بوركتَ يا شعب اللاذقية الطيّب
2013-07-13
من كلمة البطريرك يوحنا العاشر في اللاذقية
السبت 13 تموز 2013
أيها الأب الجليل،
وطالما أني أتوجه إليكم وأخاطبكم، فإني أخاطب أيضاً وأتوجه إلى أخينا... كي لا تفوته كلمة مما أقول لمحبيه في اللاذقية. وكأني بقلبه يخفق مع قلوبنا. آتيكم اليوم كبطريرك لكنيسة أنطاكية، وها أنا أنتصب بينكم على هذا الكرسي الذي كنت أراكم تتربعون عليه، وأنا بعدُ فتىً شابٌ كان يأتي إلى كنيسة مار جرجس ليصلي ويرتل. إنني أنحني أمامك... وأطلب صلواتك.
وأنتم، وأنتم يا أحبتي أنحني كذلك...
نعم، أحبائي،
تعجز الكلمات أمام لُقيا الأحبة وتؤْثِرُ لغةَ الصمت. تعجز الكلمات تجاه المشاعر الطيبة وتغور في لجج الحيرة. تُفلس الكلماتُ أمام وصف اللاذقية وأمام شعبها الخيّر الطيب. وأمام روعة المشهد، يحلو لي أن أخاطبَ اللاذقية كما خاطب الدمشقي بيعة المسيح في عيد قيامة سيدها، وأقولَ "يا لاذقية ارفعي ألحاظك باستدارةٍ وانظري، لأنْ هوذا أولادك قد تواردوا إليك، درارِيَ مضاءةً من الله". افرحي وسرّي لأنك غَرستِ شتولاً كثيرةً فأورقَتْ وأزهرتْ في كرْم الرب والوطن. ألا سُري واطربي يا كنيسةً حيةً ويا شعلةً للتقى والإيمان. سُرّي وتهللي لأنك ترضعين صغارنا إيمان الأجداد وتراثَهم وتحفظين كبارنا في حب الله والوطن والإنسان.
في ربوعك تتلاقى أصواتُ كنائسكِ مع أصوات مآذنك وفي كنائسكِ تتناغمُ ابتهالات أطفالك مع ترانيم مؤمنيك. وفي رحابك تتعانق فضائلُ أبنائك مع بخورِ الأديار "ذبيحةَ تسبيحٍ" مرضيةً أمام مذبح الرب العلي.
بوركتَ يا شعب اللاذقية الطيب، يا مشتلاً للإيمان وطيداً ويا خميرةً مباركةً معجونةً بالإيمان الصادق. بوركتَ لأنك قبلت الوزنة وضاعفتها في حقل الرب.
عرفتُ فيكم الحبّ والصدق والإخلاص. عرفت فيكم الغيرة على كل صلاحٍ وفعل خير. عرفت فيكم روح الخدمة والمعونة. عرفتُ فيكم حب الفقير والمحتاج.
عرفتُ فيكم كلّ اندفاعٍ في العطاء لبناء كنيستكم ووطنكم. لذا أتجرّأ وأقول فيكم وفي اللاذقية:
يا مَعقِلَ الإيمانِ دُمتِ مَنارا........ يُخزِي الظّلامَ، يُحِيلُهُ أنوارا
يا لاذقِيَّةُ، كم حُقُولٍ لِلإلهِ .......... زَرَعتِ ثُمَّ حَصَدْتِها أغمارا
يا لاذقِيَّةُ، كم نُفُوسٍ ظامئاتٍ........ لِلهُدى، أَروَيتِها أمطارا
بُورِكتِ يا أرضَ القداسةِ والتُّقى...... وَلْتُحفَظِي في رِفعةٍ أدهارا
أأستطيع أن أنسى طرقاتِك ومدارسَك؟ أأستطيع أن أنسى كنائسكِ وجوامعكِ..، أستطيع أن أنسى مرفأك ومتحفكِ؟ أأستطيع أن أنسى جامعتك؟ أأستطيع أن أنسى حيث نشأتُ في حارة الصليبة! أأستطيع أن أنسى!!
لقد أتحفتِ اللاذقيةُ أمَّها البارة، كنيسةَ أنطاكية، بغيضٍ من فيضِ خيرةِ أبنائها. أَتْحَفَتْها بمطارنةٍ من أبنائها (وها هم يشهدون على كلامي) وببطاركةٍ ممن اعتلَوا كرسي أسقفيتها. أتْحَفَتْها بكهنةٍ وَرعين ورهبانٍ وراهباتٍ. أنّى لنا أن ننسى اللاذقية! لاذقيةَ جراسيموس مسرة ويوحنا منصور، لاذقية ملاتيوس الدوماني وإغناطيوس هزيم! أتحفَتْها بهؤلاء الرجال، لآلئَ بنور الرب في كنيستنا ومجتمعنا وبلادنا.
ومن كاتدرائية اللاذقية، يطيب لي أن أخاطب ملاك اللاذقية سابقاً وملاك أنطاكية لاحقاً، الحاضر معنا روحاً والغائب جسداً، المثلث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع، وأقول له. استفق يا سيدي من عَلْياء طُهرك وارنُ بناظريك إلى الكرمة التي سقيتَها بعرق أتعابك وعاينْها وارفةَ الظلِّ مورقةً ومغتذيةً دوماً من قواريرِ الخلاصِ السبعة، أسرارِ كنيسة الرب.
وإلى من أضاء حياتَه شمعةً تنير درب الخلاص للمؤمنين، إلى مَنْ عهدتُ فيه الأب والراعي والصديق والأخ والمرشد، إلى سيادة المتروبوليت يوحنا منصور، ملاكِ اللاذقية، أقول: إن الصمت أمام طُهرك وخدمتكَ وإنجازاتكَ لأفصحُ وأبلغُ من قوافي الكلام. أمدّك الله بوافر عنايته ذُخرَ نقاوةٍ لكنيسته المقدسة، حارساً إياها وساهراً عليها ومورداً إياها ينابيع القداسة والخلاص. أيها الأب المصلي والراعي الوديع، الحافظُ وديعةً الإيمانِ بإخلاصٍ ووفاء، أطال الله بعمرك.
أحبائي وأبنائي:
آتيكم اليوم لأكون بينكم في هذه الأيام القاسية التي تعصف بنا، لأفتقدكم وأبلسمَ جراح قلوبكم ببركة الرب. لذا، لا يسعني اليوم إلا أن أؤكد، ومن على هذا المنبر الشريف، على ثوابتَ لنا لا تتبدل ولا تتغير.
وهنا، لا نستطيع أن ننسى أحباء لنا وإخوةً، شركاءَ لنا تاريخاً وحضارةً ولغةً ومواطنةً. أعني بهم إخوتنا المسلمين، الذين نهنئهم بشهرِ رمضان الفضيل، شهرِ الرحمة والإحسان. فعلاقتنا بهم تتخطى مجرد التعايش المشترك. نحن وإياهم رئتان لجسدٍ واحد. إن اعتلّ منه عضوٌ تداعت إليه سائر الأعضاء. مَنْ منّا لا يذكر البطريرك الأنطاكي غريغوريوس (حداد)، أو محمد غريغوريوس، كما دعاه إخوتنا المسلمون في دمشق، الذي لم يوفر حتى صليبه، فباعه ليطعم المحتاجين دون تمييزٍ أيام الحرب العالمية الأولى؟ مَنْ منّا لا يذكر أن ذاك الأخير لم يفرّق في إحسانه بين دينٍ وآخر. وأن رغيفَ "غريغوريوس" لم يميز بين مسيحيٍ ومسلم. نحن ومسلمُو هذه الأرض لا نتقاسم فحسب وجوداً مسالماً، لا بل بوتقةً واحدةً تصهَرُ الجميع في المواطنة وتبني الغد المشرق.
نحن، أبناءَ هذه الأرض بكافة أطيافِنا، مؤتمنون على حضارة هذه البلاد، على حضارة سوريا، التي نريدها درةً من درر هذا المشرق. نحن مؤتمنون على وحدة تراب سوريا، من حرمونها وجولانها إلى حلب دُرّةِ مجدها، ومن خابورها وفراتها إلى طرطوس واللاذقية لآلئِ يَمّها. نريد ونعمل أن تنعم سوريا بالسلام وأن تزول عن حماها تلك السحابة الداكنة التي أعملت في أولادها قتلاً وتشريداً. ومن ههنا، من اللاذقية، من منارة المتوسط، ندعو السوريين جميعاً والدول المجاورة والأسرة الدولية إلى بذل الجهد مضاعفاً لترسيخ أسس الحل السياسي وإحلال منطق الحوار والعيش المشترك في سوريا. لقد سقت أرضُ سوريا العالمَ أجمع قوة الحضارة فهي الآن مدينةٌ له بجهودٍ ومساعٍ لإحلال السلام في ربوعها. سوريا بلدٌ للتآخي، موئلٌ للتلاقي والحوار وموطنٌ للإلفة والمحبة. ملتقىً للحرف لا ملتقىً للنزاع. يعزّ علينا أن يعلو فيها رنين السيف على ضربة المعول. سوريا مدعوةٌ أن تصل بمعاول أبنائها إلى الغد المشرق، وأن تبلغ بلقياهم سويةً إلى مرتع السلام والطمأنينة.
أضرع في الختام إلى الربِّ الإله، البارئِ لكل نسمةٍ والقابضِ على أعنّةِ الأوقات والأزمنة، أن يُديم سلامَه في قلوبكم وأن يحفظكم جميعاً ويحفظ بلادنا وسوريا، وأن يُسبغ على خليقته أوقاتاً سلامية فيتمجدَ اسمُه على الدوام، هو المبارك إلى الأبد. آـمين