كلمة البطريرك يوحنا العاشر رأس السنة الميلادية…
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
رأس السنة الميلادية 2016
أيها الأحبة،
نحن في غمرة الميلاد المجيد ورأسُ سنتنا الميلادية ينبثق أولاً وأخيراً من ميلاد طفل المغارة، رسول الرأي العظيم وأبي المراحم.
"ماذا نقدم لك أيها المسيح. لأنك ظهرت على الأرض كإنسان لأجلنا. فكل فرد من المخلوقات التي أبدعتها يقدم لك شكراً. فالملائك التسبيح والسموات الكوكب والمجوس الهدايا والرعاة التعجب والأرض المغارة والقفر المزود وأما نحن فأماً بتولاً فيا أيها الإله الذي قبل الدهور ارحمنا"
بهذه الكلمات والتسابيح تجثو الكنيسة المقدسة أمام مزود المحبة الإلهية التي زارتنا في هذه الأيام. بهذه الكلمات التي خطها يراع ناظم التسابيح لا على الكتب فحسب بل على قلب كل منا أيضاً، تنشد قلوب المؤمنين لحن الامتنان ممتزجاً بدموع الفرح الأرضي أمام العظمة الإلهية التي افتقدت وتفتقد ضعتنا إلى اليوم. إن خير ما تقدمه البشرية للطفل الإلهي هو مريم العذراء، وهي المكرّمة عندنا وعند إخوتنا المسلمين. وبكلمات أخرى إن خير ما يقدمه الناس للرب المتجسد هو القلب الطاهر النقي. وهذا القلب الطاهر النقي هو موضع سكنى الكلمة الإلهية والمراحم الربانية التي تلتحف دوماً بدفء الطهارة وتسكن في مزود النفس النقية وتفترش مغارة النفس المتواضعة.
في كل عام تعيد المسيحية لميلاد الرب وللسنة الجديدة في هذه الأيام، في الشتاء. وبتعييدها ترتسم أمامنا صورة الطفل الإلهي الذي يوافينا في كثير من الأحيان في شتاء عمرنا، في ظروف أشبه ما تكون بشتاء قاس. وكأن العبرة من كل هذا هي قول الرب لنا سرياً: لأجلك أتيت أيها الإنسان، يا محبتي الأولى والأخيرة. أنا لك معين عزاء في شتاء العمر. أنا لك لأكون برفقتك دفءاً في صقيع هذه الدنيا ولأذكرك أن السندس الأخضر لابد أن يعقب الشتاء. أنا لك أدق باب قلبك منتظراً نفساً مريميةً بتولاً تهمس في مسمعي أنا أمة للرب.
ما أحوجنا يا إخوتي أن نقتدي بمريم وخصوصاً في هذه الأيام التي نطلب من الرب أن يقصرها بشفاعاتها. مريم بتواضعها اقتنصت خيار الرب. هي ولدت كسائر الناس لكنها بصلواتها وتكرسها وطيبتها المعجونة بالتواضع خمّرت محبة الله قي قلبها فاختمرت به وبكلمته المحيية التي آثرت السكنى في حشا تواضعها. مريم العذراء، ابنة هذا المشرق المعذب، هي صورة البشرية التي تستكين إلى صدر بارئها تماماً كما استكان هو على صدرها طفلاً صغيراً. مريم وسيطة البشرية التي تاهت مع آدم ووجدت مع المسيح.
في نشيده الميلادي الذي يروي قصة الميلاد، يوافينا القديس رومانوس المرنم بحوار ولا أروع بلسان العذراء تجاه الطفل الصغير. ولعل مقاطع هذا النشيد الرائع المفعم صلاة تختصر مكانة العذراء. ففي هذا النشيد، الذي يمكن أن يسمى "آدم وحواء في المغارة"، يرسم الشاعر الكنسي أحلى صوره إذ ينقل أذهان سامعيه، وهو الشماس المرنم والشارح للعيد، ينقلها إلى صورة رمزية تجمع يسوع والعذراء وآدم وحواء في مغارة بيت لحم فيبتدئ على لسان العذراء التي تخاطب الجدين الحاضرين رمزياً على باب مغارة بيت لحم فتقول:
أوقفا الدموع واقبلاني وسيطةً لدى ابني؛ فإن مُبدئ الفرح والسرور هو الإله المولود قبل الدهور؛ اهدأا ولا تضطربا، سأمضي إليه الآن، أنا الممتلئةُ نعمةً".
بهذه الكلمات ... عزّت مريم حواء وزوجها؛ ومن ثم، دنت من المزود، وانحنت وتضرعت إلى ابنها قائلة: "لقد رفعتني يا ابني لصلاحك، إن شعبي ... يضرع إليك بواسطتي. لقد أتاني آدم باكياً بمرارةٍ، ومعه حواء تنحبُ ألماً ووجعاً... وهما يتضرعان إلي أن أحامي عنهما، صارخَيْنِ: يا ممتلئةً نعمةً!".
وبعد أن قدّمت... هذه التوسلات إلى الرب المتكئ في المزود، تقبلها مرتضياً وقال...: "أماه، لأجلك وبواسطتك أخلصهما. لو لم أشأْ أن أخلصهما لما سكنت فيك، ولمَا أشرق منك نوري ولمَا كنتِ دعيتِ أماً؛ لقد قطنتُ مزوداً من أجل شعبكِ.. ولمحبتي له .. تحتضنيني بين ذراعيك وتبصرينني أنا من لا تبصره الشاروبيم، وتحملينني... ابناً، يا ممتلئةً نعمةً.
بهذه الكلمات والصور اختار رومانوس أن يقدم لشفاعة ومكانة العذراء في حياة الكنيسة. وبذات المكانة والشفاعة تتوجه قلوبنا اليوم مصلية إلى مريم العذراء شفيعتنا أجمعين وشفيعة هذه الدار البطريركية. تتوجه إليها بصلاة حارة من أجل سوريا ولبنان والمشرق والعالم كله.
نصلي إليها ونطلب الرأفة بسوريا. نصلي إليها وإلى طفلها الإلهي من أجل السلام في بلد عرف عنه حبه للسلام. نصلي من أجل هذه الأرض ومن أجل ناسها الخيرين الذين سئموا كل أنواع التطرف والإرهاب والخطف الأعمى والذين عاشوا ويعيشون رغم ظلام الأيام تحت سقف الوطن الواحد بدون تفرقة. نصلي أن يرحم الله الشهداء الأبرار ويرحم النفوس التي التاعت بفقدان الأحبة. نصلي من أجل المخطوفين ومنهم أخوانا مطرانا حلب يوحنا وبولس الذين يصمت العالم صمتاً غريباً ومخزياً عن قضيتهم المعلقة منذ أكثر من عامين. ونقولها اليوم للخاطفين وللمعنيّين: طفح الكيل. دماء أبنائنا ليست أرخص من دماء أحد وحياتهم ليست أبخس سعراً من حياة الآخرين. وإذا كان المقصود من الخطف والتعتيم ترهيبَنا كمسيحيين فنحن على مثال يسوعنا لا نخاف عتمة المغارة وإن طالت ولا نرهب أحداً إلا وجه الديان العادل. ونحن لن ندّخر سبيلاً للبقاء في أرضنا والدفاع عنها، وسنقرع أجراسنا في هذا الشرق ما دام في عروقنا دمٌ يجري.
نصلي من دمشق من أجل لبنان ونضرع إلى العذراء أن تكتنفه بحمايتها. نصلي من أجل استقراره وخيره وهو الذي يقاسي إلى الآن مرارة الخطف وندعو وبقوة إلى ملء الفراغ الرئاسي فيه وعدم الارتهان إلى الخارج والحفاظ على الدولة بكل مفاصلها. نصلي من أجل البلد الرسالة ونسأل الجميع الحفاظ عليه بلداً للمواطنة والعيش الواحد بين كل الأطياف. نصلي من أجله ليكون دوماً ساحة تلاقٍ لا ساحة صراع. وإن اللبنة الأولى للتلاقي هي اعتماد الخطاب الوطني الديني والسياسي المعتدل الذي يجتنب لغة المحاباة والزيف من جهة ولهجة التكفير والتطرف من جهة أخرى. ونهيب بكل الأقطاب السياسية ضرورة اعلاء المصلحة الوطنية على المصلحة الفئوية والمضي في انتخاب رئيس للجمهورية بعد أطول فترة فراغ دستوري يشهده هذا البلد منذ استقلاله.
وفي هذا اليوم المبارك، أتوجه بالتحية إلى الشعب السوري بكل أطيافه ضارعاً إلى الله أن يزيل هذه السحابة عن سوريا.
كما أتوجه بالتحية السلامية إلى اللبنانيين جميعاً سائلاً رب السماء أن يديم سلامه ورحمته على لبنان والمشرق والعالم كله.
ولأبناء كنيسة أنطاكية وطناً وانتشاراً، سلامٌ ميلاديٌّ بطفل المغارة وبركةٌ رسولية من سدّة الرسولين. سلام لكم يا أبناءنا في الكرسي الأنطاكي. سلام بربنا الذي نسأله أن يحفظكم ويبارك بنيكم. سلامٌ بطفل بيت لحم الذي نسأله أن يحمي أطفالكم. سلامٌ بطفل المزود لأهلنا في حلب. سلامٌ وشوقٌ لمن كنا معهم الميلاد الماضي. سلامٌ للثابتين في الرجاء. سلام للرعية التي تشتاق لرعاتها وتلْهَبُ صلاةً مع كل كنيسة أنطاكية من أجل عودتهما سالمين.
يايسوع يا من أتانا طفلاً بالجسد احفظ أطفالنا. يا من افترش المزود هلم وافترش مزود قلبنا. يا سيد الأوقات والأزمنة بارك هذه السنة الجديدة وضع فيها نورك الإلهي. افتقد المرضى وواس المحزونين. قوّ المهجرين ورد المخطوفين. ضع فينا قوة رجائك وارحم موتانا يايسوع واجل حياتنا بنور إنجيلك وامنحنا السلام وارحم عالمك. يايسوع يا من أثابنا حضوره سلاماً، سلم حياتنا. أيها النوراني المتأمل دنيانا، قدسها بنورك وسكينتك وسكن بجبروت رويّتك كل جزع واضطراب وعلمنا جميعاً أن ننشدك مصفاً واحداً: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام الذي أثابنا به حضورك يا مخلص، لك المجد إلى الأبد، آمين".