القيامة لاهوت ومشاهدات
المشاهدات الأولى بعد القيامة:
ترى ماذا حصل بعد الفصح، ولمن ظهر الربّ يسوع المسيح بعد قيامته من بين الأموات، وما هو سياق الأحداث التي تلت القيامة وهي مذكورة في الأناجيل الأربعة ومن هم الشهود؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد لنا التأكيد أن القيامة لا تنحصر في زمن الفصح فحسب، بل هي امتداد خلاصي يتعدّى كلّ زمنٍ ووقتٍ، وتتمحوّر حوله كلّ صلواتنا ومعتقداتنا وليتورجيتنا الكنسية.
١- مقدّمة:
القيامة: مسار خلاصي.
القيامة هي صلب إيماننا المسيحي، ونعيشها منذ اليوم الأول لتجسّد الله، وترافقنا من العهد القديم لتنجلي بشكل كامل في العهد الجديد.
نبوءات عديدة أخبرتنا عن خلاص إلهنا، بدءًا بسقوط آدم وحواء في خطيئتهما، وأن هناك من سيأتي من نسل حواء ويدوس رأس الحيّة، إلى اللحظة التي بشّر فيها الملاك جبرائيل مريم العذراء بالحبل الإلهيّ بأن المولود هو ابن العلي، وظهور الملاك ليوسف وتسمية المولود يسوع، أي الله الكائن المخلّص، وأيضًا إعلان الملاك للرعاة ولادة المخلّص، وتجلّي يسوع، وعجائبه وشفاءاته وإقامته للأموات، وشهادة موسى وإيليّا النبيّين عن الأحداث التي ستحصل مع الرّب، وإقامة يسوع لألعازر، وصلب يسوع والقبر الفارغ وظهوره بعد قيامته والصعود، بالإضافة إلى مرافقته الدائمة لنا بإرساله الروح القدس لكل من يعلنه إلهًا ومخلّصًا.
كلّ هذا المسار القيامي ليقول لنا بأننا أناس قياميّون، وخُلقنا للحياة الأبديّة، من هنا تسعى الكنيسة في صلواتها أن تجعلنا نعيش هذه القيامة وأن لا نغيب عنها كي لا يطبّق علينا ما قاله المعلّم للشاب الغني:"دعوا الموتى يدفنون موتاهم" (متى٢٢:٨)، ولا نعيش الملكوت ونبشّر به.
من هنا تُقسم الشهادات إلى قسمين رئيسين: شهادات قبل القيامة، وشهادات بعد القيامة.
٢- الشهادات قبل القيامة:
تُخبرنا الأناجيل أن الرّبّ يسوع وأثناء توجّهه إلى أورشليم أعلن لتلاميذه ثلاث مرّاتٍ عن موته وقيامته في اليوم الثالث، وقد أراد من ذلك أن يهيّئ التلاميذ ويدخلهم في سرّ الخلاص العجيب، وبالتالي يجعلهم شهودًا أحياء يستبقون هذا الحدث التاريخي- الإلهيّ المُعد لخلاص البشر أجمعين من قبل إنشاء العالم.
إنطلاقاً من هذا الإستباق تُدخلنا الكنيسة بدورها بشهادة مسبقة لقيامة الرّبّ، فيعلن الكاهن في يوم السبت العظيم، بصوتٍ جهوَريّ، وهو يرش ورق الغار في أرض الكنيسة بعد تغيير ملابسه وإرتداء اللون الأبيض: " قم يا الله واحكم في الأرض لأنك ترث جميع الأمم (مز٨٢)".
يضاف إلى ذلك قطع الصلوات طيلة الأسبوع العظيم التي تُدخل المؤمن في سرّ القيامة المجيد.
فنلاحظ أن تقاريظ الدفن تُرتَّل بلحنٍ فرحٍ وتجمع بين الصلب والقيامة معًا:
"كيف متّ يا رّب وسكنت القبرا غير أنك حللت سلطان الموت
منهضاً من الجحيم المائتين
يا مسيحي الخالق إذ أودعت القبرا أسس الجحيم منك تزلزلت
وقبور المائتين إنفتحت
في قبر جديد وضعت يا مسيح فطبيعة البرايا تجددت
حينما قمت سريعاً كإله"
"أيها المسيح إذ وضعت في الضريح بالجسد ذرفت امك الدمع هاتفةً يا بنيّ قم كما قلت لنا"
وبهذا يتحضّر المؤمنون بهذه الصلوات لقيامة المسيح المجيدة والمحييّة.
الشهادات المسبقة الثانية تأتي على محورين:
الأوّل إقامة لعازر والثاني حادثة الصلب نفسها.
إقامة لعازر: قبل دخولنا الأسبوع العظيم الذي يبدأ مع صلاة الختن الأولى مسأ أحد الشعانين نسمع صرخة تزلزل أساسات الجحيم وتبيد الموت من بكرة أبيه وتضيء ظلمة القبور الموت ألا وهي :"لعازر هلمّ خارجًا”.
يتوجّه الرّب يسوع بهذه الصرخة لكلّ واحدٍ منّا ليقول:" أنا هو الحياة وأنتم لا تموتون باتّحادكم بي لأنّكم أبناء الحياة".
الصلب: الأحداث التي تزامنت مع الصلب تعلن بحد نفسها أن ما يجري هو من فوق وليس من أسفل. الزلزلة، غياب الشمس، تفتّح القبور وقيامة قدّيسين، إنشقاق حجاب الهيكل، الحوار مع لص اليمين وشهادة قائد المئة.
هذه الأحداث تعلن أن من هو معلّق على الصليب هو الإله المتجسّد والمخلّص الفادي.
٣- الشهادات بعد القيامة:
نلاحظ أن الإنجيليين في كلامهم على القيامة قدّموا شهادات متمايزة بعض الشيء، إلاّ أن هذا االتمايز هو منطلق قوّة وليس ضعفًا.
أوّلًا، محور الموضوع هو ذاته: القبر الفارغ – الملائكة - الأكفان- يسوع حيّ.
ثانياً، التمايز في التفاصيل يؤكّد قوّة الحدث وعظمته، وليس ما يدعو للاستغراب إن تكلّم واحدهم على ملاكٍ والآخر على ملاكَين، فالسماء كلّها أضحت على الأرض، ومع قدوم الملك السماوي وتجسّده أتت الملائكة تمجّد وتهلّل.
ثالثاً، الإنجيليون كتبوا بملء الروح القدس وعلى ضوء القيامة ولم يقوموا بالتالي بأي عمليّة نسخٍ لمعلومات بعضهم البعض.
القبر الفارغ: في اليوم التالي للسبت، أي في أوّل الأسبوع جاءت عند الفجر بعض النسوة من جماعة يسوع: مريم المجدليّة (مذكورة في الأربع أناجيل)، ومريم أم يعقوب (ذكرها متى ومرقس ولوقا)، وسالومة (ذكرها مرقس فقط)، وحنّة
ونسوة أخر، إلى قبر يسوع. وكنّ يقلن فيما بينهنّ من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر، وهنّ يحملن طيبًا ليدهنّ الجسد. فتطلعنّ ورأين الحجر العظيم قد دحرج. وها قد أصبحن أمام قبرٍ فارغ. عجيبٌ هو قبرك يا سيد، فقد نقلنا من يوم السبت إلى يوم الأحد.
عجيببةُ هي قيامتك يا سيّد، النسوة أتين ليُطيّبنَ جسدك فطيبتَهّن أنت بنورك.
عجيبّ دفنك يا مخلّص، وصلت النسوة ليبكين على ميتٍ، فوجدنه حيًّا يعلن أن الميّت الحقيقي هو من لا يعرف قيامة السيّد الذي غلب الموت بموته.
ملاحظة:
لم تر واحدة منهن يسوع خارجًا من القبر ولا غيرهنّ، فقط الأناجيل المنحولة تصف خروج يسوع من القبر.
- متى الإنجيلي يتكلّم على ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: مجيء مريم المجدلية ومريم الأخرى إلى القبر، وحوارهما مع الملاك الذي دحرج الحجر، فيعلمهما بقيامة الرّب ويطلب منهما أن يخبرا تلاميذه. (متى ١:٢٨)
الأمر الثاني: لقاء كلّ من مريم المجدلية ومريم الأخرى بيسوع القائم، حيث أمسكتا بقدميه وسجدتا له وطلب منهما أن يقولا للتلاميذ أن يذهبوا إلى الجليل ليروا يسوع. (متى ٩:٢٨).
الأمر الثالث: ظهور يسوع للتلاميذ في الجليل. (متى ١٧:٢٨).
ملاحظة:
يتفرّد متى بذكر حدوث الزلزلة، وقيامة الأجساد ودخولهم أورشليم، ودحرجة الملاك للحجر وجلوسه عليه، وفزع حرّاس القبر من بهاء الملاك حتى صاروا كالأموات، وتقرير الحرّاس إلى رؤساء الكهنة والرشوة.
- الإنجيلي مرقس يصف أربعة أمور:
الأمر الأوّل: لقاء بين ملاك ومريم المجدلية ومريم ام يعقوب وسالومة اللواتي أتين إلى القبر ليدهنّ يسوع، وقد اخبرهنّ عن قيامته، وطلب منهنّ أن يخبرن التلاميذ بأن يذهبوا إلى الجليل ليروا يسوع حيث يسبقهم.
"ولمّا دخلن القبر رأين شابًا جالسًا عن اليمين لابسًا حلةً بيضاء فاندهشن. فقال لهن: «لا تندهشن! انتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام! ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذي وضعوه فيه. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم» (٥:١٦-٧).
الأمر الثاني: ظهور الرّب يسوع لمريم المجدلية وعدم تصديق التلاميذ لها.(مر٩:١٦).
الأمر الثالث: ظهور الرّب يسوع لتلميذين يمشيان في البريّة( إشارة إلى تلميذي عمواس). (مر١٢:١٦)
الأمر الرابع: ظهور الرّب يسوع للتلاميذ وهم متكئون. (مر١٤:١٦)
- لوقا الإنجيلي يخبرنا بستة أمور:
الأمر الأوّل: مجيء (الجليليات) حاملات الطيب إلى القبر وكلّامهم مع ملاكين حيث قالا لهن إنّه قام. "وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الارض قالا لهنّ: «لماذا تطلبن الحيّ بين الاموات؟ ليس هو ههنا لكنه قام! " (لوقا٥:٢٤)
الأمر الثاني: إعلام حاملات الطيب التلامذة بالقيامة وإسراع بطرس بالمجيء إلى القبر حيث رأى الأكفان موضوعة وحدها.
(لوقا ٩:٢٤-١٢).
الأمر الثالث: ظهور يسوع لتلميذَي عمواس. (لوقا ١٣:٢٤).
الأمر الرابع: ظهور يسوع لبطرس. "... فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم وهم يقولون: "إن الرّب قام بالحقيقة وظهر لسمعان (لوقا٣٤:٢٤-٣٥)”
الأمر الخامس: ظهور يسوع لتلاميذه: وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: «سلام لكم!» (٣٦:٢٤)
الأمر السادس: صعود الرّب يسوع: "وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء.(لوقا٥١:٢٤)”.
- يوحنا الإنجيلي يستفيض بثمانية أمور:
الأمر الأول: مجيء مريم المجدلية بمفردها إلى القبر حيث رأت الحجر مدحرجًا (يوحنا١:٢٠).
الأمر الثاني: ذهاب مريم المجدلية إلى بطرس والتلميذ الذي كان يحبه يسوع بحيث قالت لهما إنهم اخذوا السيّد من القبر ومكانه مجهول. (يوحنا٢:٢٠).
الأمر الثالث: مجيء بطرس والتلميذ الآخر إلى القبر ورؤيتهما للأكفان الفارغة. (يوحنا٣:٢٠)
الأمر الرابع: بكاء مريم المجدلية ورؤيتها لملاكين جالسين عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعًا، وقالا لها فقط : " يا امرأة، لماذا تبكين؟"
" أمّا مريم فكانت واقفة عند القبر خارجًا تبكي. وفيما هي تبكي انحنت إلى القبر، فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحدا عند الرأس والآخر عند الرجلين، حيث كان جسد يسوع موضوعًا. فقالا لها:« يا امرأة، لماذا تبكين؟» قالت لهما:«إنهم أخذوا سيّدي، ولست أعلم أين وضعوه!». (يوحنا١١:٢٠-١٣).
الأمر الخامس: ظهور يسوع لمريم المجلية فور إنتهاء الملاكين من الكلّام معها:
" ولمّا قالت هذا التفتت إلى الوراء، فنظرت يسوع واقفًا، ولم تعلم أنّه يسوع. قال لها يسوع:«يا امرأة، لماذا تبكين؟ من تطلبين؟» فظنّت تلك أنه البستاني، فقالت له: «يا سيّد، إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته، وأنا آخذه». قال لها يسوع:«يا مريم» فالتفتت تلك وقالت له: «ربوني!» الذي تفسيره: يا معلم. قال لها يسوع: «لا تلمسيني لأنّي لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا ١٤:٢٠-١٧).
ملاحظة: ثلاث مرّات ظنّت مريم المجدلية أن يسوع قد سُرق أيّ ما زال في عداد الأموات.
الأمر السادس: ظهور يسوع للتلاميذ المختبئين في العليّقة. "ولمّا كانت عشيّة ذلك اليوم، وهو أوّل الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط، وقال لهم: «سلام لكم!» (يوحنا ١٩:٢٠-٢٤)
الأمر السابع: ظهور يسوع مجددًا للتلاميذ بحضور توما. (يوحنا٢٦:٢٠-٢٩)
الأمر الثامن: ظهور يسوع للتلاميذ السبعة على بحر طبرية. (الإصحاح ٢١)
- أعمال الرسل:
ظهور يسوع للتلاميذ لمدة أربعين يومًا، ولبولس على طريق دمشق. (الإصحاح التاسع).
"في ذهابه حدث انه اقترب الى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الارض وسمع صوتًا قائلا له: «شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟» فقال: «من أنت يا سيّد؟» فقال الرّب:«أنا يسوع الذي أنت تضطهده"
- الرسائل:
ظهوره لبطرس وللتلاميذ.(١كو٥:١٥) ولأكثر من خمسمائة تلميذ (١كو٧:١٥) وليعقوب.
خلاصة:
والمسيرة لم تنته بعد، فكلّ لحظة نتوب فيها نقوم مع السيّد.
وإذا كان قد ذُكِرَ في العهد القديم، أن كل من كان يلمس القبر يتنجّس ويُصبح بحاجة للتطهير، فاليوم في القيامة، بات الأمر معكوسًا، إذ أصبح كلّ من يركض إلى هذا القبر الفارغ يتطهّر، ويُشرق عليه النور، ويلتقي بالسيّد القائم من بين الأموات.
فاليوم الأوّل في سفر التكوين هو اليوم الذي خلق فيه الله النور، وأمّا في العهد الجديد، فقد امتّد اليوم الأول من الأسبوع إمتدادًا قياميًّا ليصبح اليوم الثّامن، يوم الملكوت خارج الزمن، الذي افتتحه الله في قيامته المجيدة وبتنا جمعيًا مدعوين إليه.
الملاك يجلس على القبر معلنًا الظفر والبشارة السارة بإنهزام قوّة الجحيم راجيًا أن يجلس على قبر خطايانا ويدحرج القبر عن باب قلبنا لتكون قيامة حقيقيّة في نفوسنا أجمعين.