كلمة البطريرك يوحنا العاشر في الجمعية العامة…

2015-07-23

p1 كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في الجمعية العامة للمؤتمر الأنطاكي في أميركا الشمالية
بوسطن، 23 تموز 2015

لن ينسى سمير تلك اللحظة التي انقلب فيها عالمه رأساً على عقب. فالنيران التي التهمت بيته في حمص دمرت معه طفولته. هو نفسه هرب منذ شهرين مع عائلته والتجأ إلى وادي النصارى. جسد ووجهه محترقان وألمه لا يطاق. هذا الصبي فقد القدرة على النطق هو الآن في طور التعلم من جديد كما لو أنه لم ينطق من قبل. عندما استهدف بيتهم بصاروخ في حمص، لم ينجح والداه بالهروب به إذ تداركهم الوقت. تصف أم سمير بيأس وبحزن عميق كم أثر الحادث عليه نفسياً: "هو يبكي كل الليل. يخاف كل شيء. ويشعر بمنتهى الأسى عندما يغادره والداه لثوانٍ". هذه العائلة تعيش تحت ظروف قاسية وشح كبير في أبسط الحاجات. ودائرتنا الإغاثية البطريركية وجدت أن ألم سمير يتجاوز حروقه. ألمه النفسي يتضمن الخوف والأسى.
دعونا نشاهد هذا الفيلم الذي أعد في البطريركية
(عرض فيلم)
صاحب السيادة،
السادة الرسميون،
الحضور الكريم،
أنا سعيد لوجودي بينكم، وأنتهز الفرصة لأصافح كلاً منكم وأنقل إليه محبة الأهل في كنيسة أنطاكية الواحدة التي تمد جناحها غلى ما خلف البحار وترسم صورةً أبديةً لشهادتها ليسوع المسيح في كل أصقاع الدنيا.
"يا أنطاكية ارفعي ألحاظك، باستدارةٍ وانظري لأنه هوذا أولادك، قد تواردوا إليك كدراري مضاءةٍ من الله من المغارب والشمال والبحر والمشرق مباركين المسيح فيك إلى الأدهار"
تجاه كل ما يحدث في المشرق لا يسعني إلا أن أقول لعل من سخرية قدره أن يقيم تذكارات المذابح ويدمغ ذاكرة التاريخ بالنار وهو المخلوق ليكتبها بالنور.
أكثر من ستين سنةً مرت على إقرار شرعة "حقوق الإنسان" بعد حربين طاحنتين راح ضحيتهما الملايين. وبعد كل هذه السنين، وبعد كل هذه الفواتير الغالية، نعود لنكتشف أن ما كتب على الورق ظل على الورق وأن أبخس الأثمان في لعبة الأمم هي الدماء البريئة وحقوق الإنسان بالعيش بأمان.

أما لماذا نقول هذا. فلأن دهرنا الحاضر، يا إخوة، يشهد على إنسان يباد تحت كثير من المسميات. هناك عبث بخرائط الدول. هناك عبودية لسوق السلاح. هناك ترنحٌ تحت ضربات الإرهاب، الذي لم يعد خافياً على أحد. وهنالك استخدام لشعارات، بالمبدأ رائعة، لتعكير صفو عيش آمن. من حقي كمشرقي أن أحيا بأمان. من حقي ألا يجوع أولادي وأن أذهب إلى مدرستي. من حقي أن تصان حدودي ومن حقي أن أتغنى بصفحات تاريخ مسالمٍ في أرضي تكون أنموذجاً للعيش الحاضر وأملاً للمستقبل القريب والبعيد.

نحن هنا اليوم لنقول للدنيا أن المسيحيين معجونون بتراب هذا المشرق. المسيحيون هم قطعة من قلب ديارنا وهي منهم قطعة من قلب. نحن ميقنون أن وجه التاريخ يكتبه المنتصر ولكننا نعرف أن زيف التاريخ يكشفه حق الناصري يسوع المعلق على صليب مجده. نحن لا نهاب الشهادة ليسوع المسيح في كل زمان ومكان ولكننا في الوقت عينه أبناء السلام وعجنة باذر السلام. لدينا يا إخوة مطارنة وكهنة يقبعون في الخطف منذ أكثر من سنتين وسط صمت دولي مخز ومعيب. وهما مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي. ولدينا كهنة ورهبان وراهبات وشعب وشهداء ذنبهم الوحيد أنهم يحملون كينونة مسيحية. لدينا إخوة أجبروا على الهجرة وآخرون فرضت عليهم الجزية. لدينا أناسٌ يحملون أكفهم على أيديهم وهم يقطنون تحت مرمى الصواريخ التي لم توفر لا مدرسةً ولا مدنياً ولا عسكرياً في دمشق وفي كل بقاع سوريا. لدينا لبنان يئن تحت جمر حسابات الخارج ولظى الصراعات وحمى الفراغ الدستوري ونار الخطف أيضاً.

نحن لا نتكلم عن حماية للمسيحيين وكأن المسيحيين هم فئويون، وكأنهم منعزلون عن غيرهم. نحن نؤكد ونقول أن حماية المسيحيين وغيرهم هي بإحلال السلام في ربوعهم. حماية هذا المشرق تكون بغرس الزيتون وتعزيز أسس السلام ولا تتم لا بالطائرات ولا بدفق السلاح ليقصف مدنيين عزل. حماية الشرق وناسه تكون بإسكات نار الحروب فيه. حمايته تكون بالنظر بعين الإنسانية إلى كل ما يجري لا بعين المصالح.
من هنا من هذا المكان أطلق صوتي شرقاً وغرباً وأقول لكل العالم: دعونا نعيش، دعوا شعبنا يعيش ولا تجعلوا هذا المشرق حلبة للصراعات. ما يجري في أرضنا هو إرهاب أعمى لم نعتده.


أيها الأحباء بالمسيح،

نحن لا نخاف لأننا نفتخر بكم. أنتم أبرشيتنا وكنيستنا في أمريكا الشمالية وكندا. نحن كنيسة واحدة. وأنتم في قلب أنطاكية وأنطاكية في قلوبكم. نحن عائلة واحدة وجسد واحد نصرخ دوماً مع بولس الرسول:

"فمن يضعف ولا أضعف أنا، أو من يعثر ولا أحترق أنا" (2 كور 11: 29)
"فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه. وإن كان عضو واحد يكرّم فجميع الأعضاء تفرح معه" (1 كور 12: 26)
ولكن ومع كل هذا لدينا وجه المسيح قوةٌ لنا في كل آن. ولدينا فيه رجاء لن تطمره دياجير الزمن الحاضر. ولدينا عزة نستمدها من سواعد شبابنا ومن ألق عيونهم التي تؤمن أن الرب هو خميرة نفوسهم وأنهم باقون في أرضهم مهما علت أمواج الظلام.
بارككم الله سيدنا جوزيف ومنحكم سنين عديدة.
بارككم الله أحبتي أساقفة هذه الأبرشية وقواكم وحماكم.
فليبارككم الله جميعاً، كهنة، شمامسة وإكليروساً وشعباً.
ولتشمل البركة الرسولية أبرشية نيويورك وسائر أميركا الشمالية، راعياً ورعيةً، التي أعطتنا منبراً نسمع فيه صوت الألم وقوة رجاء القيامة وسط ما ينتاب ربوعنا من محن.

"لأني من حزن كثيرٍ وكآبة قلب كتبت إليكم بدموعٍ كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم" (2 كور 2: 4)