القدّيس نيفن بطريرك القسطنطينيّة
ولد عام 1508م في البليوبونيز لأبوين نبيلين فاضلين وأعطي اسم نيقولاوس. كان أبوه، مانوئيل، مستشارًا لأمير دالماتيا، وقع ضحية الوشايات فحُكم عليه بالموت. أطلقت سراحه زوجة الأمير. لجأ إلى البليوبونيز حيث صار مستشارًا أولاً لأمير موريا، توما بالييلوغوس.
طفولته وبداية حياة الرهبانية:
إنكب على دراسة الكتب المقدّسة والآباء المتوشّحين بالله. أتقن ترتيب الخدم الليتورجيّة وهو في الثانية عشرة من عمره. أثار إعجاب معلّمه لحدّة ذكائه. نزع إلى اتباع مثال الرهبان القديسين الذين قرأ سيرتهم بشغف.
ذات يوم، مرّ به راهب اسمه يوسف. تجاذب وإياه أطراف الحديث. تبعه نيقولاوس حتى دون أن يودّع والدته وأقرباءه. لما بلغ أبيدافرا، سمع عن ناسك معروف قدّيس اسمه أنطونيوس. ذهب لزيارته. أعجب بطريقة حياته وتعليمه. لفته أنطونيوس إلى صعوبة الحياة النسكية. حظي ببركة بقائه لديه، بعدما أصرّ بدموع. أمّا يوسف الراهب فواصل طريقه.
أطاع الشيخ طاعة كليّة واجتهد أن يقتدي بسيرته الملائكية في التفاصيل. ألبسه أنطونيوس الثوب الرهباني بسرعة وأعطاه اسم نيفون. لم يكن يقرأ إلاّ بدموع. بعد فترة قصيرة رقد أنطونيوس بالرّب، وخرج نيفون يبحث لنفسه عن أب روحيّ جديد. سمع براهب آثوسي فاضل حكيم اسمه زكريّا، يقيم في مدينة أرثا، فذهب إليه وطلب منه أن يعلّمه طريقة الحياة في الجبل المقدّس. لكن الاضطرابات التي حصلت في الكنيسة نتيجة الوحدة الزائفة، الآتية من مجمع فلورنسا (1439)، لم تترك للرهبان أن ينعموا بحياة السكون التي يرغبون فيها. تبع القدّيس نيفون شيخه إلى نواحي عسقلون وكروغيا في ألبانيا سعيًا إلى تثبيت الشعب في الإيمان الأرثوذكسيّ.
جعل الأمير جاورجيوس كاستربوتيس زكريّا أباه الروحي واحتفظ به في قصره مع القدّيس نيفون. ولكن بعد سقوط القسطنطينية (1453م) لجأ القدّيسان إلى الجبل. وما إن عاد الهدوء حتى رجعا إلى أوخريدا حيث أقاما في دير والدة الإله. فلمّا رقد رئيس أساقفة أوخريدا، المدعو نيقولاوس، اختار الأساقفة ورجال الإكليروس، في تلك الأنحاء، زخريا ليشغل كرسي أوخريدا. بعد تحفّظات عديدة أبداها رضخ. ثم قبل أيام قليلة من سيامته سأله القدّيس نيفون البركة ليعتزل في جبل آثوس. أخذ عليه شيخه أن يتخلّى عنه في اللحظة التي يحتاج فيها إليه. ما إن حلّ الليل، وفيما كان زخريا قائمًا في الصلاة، استطلاعًا لمشيئة الله، جاء ملاك الرّب وأوعز إليه بترك تلميذه بذهب إلى الجبل المقدّس.
في الجبل المقدس:
خرج نيفون إلى الجبل كمن له جناحان. توقّف أولاً في دير فاتوبيذي. وجد هناك العديد من الرهبان الأفاضل. توجّه بعدها إلى كارياس حيث لاقاه المتقدّم دانيال وأبدى أنه سمع عنه ورغب، من زمان، في التعرّف إليه قبل أن يموت. أوصاه بعدم الاحتفاظ لنفسه بكنوز الحكمة التي ادخرها في نفسه. مذ ذاك شرع القدّيس نيفون يعلّم فأثار تعليمه إعجاب الرهبان الآثوسيين لعمق معارفه وأسلوبه حتى كانوا يتغافلون عن تناول طعامهم.
زار، بعد ذلك، ديري كوتلوموسيو والبندركراتور. ثم عاش، لبعض الوقت، في تقشّف كبير، في مغارة برفقة نسّاك آخرين. وإذ دعاه آباء اللافرا الكبير إلى النزول عندهم، أقام بينهم معلّمًا للرهبان، ثم اعتزل، أخيرًا، في دير ديونيسيو، حيث اقتبل الإسكيم الكبير وسيم كاهنًا.
ذاعت شهرته لا فقط في الأديرة بل خارج حدود الجبل المقدّس أيضًا، حتى لمّا رقد برثانيوس، متروبوليت تسالونيكي، اختار الإكليروس والشعب نيفون خلفًاً له وأرسلوا سفارة إلى دير ديونيسيو يحيطون رئيسه علمًاً بالقرار الذي اتّخذوه ويسألونه المساعدة في إقناع القدّيس بالقبول تعزية لنفوسهم.
أذعن نيفون لمشيئة الله وذرف دموعًا سخيّة. جرى استقباله في المدينة استقبالاً حاشدًا. كانت الجموع تتهافت لأخذ بركته. حالما جرت سيامته، شرع يبشّر بالإيمان الأرثوذكسيّ إصلاحًا للأخطاء المدسوسة بتأثير مجمع فلورنسا.
كان عزاء للشعب المسيحيّ الرازح تحت النير العثماني. حثّ المؤمنين على الخضوع لما تقتضيه العناية الإلهيّة، على رجاء الخيرات العتيدة، وكذا على الثبات في الفضائل الإنجيليّة. وكان، ليلاً، يتردّد على بيوت البائسين ليوزّع الإعانات. نجح، بمواعظه الصابرة، في هداية العديد من غير المؤمنين.
بطريركا على القسطنطينية:
دُعي نيفون إلى القسطنطينية ليشترك في اجتماع المجمع المقدّس. أكرمه البطريرك سمعان تربيبذوند وكلّ الكنيسة إكرامًا كبيرًا. لقي هناك أباه الروحي زخريّا أوخريد الذي ما لبث أن فارق إلى ربّه. بعد ذلك بأيام قليلة رقد البطريرك أيضًا، وجرى انتخاب القدّيس نيفون، بالإجماع، بطريركًا مكانه سنة 1486م.
استبان نوراً في مشكاة الكنيسة، وأمكن تعليمه، مذ ذاك، أن ينتشر انتشارًا كبيرًا.
رغم شدّة الحالة، في تلك الأيّام، استعادت الكنيسة فرحها لأن الإيمان الأرثوذكسيّ صار له، في شخص القدّيس نيفون، مدافعًا غيورًا.
الاضطّهاد العثماني:
حسّادًا كثيرون أخذوا يكيدون له المكائد. فإذ كان البطريرك سمعان قد ترك غنى وافرًا فإن عين السلطة التركية كانت على الميراث. حاول نيفون أن يحافظ على الموجود ما أمكن. أثار حرصه عداء الحكومة له، فصادرت كميّة كبيرة من الأواني المقدّسة وأطلقت حملة اضطهاد على الكنيسة، ألقت العديد من الإكليروس في السجون. وإذ بلغ السلطان بايازيد الثاني أن البطريرك وراء هذه المسألة، سخط عليه وأقاله (1488م).
طُرد نيفون من المدينة فلجأ إلى دير السابق المجيد في سوزوبوليس في تراقيا. بقي هناك سنتين يسأل الصفح لأعدائه. إثر الفترة البطريركية الثانية التي قضاها القدّيس ديونيسيوس وكذلك مكسيموس الرابع، استدعي نيفون، مرّة أخرى، ليتسلّم كرسيّ القسطنطينية، كان هذا في آواخر العام 1497م. وجد الكنيسة هناك في اضطراب عرضة لفضائح جمة.
ذات يوم التقى البطريرك في الشارع السلطان وموكبه. حياه دون أن يبدي في حضرته الإكرامات التي يفرضها العُرف. للحال جرت إقالته، مرة أخرى، ورُحل إلى أدرينوبوليس، إلى كنيسة القدّيس استفانوس. صار ممنوعاً عليه أن يعلم (1498م).
في فلاخيا:
في ذلك الحين كان الأمير الفالاخي رادو الكبير (1496 -1508م) يعتبر نفسه حامي الأرثوذكسيّة وخليفة ملوك بيزنطية. هذا قدم لزيارة القدّيس في منفاه، إذ كان في مهمّة لدى السلطان. عرض الأمير على القدّيس الانتقال إلى ما وراء الدانوب ليتسلّم زمام الكنيسة البلغاريّة الفالاخيّة هناك ويعمل على إصلاحها وتعليم الشعب والإكليروس الناموس الإلهي. وافق السلطان على ذبك وقبل نيفون، بعد صلاة مليّة، المهمة. جرى استقباله في فلاخيا بإكرام كبير. كان ذلك حوالي العام 1503م. للحال دعا إلى اجتماع للشعب والبويار واقترح تدابير اعتبرها ضرورية لتقويّم الأخلاق المفسدة نتيجة الممارسات السيئة والاعتقادات الفاسدة.
أنشأ أسقفيتين: بوزببو وريمنيكو، وأصلح الأديرة، وحض الكهنة والنبلاء على حفظ وصايا الله ليكونوا مثالاً طيّبَا للشعب. تصدّى للسكر والفسق. قدّم نفسه، في كلّ شيء، كيوحنا الذهبي الفم جديدًا للأرض الرومانيّة. ولكن ما لبث أن نشب خلاف بين القدّيس والأمير. كان رادو قد زوّج شقيقته للبويار المولدافي الكبير، بوغدان، المنفيّ في فالاخيا، وهو عالم بأن لهذا الأخير زوجة في بلاده. فلمّا أحيط القدّيس نيفون علمًا بالأمر، حاول إقناع بوغدان بالتخلّي عن زواجه الثاني. لكن هذا رفض وهدّد. ورغم ضغوط الأمير رادو بقي قدّيس الله لا يلين، وحرم بوغدان، كما توقع لرادو وبوغدان نهاية بائسة وتحدّث عن أسواء كبيرة سوف تحلّ بفلاخيا.
عمد رادو إلى طرد الأسقف الشجاع من كرسيه محرّمًا على أحد استضافته. لكنه عاد فخشي غضب الله، لاسيّما بعد اللعنة التي تفوّه بها القدّيس عليه، فاستدعاه والتمس عفوه.
بارك القدّيس ابنه الروحي البويار الصغير نياجو باساراب وتنبأ بارتقائه سدّة العرش. ثم أخذ معه تلميذيه مكاريوس ويواصاف وارتحل إلى مقدونيا حيث أقام لبعض الوقت يعلّم الشعب المسيحيّ.
العودة الى الجبل المقدس :
أخيرًا، عاد إلى الجبل المقدّس فاستقبله رهبان فاتوبيذي بفرح. بعد قليل من استشهاد تلميذه مكاريوس التسالونيكي (14 أيلول)، ترك الدير، سرًّا، وتحوّل إلى دير ديونيسيو متخفيَّا. كان يلبس ثوب راهب بسيط. طلب الانضمام إلى الشركة.
أسندت إليه مهمّة سائس البهائم. ذات يوم، فيما كان يحفظ الحيوانات في الجبل، عاين رهبان شعلة نار ترتفع إلى السماء ولاحظ أحدهم القدّيس في الصلاة وكلّه بهاء. عاد الراهب، بسرعة، إلى الدير ليتقل الخبر. اجتمع الرهبان في الكنيسة ليسألوا الله في أمر نيفون من تراه يكون. ظهر القدّيس يوحنا السابق، شفيع الدير، للرئيس وأمره بإعداد العدّة لاستقبال نيفون، بطريرك القسطنطينيّة.
فلما عاد القدّيس إلى الدير في حلّته البسيطة، كانت الشركة كلّها في انتظاره بالباب، على قرع الأجراس، بالشموع وبالبخور، إكراماً لرتبته.
فلما طالعه المشهد انطرح أرضًا والدموع في عينيه، وسأل الإخوة الصفح لأنّه خدعهم.
شرح لهم أن هذا كان لخلاص نفسه ولكيّ يجد رحمةً في الدينونة، فإنّه، هربًا من الكرامات الباطلة وهموم العالم جعل نفسه في خدمتهم كالأخير بينهم.
فيما بعد، استمرّ يخدم الشركة في الأمور الوضيعة عينها، معلّمًا بالمثال الطيّب التواضع، ومستأسرًا كلّ فكرٍ جسديّ لناموس الروح بنسكٍ فائق.
عرف نسّاك الجبل المقدّس ورهبانه أن قمر الأرثوذكسيّة مقيم بينهم، فكان الدير، كلّ أحد وكلّ يوم عيد، يمتلئ رهبانًا متشوّقين لتلقّي تعليم قدّيس الله.
لمع بتعليمه وعجائبه إلى أن بلغ التسعين سنًا. وإذ عرف سلفًا بيوم رقاده، دعا كلّ الإخوة وحضّهم على اليقظة في اتباع القواعد التراثيّة للحياة الرهبانيّة، وأن يجاهدوا بغيرة ليُحسبوا أهلاً لملكوت السموات.
وبعدما باركهم وسألهم العفو، طلب من تلميذه يواصاف أن يدوّن صلاة للحل من الخطايا لتقرأ عند دفن الإخوة التماسًا لمغفرة خطاياهم. ثم أعطاه الإذن أن يقدّم نفسه للشهادة.
رقد بسلام في الرّب في 11 آب سنة 1508م بعدما تناول القدسات.
إثر نياحة القدّيس نيفون، قضى الأمير رادو بمرضٍ رهيبٍ وضربت أسواء فلاخيا للاستبداد الذي تعاطاه أميرها. أما نياجو باساراب الذي نجا من محاولة اغتيال فقد استلم دفّة السلطة ونجح في إعادة النظام إلى البلاد. ولكيّ يُعبرعن امتنانه لقدّيس الله الذي رأى نبوءته تتحقق، نقل رفاته إلى فلاخيا حيث استبان، عجائبيًا، أن خطايا الأمير رادو قد غُفرت. وقد أرسل، فيما بعد، قسمًا من هذا الكنز الثمين في مستوعبٍ رائعٍ إلى دير ديونيسيو الذي منّ عليه بعطايا سخيّة، فقط احتفظ بالجمجمة وإحدى يدي الأسقف القدّيس. هذه أودعت كنيسة دير Curtea في أرغيس.