أبونا الجليل في القديسين غريغوريوس أسقف نيصص
طروبارية باللحن الرابع
يا إله آبائنا الصانع معنا دائمًا بحسب وداعتك، لا تُبعد عنا رحمتك، بل بتضرّعاتهم دبّر بالسلامة حياتنا.
قنداق باللحن الثاني
إن رئيس كهنة البيعة الإلهي، ومسارّ الحكمة الموقرَّة المختار، ذا العقل الساهر غريغوريوس الراتع مع الملائكة والمتنعم بالنور الإلهي، يتشفع بغير فتور من أجلنا جميعًا.
ولادته ونشأته:
هو الابن الرابع لباسيليوس الشيخ وإميليا القديسين وأخ كلّ من القدّيسين باسيليوس الكبير (١ كانون الثاني)، والبارة مكرينا، (١٩ تموز)، وبطرس السبسطي (٩ كانون الثاني).
أصغر من أخيه القدّيس باسيليوس بسنوات قليلة. لذلك قيل إنه ولد سنة م٣٣١على وجه التقريب، وقيل أيضًا سنة٣٣٥م.
نشأ القدّيس غريغوريوس في عائلة مسيحيّة عرفت بالتقوى والقداسة، أعدّته منذ نعومة أظافره للحياة الإكليريكيّة.
ترعّرع في قيصريّة الكبادوك، وأحب الهدوء والوحدة منذ صغره. لم يتنقّل بين المدارس المعروفة في زمانه كأخيه القدّيس باسيليوس بل فضّل البقاء في قيصرية كبادوكيا ليدرس على يد أبيه باسيليوس الشيخ، فانكبَّ على مكتبتِهِ، وتعمّق بالفلسفة بشغف وإمعان.
لم تستهوِهِ نزعة أمه ولا شغفها بالمسيحيّة. مع ذلك كان مقبلاً على الكنيسة، ولكنّه كان يتأفف في شبابه من الصلوات الطويلة والتلاوات المزموريّة التي تدوم الليل بطوله.
القدّيس غريغوريوس والأربعون شهيدًا:
مرّة، وهو في العشرين من عمره، اضطر، بإيعاز من والدته التي كانت تعشق الصلوات والسهرانيّات، أن يحضر سهرانيّة في كنيسة للعائلة على اسم الأربعين شهيدًا، كان سيجري نقل بعض رفات الشهداء إليها.
وصل القدّيس غريغوريوس إلى هناك غاضبًا لأنّه ترك أصدقائه، وبدأ يُبدي تضجّرًا من الصلوات ويتأفّف من طولها ويتمتم بكلماتٍ أزعجت الحاضرين من حوله، وانتهي به المطاف بأنّه تسلّل خارج الكنيسة إلى حديقة مجاورة وخلد إلى النوم وهو ينظر إلى السماء ويتأمّل النجوم .وهناك كان الله بانتظاره.
أتاه حلم في في نومه بدا له خلاله كأنّه في صحو، وقد شعر في الحلم برغبةٍ جامحةٍ في العودة إلى الكنيسة والاشتراك في الصلاة الدائرة فيها. فلما همّ بالتوجه إلى هناك، وكل ّذلك في الحلم، إذ بأربعين شهيدًا مسلّحين يقفون في وجهه ويتهدّدونه، وكادوا أن يسحقوه لو لم يرأف به أحدهم.
بدى الحلم كأنّه حيًّا لدرجة أن القدّيس غريغوريوس استفاق منه وهو يبكي. فهمّ مسرعًا ودخل الكنيسة مستسمحًا ربّه والشهداء القدّيسين الأربعين.
وقد كتب لاحقًا وعظتين رائعتين عن هؤلاء القدّيسين الأربعين الشهداء من سبسطية) يُعيّد لهم في ٩ أذار) ،ألقاهما في كنيسة شيّدت على اسمهم، وعند وفاة والديه قام بدفنهما قرب ذخائر هؤلاء المعترفين القدّيسين.
هذه كانت أولى الصدمات الإيجابيّة التي تلقّاها في شبابه. ويبدو أن عددًا منها سيكون في انتظاره.
شغفه بالبلاغة:
ظلّت البلاغة وعلم الخطابة شفغه الأوَّل. رُسم قارئًا في الكنيسة لكنّه بات يغوص أكثر فأكثر في علم البلاغة فصار معلماً لها، ربما في خطى أبيه. وكان هذا، فيما يبدو، على حساب مسيحيّته وخدمته كقارئ لأن الأجواء التي جعل نفسه فيها كانت أدنى إلى الوثنية.
فمكان من القدّيس غريغوريوس اللاهوتي، صديقه وصديق أخيه القدّيس باسيليوس، أن بعث إليه لائمًا وداعيًا إياه لأن يعود إلى صوابه، كاتبًا:«إذن، أنت مصمّم أن تدعى بليغًا بدل أن تُدعى مسيحيًّا... فيا صاحبي، لا تقم طويلاً على ذلك. اصح قبل فوات الأوان! عد إلى نفسك واسأل الصفح من الله والمؤمنين».
ومع أننا لا نعرف تمامًا كم دامت هذه الفترة من حياته، إلّا أنه ليس ما يشير إلى أنّه أقلع عما عزم عليه انتصاحًا بما أتاه من صديقه.
زواجه:
هذا، وفي تلك الحقبة أيضًا، تزوّج القدّيس غريغوريوس من فتاةٍ ذات ثقافة دينية مميّزة أحبّها جدًا اسمها ثيوزيبا، لا نعلم شيئًا عن مصير زواجه وزوجته، ولكن ثمّة عبارة تدل على أن علاقته مع زوجته أصبحت روحيّة فقط، وربما توفيت قبل سيامته أسقفًا.
وجه القدّيس غريغوريوس اللاهوتي في مماتها رسالة تعزية إلى القدّيس غريغوريوس النيصصي يقول عنها أنّه رأى فيها «مجد الكنيسة وزينة المسيح ومعينة جيلنا ورجاء النسوية ومن أكثر الأخوات جمالاً». كما اعتبرها «قدّيسة وزوجة كاهن حقّانية».
بساطة عقل كاملة:
سنوات شباب القدّيس غريغوريوس مرّت كما لو كانت بعضًا من حلم اليقظة، وقد بدا خلالها أن إعداده لنفسه، باعتبار المهام التي نعرف أنّها كانت بانتظاره، كان بطيئًا ومتعثّرًا. التعثّر والنقص في اللباقة لديه أسماهما القدّّيس باسيليوس الكبير «بساطة عقل كاملة».
ثلاث رسائل مزوّرة:
لم يكن غريغوريوس من النوع الذي يُتوقّع منه أن ينظر إلى الأمور كما ينظر إليها الآخرون. فلقد زوّر مرّة ثلاث رسائل سلاميّة دفعها إلى أخيه القدّيس باسيليوس مُدعيًّا أنّها من عم له أسقف كان القدّيس باسيليوس على خلاف معه.
فلمّا اكتشف القدّيس باسيليوس إن في الأمر تزويرًا بدا محرجًا، وغضب على أخيه، ثم أرسل يقول له: «أرجوك في المستقبل أن تنتبه إلى نفسك وتعفيني من هذه الألاعيب! أكلّمك بصراحة! لأنّك لا تستحق أن تتعاطى القضايا الكبيرة».
رغم ذلك لا يبدو أن القدّيس غريغوريوس أسف عما ارتكبه، بل بكل بساطة اعتبر أن المسألة بين القدّيس باسيليوس وعمّه سخيفة ولا تستوجب القطيعة، وما فعله هو، من ناحيته، لم يتعدّ كونه محاولة للجمع بينهما.
حياته الرهبانية:
ثمّة من يقول إن القدّيس باسيليوس دعاه إلى منسكه في إيبورا على ضفاف نهر الإيريس في كبادوكيا. بعض الدارسين يقول إنه لبّى الدعوة والبعض إنه لم يذهب إلى هناك البتّة، ولكنّه في كلا الحالتين، كان يعيش حياة رهبنة وهدوئية كاملة ربمّا في دير شاركت في تأسيسه عائلته.
القدّيس غريغوريوس أسقفًا:
كان يمكن للقدّيس غريغوريوس أن يبقى على الحياة النسكيّة والهدوئيّة لو لم يطرأ ما جعل أخاه القدّيس باسيليوس يرسمه أسقفًا عنوةً عنه على مدينة صغيرة تُدعى نيصص تبعد عشرة أميال عن قيصريّة الكبادوك لجهة الشرق.
القدّيس غريغوريوس، من ناحيته، استاء جدًا من بادرة أخيه، وقد قال فيما بعد إن يوم رسامته أسقفًا كان أكثر أيامه شقاء، ولكنّه رضخ للمشيئة الإلهيّة، وقد تبيّن من خلال المجريات التي جرت لاحقًا والدور الكبير الذي لعبه القدّيس غريغوريوس في حماية الإيمان أن قرار القدّيس باسيليوس كان فعلًا مطابقًا للمشيئة الإلهيّة.
فلقد دخل القدّيس باسيليوس في صراع مع الإمبراطور الآريوسي والنس الذي شطر أبرشية قيصريّة إلى شطرين، وجعل على القسم الكبير منها رجلاً من محازبيه اسمه أنثيموس، مقرّه في تيانا.
فعمد القدّيس باسيليوس إلى خلق أسقفيّات جديدة، ولو صغيرة، وجعل عليها أساقفة من أتباعه.
القدّيس غريغوريوس كان أحد الذين وقع عليهم وزر هذا الصراع.
طبعًا كان القدّيس باسيليوس يعرف جيدًا أن أخاه لا يصلح لرعاية شعب. كان لا يحب عشرة الناس ويكره أن يصدر الأوامر إلى أحد، ولا يعرف من مناورات السياسة الكنسية شيئًا. رغم ذلك كلّه جعله القدّيس باسيليوس أسقفًا على نيصص.
كان يكفيه، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الصراع بين الأرثوذكسيّة والآريوسيّة، أن أخاه القدّيس غريغوريوس على استقامة الإيمان وله من المعرفة والحجّة والبيان ما يؤهّله للدفاع عن الإيمان الحقيقي والمحافظة على سلامة العقيدة.
القدّيس غريغوريوس في الأسقفيّة:
لقد بدا واضحًا أن المعضلات الرعائّيّة لم توافق طبعه وشخصيّته الهدوئيّة جدًا، فبدا وكأنّه لم يكن يملك المؤهّلات الكافية للأعمال الإدارية، وكان القدّيس باسيليوس يشكو في رسائله من سذاجته وعدم خبرته الكليّة في شؤون الإدارة الكنسّية.
وصحيح أنّه كان مختلف الطباع والشخصية عن شقيقه القدّيس باسيليوس، إلّا أنّه كان ذا مواهب فذّة لا نجدها عند أحد غيره من أفراد الأسرة. فيما كان القدّيس باسيليوس رجل عمل وتنظيم وإقدام، كان غريغوريوس رجل تأمّل وهدوء. أتّهم بالانطوائيّة. صوت أخيه كان يملأ المكان فيما لم يسمع له هو صوت إلّا عبر أخيه طالما بقي أخوه على قيد الحياة.
كان يميل جدًا إلى القراءة والكتابة، وكان يتمتّع بنظرة إيجابيّة تجاه الناس مهما إختلف طباعهم وتصرّفهم.
سجن القدّيس غريغوريوس والإطاحة به:
لم تكن للقدّيس غريغوريوس أيّة معرفة بالسلوك البشري. اللباقة في التعاطي مع الناس كانت تنقصه، كما لم تكن له أيّة فكرة عن القضايا المالية وكيفيّة معالجتها.
لذلك لم يلبث أعداؤه من الآريوسيين أن وجّهوا إليه اتّهامات تتعلّق باستعمال أموال أسقفيته وتحويّلها لمصلحته. وقد أدين، ووضع الحرس الإمبراطوري الأصفاد في يديه .لكنّه تمكّن من الإفلات واختبأ لدى بعضأ صحابه.
في تلك الأثناء، أطاح به مجمع ضمّ عددًا من الأساقفة الآريوسيين، وقد توارى عن الأنظار إلى حين وفاة فالنس الإمبراطور.
حبّه كبير للناس وحب الناس له:
استهواه رغم ذلك شيءٌ ما في نيصص. فقد تعلَّق به الناس هناك تعلقاً كبيراً وأحب هو بيته الصغير فيها حبَّاً جمَّاً .وقد أبدىَ غيرةً على شعبه وإخلاصاً. وكان يقوم بواجباته ويقضي أيَّامه في صلاة مع ربّه في صلاة وشكر.
ذكر، في إحدى رسائله، أنّه فضّل حالة الكسوف التي كان عليها في تلك الفترة على التحلّي بأثواب الأسقفية.
رغم ذلك، شيء ما في نيصص استهواه. تعلّق به الناس هناك تعلّقًا كبيرًا، وأحب هو بيته الصغير فيها حبًا جمًّا.
أوَّل ما دخلها اعتبر أنّه دخل في صحراء واعتبر الناس من دون رحمة. لكنّه ما لبث أن غيّر رأيه فيهم. وقد أبدى غيرة على شعبه وإخلاصًا.
كما ذكر أنّه عرف أن يخاطب الناس ويعظهم بلغّة يفهمونها.
ما قيل عن عزوفه عن خلطة الناس وقلّة اعتباره لهم لم يبدو، على أرض الواقع، صحيحًا كما كان متوقعًّا. التحديّات هي التي كشفت حقيقة استعداداته.
وضربت الصاعقة : رقد القديس باسيليوس!
بقي في الخفاء إلى أن وجد نفسه، بعد رقاد أخاه القدّيس باسيليوس ٣٧٩م، في الطليعة.
ما كان القدّيس غريغوريوس يتظلّل به انتزح، وما كان يتّكئ عليه ارتحل. كان أمام قدّيسنا خياران: إمّا أن يموت وإما أن يكبر، ولكن بالآلام. فكان أن كبر إلى قامة شهد له بها آباء زمانه والأزمنة اللاحقة إلى اليوم.
ولم تمض عليه أشهر قليلة من وفاة شقيقه حتى تلقّى صدمة أخرى بوفاة شقيقته مكرينا التي كان يدعوها «معلّمته الروحيّة».
فبات الوريث لاسم أخيه وشهرته وتركته اللاهوتية والروحيّة، وبات في تحدٍ كبيرٍ من أجل المحافظة على الهدوئيّة في وسط بركانٍ من الهرطقات والشذوذ والفوضى كنسيًّا وإكليريكيًّا وعالميًّا.
شق طريقه بنجاح وثبات متّكلًا على الله كحمل بين الذئاب.
نفيه:
كان الإمبراطور الحاكم والنس يميل إلى الهرطقة الآريوسية فساندهم في عقد مجمع محلّي سنة 376 أقال فيه القدّيس غريغوريوس، مما اضطر إلى التخلّي عن أبرشيته لحين موت الحاكم، وعاد إلى مدينته نيصص منتصرًا واستُقبل بحفاوة كبيرة، وتابع عمله الرعائي بسلام.
حامي الأرثوذكسيَّة:
سنة٣٧٩ م برز اسمه في المجمع المنعقد في مدينة أنطاكية الملتئم لإنهاء مشكلة الانشقاق فيها. تسلّطت الأضواء عليه في هذا المجمع نظرًا لروحانيّته وموهبته الخطابية المميّزة، فنال ثقة المجمع وأُرسل بمهمة إلى فلسطين والعربية. كذلك كلِّف القيام بجولة استطلاع على كنائس البنطس.
سبسطيا الأرمنية رغبت في أن يكون أسقفها وانتهى الأمر باختيار أخيه بطرس أسقفًا عليها.
في العام ٣٨٠م، أعلن الإمبراطور ثيودوسيوس أن المسيحيّة هي دين الإمبراطوريّة ودعا إلى مجمع في عاصمته في عام٣٨١م.
سنة ٣٨١م اشترك القدّيس غريغوريوس وصديقه القدّيس غريغوريوس اللاهوتي في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية حيث حيّاه المجتمعون كـ «عمود الأرثوذكسية». وقد ألقى الخطبة الافتتاحية فيه، ثم بكى بعد أيام وهو يلقي جنائزيته إثر وفاة القدّيس ملاتيوس الأنطاكي.
نلاحظ أن في هذه الفترة كان قد توفي القدّيس باسيليوس، وبرزت شخصيته بقوة إلى حيّز الوجود. فمثّل دورًا هامًا أثناء انعقاد المجمع وشعر الجميع بأنه وريث فكر أخيه الذي اختارته العناية الإلهية لكي تنتصر الحقيقة بواسطته.
لم يستكين الآريوسيّين الذين كان ينادون بعدم ألوهة الرّب يسوع، وبالرغم من خسارتهم في المجمع المسكوني الأوًّل الذي انعقد في نيقية عام ٣٢٥م، عادوا لينادوا بعدم ألوهة الروح القدس، فلقّبوا بمحاربي الروح.
وقد ذُكر أن القسم الأخير من دستور الإيمان حول ألوهة الروح القدس، وهو المضاف إلى الوثيقة النيقاوية، من عمله.
كانت له في مدينة القسطنطينية لقاءات والقدّيس ايرونيموس وأوليمبيا الشماسة المعروفة التي التصق اسمها باسم القدّيس يوحنا الذهبي الفم. كما قيل إن إقامته في المدينة المتملّكة لم تدم طويلاً. نمط الحياة فيها كان يغيظه. الصراعات اللاهوتيّة الكلاميّة فيها حتى الابتذال أخرجته منها غير آسف. الخلافات العقائديّة في المدينة كانت موضوع تندّر. فلو سألت الخبّاز عن ثمن الرغيف لأجابك إن الابن هو دون الآب السماوي، ولو سألت متى يكون الحمّام جاهزاً لأجابوك أن الابن مصنوع من العدم.
أثناء مهامه الاستطلاعيّة لوضع الكنيسة في العربية وبابل، عرّج على أورشليم فخيّبت آماله، لا سيما لجحافل الحجّاج إليها. كانوا قذرين وعاداتهم في الفنادق أحدثت له صدمة. وجد أورشليم شديدة القذارة، زانية وليس في الإمبراطورية مدينة أكثر ميلاً إلى الجريمة منها. فلفظ حكمه عليها بقوله: «لا يمكنني أن أتصوّر السيد عائشاً في الجسد اليوم فيها، أو أن ثمة فيضاً من الروح القدس في المكان». لم ينصح بزيارتها أو الحجّ إليها. الخلود إلى سكون النفس خير منها.
يبدو أن فصاحته نالت فيما بعد إعجاب بلاط القسطنطينية، فنراه ما بين سنة ٣٨٥م و٣٨٦م يلقي عظة رائعة في تأبين الأميرة بولكاريا، ثم بعد ذلك استدعي لوفاة الأمبراطورة فلاسيللأ زوجة ثيودوسيوس، فاستذوقت كلمته التأبينية الطبقة الأرستقراطية وذاعت شهرته وازداد نفوذه. إلا أن هذا الأمر لم يؤثر على كبريائه بل بقي متواضعًا مبتعدًا عن أمجاد الدنيا.
بعدئذ يُذكر اسمه سنة ٣٩٤م في مجمع ثانٍ عقد في القسطنطينية ثم يتوارى ذكره من صفحات التاريخ.
صفاته وألقابُهُ بحسب ما وصفته الكنيسة:
يُطلَق عليه مع شقيقه القدّيس باسيليوس والقدّيس غريغوريوس النازينزي لقب الآباء الكَبادوكيّين لأنّهم يتحدّرون من منطقة الكَبادوك في وسط تركيا.
يُعتبر القدّيس غريغوريوس النيصصي أكثر الآباء تبحّرًا في فلسفات الأقدمين ونجاحًا في سوقها إلى طاعة المسيح، وكان ممكن أن يماثله بذاك أوريجنس لولا لم يكن له شروده.
لقبّه آباء الكنيسة في زمانه بـ «عمود الأرثوذكسية» واعتبروه خليفة القدّيسين أثناسيوس الكبير وباسيليوس الكبير. كما أطلق عليه آباء المجمع المسكوني السابع، بعد أربعمائة سنة تقريبًا من رقاده (٧٨٧م) ،لقب «أب الآباء».
كان يكفيه أن يكون إنسانًا، أن يتردّد في الأرض، أن يسبّح الله، أن يستغرق في السر الإلهي. قال: «إن مجمل البشريّة هي الله»، والحق إنّه ما كان لأحد أن يظن أن رجلاً مثله كان يمكن أن يكون له التأثير الذي أحدثه في الكنيسة المقدّسة، مذ ذاك.
حبُّهُ للصَّلاة:
كان القديس غريغوريوس يعلِّق على حياة الصلاة أهميَّة قصوى.
- من أقوالِهِ فيها: "الصلاة هي بهجة الفرحين, وتعزية المضنوكين، وتاج العروس ،والعيد في أعياد الميلاد، والكفن الذي يلفُّنا في مثوانا الأخير".
- أن يصلّي المرء، ألا يطلب شيئًا في المقابل، أن يخدم ربّه، أن يجتنّب التجارب، أن يمسّ الأرض بخفّة بقدميه، أن يكون دائم الفرح، هو كلّ المشتهى في عين القدّيس غريغوريوس، وهل للإنسان أن يلتمس في حياته أكثر من ذلك؟!
مؤلفاتُهُ:
ألّف الكثير من المقالات والتفاسير الكتابية والكتابات الروحيّة والمواعظ منها: «في التعليم المسيحي»,»حياة موسى», «في صلاة الأبانا», «حياة مكرينا», «في نشيد الأنشاد»، «في المؤسسات المسيحية», «في التطوّيبات».
- حول العذريّة": كتب هذا الكتاب بإيعاز من شقيقه القدّيس باسيليوس، وهو أدنى إلى التأمّلات الفلسفية منه إلى الواقع المعيوش."
وقد أبرز فيه القدّيس غريغوريوس أن المثال بالنسبة إليه يكمن في الثاوريا، في تأمّل النفس لله بعدما تكون قد تجرّدت من كلّ الهموم إلّا من محبّة الله. لم يدافع في كتابه عن العزوبيّة لكنّه سلّط الضوء على المشاكل والهموم التي تواجه الحياة الزوجيّة.
- « ليس هناك ثلاثة آلهة: "يشرح القدّيس غريغوريوس في هذه المقالة أن كلّ عمل في التاريخ يقوم به الآب أو الابن أو الروح القدس، إنما يقوم به بالاشتراك مع الاثنين الآخرين موضّحًا وحدة الطبيعة الإلهية والمشيئة الإلهيّة الواحدة ،وإلى عدم تعدّد الآلهة في المسيحية.
كما كان له شرح وافٍ لتبيان ألوهة الروح القدس ضد مكدونيوس الذي نكر ألوهة الروح القدس واعتبره أحد الأرواح الخادمة، وأنه لا يختلف عن الملائكة إلا بالرتبة، وإفنوميوس الذي كان يجعل الروح القدس ثالثًا في الكرامة والمرتبة والطبيعة بعد الآب والابن.
- " خَلْق الإنسان": يعرض في كتابه هذا أن الفرق بين الله والإنسان، الذي هو صورة الله، فهو أن الأول غير مخلوق والثاني مخلوق، أي أن الأوَّل كائن بذاته «يهوى، أما الثاني فيستمد وجوده من الأوًّل مخلوقًا من العدم".
وفي الكتاب عينه يتطرّق النيصصي إلى موضوع الشر، فيؤكّد أن الإنسان أخطأ في استعمال الحريّة التي جعلها الله فيه والتي ميّزه فيها عن باقي المخلوقات غير العاقلة، فإرتكاب الخطيئة ووقع في الشر.
- في شرحه الصلاة الربيّة يجعل القدّيس غريغوريوس النيصصيّ تماهيًا بين الروح القدس والملكوت السماوي، فيقول أن الآية "ليأتِ ملكوتك"، وردت في إحدى القراءات "ليأتِ الروح القدس علينا ويطهّرنا».
هذا التماهي استمر في الإيمان المسيحي والتقليد. ولأن الروح القدس حاضر دوما في حياة الكنيسة والمؤمنين, فالملكوت ليس شيئا مستقبليا ننتظره بل هو حاضر أيضا في حياة الجماعة المسيحية.
رُقادُهُ:
توفي على الأرجح سنة ٣٩٥م
ملاحظة:
استقصى المؤرخون مراحل حياته من خلال معلومات مبعثرة في كتاباته، ومن رسائل القدّيّس باسيليوس ومن وثائق تاريخية كنسيّة.