار القدّيس مكاريوس القدّيس باخوميوس الطابنسيني، فسأله الأخير:«عندما يكون عندنا إخوة بطّالون، هل يحسن أن نعاقبهم؟ أجابه القدّيس مكاريوس:"عاقب وأحكم بعدل من هم تحت أمرك ،لكن لا تدن أحدًا من خارج، لأنّه قد كتب:«ماذا لي أن
ادين الذين من خارج .ألستم أنتم تدينون الذين من داخل .أمّا الذين من خارج فالله يدينهم» 1) كو12:5).
- كان القدّيس مكاريوس يزور أحد الاخوة يوميًّا لمدّة أربعة أشهر. فلم يجده ولا مرة قد فرغ من الصلاة، فتعجّب وقال له:«أنت ملاك أرضي حقًا».
- يشير «كتاب الآباء القدّيسين» إلى صراعه ضد الشياطين. كما روى لنا القدّيس بالاديوس عن إقامته ميّتًا لكي يٌهدي هرطوقيًّا لا يؤمن بقيامة الأجساد. كما نال موهبة صنع المعجزات.
القدّيس وإمرأتان:
-طلب يومًا من الرّب أن يريه من يضاهيه في سيرته، فجاءه صوت من السماء قائلاً: «إنك إلى الآن لم تبلغ ما بلغت إلىه امرأتان في مدينة الإسكندرية»، وسأل حتى وصل إلى منزلهما، فلمّا دخل رحّبتا به وغسلتا قدميه، ولما استعلم منهما عن سيرتهما، قالت له إحداهما:«لم تكن بيننا قرابة جسدية، ولما تزوّجنا هذين الأخوين، طلبنا منهما أن يتركانا لنترهَّب، ولمّا لم يسمحا لنا عاهدنا أنفسنا أن نقضي حياتنا بالصوم إلى المساء والصلاة الكثيرة .وقد رُزِقت كلٍّ منّا بولد، متى بكى أحدهما تحضنه الواحدة وترضعه حتى وإن لم يكن ولدها، ونحن في عيشة واحدة، ووحدة الرأي رائدنا، واتّحاد القلوب غايتنا، وعمل زوجينا رعاية الغنم ونحن فقراء، ونكتفي بقوت يومنا وما يتبقّى نوزعه على المساكين».
فحينما سمع القدّيس هذا الكلام هتف قائلاً: «حقًا إن الله ينظر إلى استعداد القلوب، ويمنح نعمة روحه القدّوس لجميع الذين يريدون أن يعبدوه»، ثم ودّعهما وانصرف راجعًا إلى البريّة.
-أضل راهب قومًا بقوله أنّه لا قيامة للأموات، فحضر إلى القدّيس مكاريوس أسقفه وشكا إليه أمر هذا الراهب الذي كان يُدعى «أوسيم»، فذهب إليه ولم يتركه حتى أرجعه عن ضلاله.
رقاده:
في يوم نياحته رأى القدّيسين أنطونيوس وباخوميوس وجماعة من القدّيسين والملائكة، وأسلم الروح بالغًا من العمر سبعًا وتسعين سنة، وكان ذلك في اليوم السابع والعشرين من برمهات سنة٣٩٢م،) برمهات هو الشهر السابع من التقويم المصري. وفي التقويم الغريغوري يبدأ من ١٠ آذار إلى ٨نيسان).
كان قد أوصى تلاميذه أن يخفوا جسده، فأتى قوم من أهل شبشير، المنطقة التي وٌلد فيها، وسرقوا جسده وبنوا له كنيسة ووضعوه فيها. بقي جسده هناك حوالي المئة سنة ثم أعيد إلى ديره.
من أقواله:
- إن كنت وأنت تنتهر أحدًا يتحرّك فيك الغضب، فأنت تشبع هواك، ففي خلاص أخيك لا تخسر نفسك.
- إن احتفظنا بتذكّر الأخطاء التي ارتكبها الناس ضدنا، فإنّنا نحطّم القدرة على تذكّر الله.
- إن طول الروح هو الصبر... والصبر هو الغلبة... والغلبة هي الحياة... والحياة هي الملكوت... والملكوت هو الله.
- البئر عميقة، ولكن ماءها طيّب عذب.
- الباب ضيّق، والطريق كَرِبَة، ولكن المدينة مملوءة فرحًا وسرورًا.
- البرج شامخ حصين ولكن داخله كنـــوز جليلة.
- الصوم ثقيل صعب، ولكنّه يوصِّل إلى ملكوت السموات.
-فعل الصلاح عسير شاق، ولكنّه ينجِّي من النار برحمة ربّنا الذي له المجد.
بشفاعة القدّيس مكاريوس يا مخلّص خلصّنا.