شرح في إنجيل الأعمى
أحد الأعمى
لمَ وضعت الكنيسة هذه التلاوة الإنجيليّة في قمّة آحاد الفترة الفصحيّة؟
لقد انتقت الكنيسة في هذه الفترة الفصحيّة نصوصًا إنجيليّة، معظمها من إنجيل يوحنّا (ما عدا إنجيل أحد حاملات الطيب، فمن إنجيل مرقس)، تبدو كأنّها لم تُكتب بحبرٍ بل بمياه المعموديّة التي كانت تُجرى في سبت النور.
ففي الصوم الكبير، الذي أنهاه عيد الفصح المجيد، كانت الكنيسة تعدّ للمعمودية أشخاصّا موعوظين (يهودًا ووثنيّين) قبلوا الربّ يسوع إلهًا ومخلّصًا. وهكذا قرأت علينا الكنيسة في أوّل أحد تلا الفصح، إنجيل توما، ثمّ إنجيل حاملات الطيب، ثمّ المخلّع فالسامريّة فالأعمى. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ المعموديّة التي يقبلها كلّ منّا وحده، قائمةٌ في هؤلاء الشهود الذي يمثّلون صورة ما يُنتظر أن يصيره كلّ من ماتوا مع المسيح وقاموا معه إلى حياةٍ جديدة.
هكذا إذًا تريد الكنيسة، في اختيارها إنجيل الأعمى في الأحد الخامس بعد الفصح، أن تضمن قبل أن تُقفل موسم الفصح أنّنا ترسّخنا في اعتقادنا أنّ المعموديّة هي النور حقًّا، تريدنا أن نجدّد معموديّتنا في الفصح، ونؤكّدها في الآحاد التي تليه لنتعهّد دوام استنارتنا، وقد أعلنت أحدًا تلو أحد هذه الإرادة. وفي هذه التلاوة الإنجيليّة التي يشفي الربّ فيها أعمى منذ مولده، تعيد إعلانها بقوّةٍ. وفي قراءتنا إيّاها، يمكننا أن نلاحظ براعة هذا الرجل في حواراتٍ خاضها. من أين أتت بلاغته؟
قد يكون سمع أمورًا عن الله في مجامع اليهود، ولكن هذا لا يكفي وحده. حيرتنا هذه يزيلها إيماننا بأنّ قوّة هذه الشهادة إنّما يعطيها، نعمةً، الروح القدس الذي قال فيه الربّ، مرّةً، إنّ من يقبله، "تجري من بطنه أنهار ماءٍ حيّ"(يوحنّا 7: 38). هكذا نصبح جميعًا، بالمعموديّة التي نلنا فيها نعمة الروح القدس، شهودًا للّه الحيّ، رغم العداء الكلّيّ الذي قد نواجهه في شهادتنا، كما حصل مع هذا الأعمى.
فالكنيسة اختارت هذا النصّ الإنجيليّ الذي يعجّ بذكر أعداء الشهادة لتقول لنا إنّه لا يجب أن نحسب أنّ قوّة الشهادة تكمن في قبول الناس إيّاها. الشهادة قوّتها فيها، في إيماننا بمن ولدنا جديدًا، بمن نقلنا من الظلمة إلى النور. إنّه هو الذي يدعمنا في شهادتنا، كما دعم هذا المولود أعمى الذي كان وحده، يدافع عن إلهٍ لم يره من قبل! كان يدافع شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، أي كان كما لو أنه، وحده، يواجه عالمًا كلّه يخاصمه. وفي النهاية لاقاه الربّ يسوع. إذًا إن لم يقبل العالم شهادتك، فلن يتركك الربّ وحدك، سيجدك، ففيك وحدك، يعلن نصره كاملاً. إن رفض العالمُ كلّه إلهَك، تبدو العالمَ الذي قام المسيح من أجله. فأن أؤمن أنّ الله يحبّني حبًّا شخصيًّا، أمرٌ يشكّل عصب حياتي، في المسيح. فكلّ الحياة المسيحيّة، كلّها، أن أؤمن بأنّني محبوب، أي أن أرى في حبّ الله لي كلّ ما أحتاج إليه في حياتي. وعلى هذه المحبّة تقوم شهادتي. هذه قمّة الأناجيل التي قُرئت علينا قبل وداع الفصح، بل هذا رسمٌ لحياتنا يومًا فيومًا.
الإنجيل
"يا ربّ من أخطأ، أهذا أم أبواه حتّى وُلد أعمى؟":اعتقد اليهود أنّ العاهات والأمراض هي جزاء الخطيئة. وتمادوا في هذا الاعتقاد إلى حدّ القول إنّ الله يفتقد ذنوب الآباء بالبنين (تثنية الإشتراع 5: 9، وخروج 20: 5). سؤال التلاميذ "من أخطأ أهذا أم أبواه حتّى وُلد أعمى؟" مبنيٌّ على هذا الاعتقاد وهو يتضمّن شكًّا في العدالة الإلهيّة.
"لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه": لا يقول الربّ يسوع إنّ الأعمى وأبويه أبرارٌ منزّهون عن الخطأ، بل يوضح أنّ عاهة هذا الإنسان ليست نتيجة خطيئةٍ محدّدة، وليست جزاءً مباشرًا لخطيئةٍ معيّنة. أمّا أن تظهر أعمال الله فيه، فهذا لا يعني أيضًا أنّ الله يخلق المرض بتصميم ثمّ يستخدمه لإظهار أعماله. الهدف من هذا الكلام هو التأكيد على أنّ الشفاء هنا نموذجٌ من أعمال الله. يخبرنا الكتاب المقدّس أنّ الله عند الخلق عمل كلّ شيءٍ حسنًا(الإصحاح الأوّل من سفر التكوين). وهذا عمل الله باستمرار أن يكون كلّ شيءٍ حسنًا. لكنّ الإنسان إذ ابتعد عن الله باختياره حجب عمل الله عن وجوده وحياته. فأخذ كلّ ما كان حسنًا يتشوّه ويتعطّل. هكذا، يبني الإنسان حاجزًا بخطيئته، ويخرج الله من حياته، ثمّ يبدأ بلَوم الله. هذا لسان حالنا عندما تحلّ بنا النكبات. نتذمّر ونلوم الله، وبدل أن نضع اتّكالنا عليه، نقول إنّه يقصد أذيّتنا، في حين أنّ الله كما يقول الرسول يعقوب"لا يجرّب بالشرور"(يعقوب 1: 13-18)، ولا يجازي عن شرّ بشرّ.
"ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار... ما دمت في العالم فأنا نور العالم ": أعمال الذي أرسله هي التي تجعل كلّ شيءٍ حسنًا. لم يغتصب الله حرّيّة الإنسان ويبدّله قسرًا بل تجسّد وأخذ يترك آثارًا إلهيّة بكثير من الخَفَر علّها تقود الإنسان إلى التبدّل. فنور المسيح اقتحم ظلمة هذا العالم ولكنّ الظلمة ما زالت تصدّه لأنّ خطيئة الإنسان هي بحدّ ذاتها ظلمةٌ حالكة، لذلك قال الربّ يسوع لنيقوديموس:"هذه هي الدينونة أنّ النور قد جاء إلى العالم وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النور لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة". وأن تسود الخطيئة يعني أن يسود الليل "حيث لا يستطيع أحدٌ أن يعمل". نجد إذًا أنّ صميم هذا الفصل الإنجيليّ هو أوّلا ما ورد في هذه الآية "ما دمت في العالم فأنا نور العالم"، كذلك في الآية 39 التي تلي هذا الفصل الإنجيليّ:"لدينونةٍ أتيت أنا إلى هذا العالم حتّى يُبصر الذين لا يُبصرون ويعمى الذين يُبصرون". المراد طبعًا أنّ يسوع يقسم البشر إلى قسمين: الذين يدّعون البصر وهم عميان إذ لم يؤمنوا بالمخلّص، والذين كانوا عميانًا واعترفوا بذلك حتّى إذا انكشف لهم نور المسيح، آمنوا به.
"قال هذا وتفل على الأرض وصنع من تفلته طينًا وطلى بالطين عينَي الأعمى": صنع الربّ يسوع الطين، أي أعاد جبلة العينين. فصناعة الطين تذكّرنا بالخلق حين جبل الربُّ الإنسانَ من التراب. يرد في تقليد الكنيسة أنّ الأعمى مولودٌ دون مقلتين. وهذا يعني أنّ الربّ يسوع قد خلق له مقلتين. فهو لم يعد إليه البصر بل أعطاه عينين ليبصر بهما، كما لو أنّه أعاد خلقه من جديد.
"أمّا هو فكان يقول:إنّي أنا هو": الحيرة التي أصابت معارف الأعمى تشير إلى أنّ ما حدث كان من المستحيلات، لذلك أخذ البعض يقولون إنّه يشبهه. تُعاد قصّة الشفاء عدّة مرّات في النص ليشير إلإنجيليّ أنّها صارت حديث الناس بمن فيهم الفريسيّين الذين انقسموا بالرأي و"وقع بينهم شقاق". يسوع تعدّى شريعة السبت إذ صنع طينًا، وهذا كان بحسب الشريعة عملاً. أراد الفريّسيّون أن يثبتوا أنّ الربّ يسوع "ليس من الله لأنّه لا يحفظ السبت"، وأخذوا بفتح تحقيق واستدعوا أبوَي الأعمى ثمّ عادوا وطلبوا منه سرد الحدث مجدّدًا.
"أعطِ مجدًا لله": أي قل كلام الصدق قبل أن يُعطى الحكم النهائيّ. الأعمى أمام المحاكمة إذ إنّ ما يشهد به عن الربّ يسوع غير مقبول لأنّ الفريسيّين يقولون إنّ يسوع خاطئ. يطلبون منه إعادة القصّة وهذا من مجريات التحقيق علّهم يجدون تناقضًا في رواية الحدث. لم يقع الأعمى في الفخّ بل واجههم بأن لا مكان لاتهام يسوع إذ قال"لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا".
"إنّما أعلم أنّني كنت أعمى، وها إنّي الآن أُبصر": أنا أعلم أنّ الربّ بيّن حبّه لي. إنّه شفاني من عماي، وأنا الآن أُبصر. هذا قاله لكلّ من اجتمعوا عليه، خوفًا أو فضوليّة أو شكًّا، أي لأهله وجيرانه والمسؤولين الدينيّين في زمنه. والمؤسف أنّ أحدًا منهم لم يصدّقه. كلّ ما جرى على لسانه نبع من ذلك اللقاء الذي خطفه فيه السيّد من ماضٍ متعب إلى حاضرٍ جديد. وعلى ذلك، لم يصدّقوه. أمّا هو، فكان واثقًا بما اختبره، وما اختبره كان يكفيه. هو لم يكن قد رأى يسوع بعد. فعندما اعترض الربّ سبيله وأمره "أن يغتسل في بركة سلوام" لم يكن يرى. هو أحسّ بيدَيّ السيّد، سمع صوته، لكنّه لم يره. كان يدافع عمّن اختبره في أعماقه، عمّن رآه في قلبه. لقد دفعته رؤيةٌ، ليست كأيّ رؤيةٍ أخرى، إلى أن يواجه كلّ من قاربه بقوله"كنت أعمى". أنظروا: ها إنّي الآن أبصر. لقد كان يريد كلّ من اجتمعوا عليه أن يؤمنوا، أن يشفوا. كان يريدهم أن يولدوا الآن. فالشهادة التي خرجت من فمه كانت تبحث عن أهلها.
إنّك في الخطايا قد وُلدت بجملتك": يعود هنا الفرّيسيّون ليؤكّدوا المعتقد بأنّ عاهته كانت جزاء الخطيئة. لبثوا في الظلام وحجبوا بحرّيتهم النور الذي يوضح أنّ الله لا ينظر إلى الناس من منظار خطيئتهم بل من منظار محبّته الفائقة. ففي النهاية يظهر أنّ الفرّيسيّين هم العميان الحقيقيّون الذين رفضوا الإقرار بشيءٍ ثابت لمجرّد رفضهم أن يقوم المسيح بأعجوبةٍ يوم السبت وهذا يوم لا عمل فيه. وكأنّ الإنجيليّ يقول إنّ الأعجوبة بحدّ ذاتها لا تجلب الإيمان بالضرورة. والمؤسف أنّ الناس يركضون وراء العجائب. بعضهم يدنو من الله وبعضهم لا يدنو. والقليلون يتوبون ولا معنى إطلاقًا لمعجزةٍ لا تزيدك إيمانًا.
"أتؤمن بابن الله": عجيبة الشفاء تخفي في طيّاتها إعلانًا إلهيًّا حاسمًا. لا يكفي أن تكون النتيجة مجرّد تغيير في الظاهر بل يجب أن تتخطّى الظاهر إلى العمق. لا ضرورة للعجيبة ما لم تأتِ بتغييرٍ شامل. هكذا تابع الربّ يسوع العجيبة إلى النهاية وبحث عن الأعمى ليهبه الثمرة وهي الإيمان بأنّ الله هو النور الذي به نعاين النور.
في النهاية، كلّ قضيّة آحاد الفصح أنّها تبيّن مفاعيل القيامة فينا. فشخصيّات الأناجيل جدّدها الربّ القائم. جدّد من كان شكّاكًا (توما) وحزينًا(حاملات الطيب) ومهمَلاً(المخلّع) وخاطئاً وغريبًا (السامريّة)، ومريضًا(الأعمى). تحنّن عليهم وأعادهم جددًا بزيارةٍ مفاجئة، بكلمةٍ من فمه، بلمسةٍ من يده. المسيح لا يعصى عليه أمر، قوّته تشفي، تقيم، تحيي، فلا تعامله كمن لا قدرة له. لا تخسر فعله فيك. الكنيسة تتحدّانا بذكر "من كان في العالم بلا حسب ونسب، وكان محتقرًا"(1 كورنثوس 1: 28). تتحدّانا لكوننا نعتقد عمومًا أنّ الله يحتاج إلى أبرار ليمدّوا مشيئته في الأرض. صحيحٌ أنّه يحتاج إلى أبرار، ولكن، إلى أبرار يؤمنون بأنّه هو البار والمبرِّر دائمًا. من يحسب أنّ البار هو بارٌّ هكذا من بطن أمّه، لا يؤمن بفعل الله الدائم في العالم وفيه. بالتأكيد هناك أبرار منذ تكوينهم في بطون أمّهاتهم. ولكن، هذه قراءة الله يقرّرها. اليوم، يريد الربّ أن نؤمن أنّه حاضرٌ فينا جميعًا. فهو لا يحابي وجه أحد.
إذًا لا تترك فرصة الموسم الفصحيّ تمرّ من دون أن ترى الربّ قائمًا في قلبك و"عن يمينك". إنّه هو نفسه يلاقيك. فقط اقبله. اقبل أن يحدّثك. اسمع ما عنده وردّ عليه. إن نظرت إلى وجهه، وسمعه وشعرت بيده تلامس عينيك، فستتهاوى كلّ مسافةٍ بينك وبينه فرضتها خطاياك. ستكتشف نفسك موجودًا. كلّ حقيقة وجودك أن يجدك الربّ ويعرّفك بنفسه. فهنيئًا لك إن قبلته. عندها، تبدأ حكايتك الجديدة. افرح، فقد اختارك شاهدًا لقيامته. أنت هو توما ويوسف ونيقوديموس وحاملات الطيب والمخلّع والسامريّة والأعمى. أنت هو جميعهم. فثق بقيامته التي أقامتك خادمًا مجده في العالم، لتحقّق الشهادة وتفرح ويفرح هو بك، ويورّثك متى جاء في مجد أبيه مع الملائكة والقدّيسّين"ملكوته الذي أعدّه لك منذ إنشاء العالم". آمين.
المرجع رعيتي 1994- 2002-2006-2010-2013