هي ابنةُ هذه الطينَةِ البشريّةِ

2013-08-15

من كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر في عيد رقاد السيدة

دمشق، الكنيسة المريمية 15 آب 2013

 

 

إخوَتيْ وأحبّتيْ:

لم تكنْ العذراءُ، التي نعيّدُ لانتقالِها إلى السماءِ اليومَ، لمْ تكنْ لتتخيّلَ أنّها وفي يومٍ من الأيّامِ سَتدخلُ خِدْرَ المجدِ السرمديِّ على هذهِ الصورةِ. لمْ يخطُرْ أبداً ببالِ ابنةِ يواكيمَ وحنّةَ أنّها ومنْ عَتبَةِ الهيْكَلِ ستلِجُ عتَبَةَ الفردوسِ وتَتَسيّدُ ملائكةَ السّماءِ. لمْ يَدُرْ 4316d2b7150b6041df0504e1746998ca في حِسابِها يوماً أنّها، ومنْ وراء حجابِ الهَيكلِ، ستخترِقُ حجابَ السمواتِ لمجرّدِ قولِها "ها أنا أمَةٌ للرّبْ". دخلَتْ مريمُ هيكلَ الربّ صغيرة السّنِّ ولمْ يدُرْ في بَالِها أَنّها سترتقيْ أكتافَ السّرافيمْ مِن وراءِ كلماتٍ ثلاث: "أنا أمَةٌ للرّبِّ". أتاها الملاكُ مُبشّراً أنّها ستلِدُ العمّانوئيل فسألتْهُ: كيفَ يكونُ ذلك وأنا لا أعرِف رَجُلاً". لَمْ يكُن في سُؤالِها أيُّ مَلْمَسٍ منْ مَلامسِ الشكِّ ولا أيّةُ بادرةٍ للاعتراضِ. قالَ لها الملاكُ: قوةُ العليِّ تظلّلُك، والمولودُ منكِ هو ابنُ الله". فأجابتْ: "ها أنا أمَةٌ للربّ ليكنْ لي بحسبِ قولِك". وهذَا يعنِيْ "لتَكُنْ مشيْئَةُ اللهِ لا مشيئتيْ". وكأنّيْ بها تستبقُ صلاةَ ابنِها يسوعْ الذي سيعلّمُنا إيّاها بعد ثلاثين سنَةً: "أبانا الذي في السموات ليتقدسْ اسمُكَ، ليأْتِ ملكوتُكَ لتكنْ مشيئتُكَ". لمْ تكُنْ العذراءُ وقتَها تدريْ أنّها وبكلماتِها الثلاثْ ستطرقُ بابَ الحنوِّ الإلهيِّ وتستدرُّ ينبوعَ الرحمِةِ الإلهيّةِ لبنيْ البشرِ. في مزودِ بيتَ لحمَ وضَعَتِ العذراءُ طفلَها مزودَ محبةٍ للبشريةِ بأسرهِا. وفيْ بيتَ لحْمَ أبزغتِ العذراءُ للعالَمِ شمسَ العدْلِ العقليةَ، ومن هناكَ تبعَت تلكَ الشمسَ في كلِّ مراحلِ حياتِهِ الأرضيّةِ إلى حينِ صعودِه إلىْ الآبِ السّماوي. مريمُ العذراءُ هي ابنةُ هذه الطينَةِ البشريّةِ التيْ انعجَنتْ بالتواضُعِ والطّهارةِ فنضَجَتْ خدْرَاً للكلمةِ بريئاً منَ العيبِ.

قيامة الرب هيَ قيامَتُنا نحنُ أيضَاً. قيامةُ الربِّ هيَ الاكتنازُ بالفضيْلَةِ والانْمِحاقُ بالتَّواضُعِ. وهذهِ حالُ العذراءِ مريم، التيْ لمْ تَكنْ لتَعلَمَ أنّها بقوْلها "ها أنَا أمَةٌ للربّ"، لمْ تكُنْ تعلَمْ أنّها سَتُمسي أولَى السالكينَ درْبَ القيامةِ والانتصارِ، أنّى لها أنْ تعرِفَ هذا وهيَ الفتاةُ البسيطةُ التي تَسربَلَتِ الخفرَ رداءً وابتعدتْ، ما تستطيعُ، عن دربِ الأمجادِ والبطولاتِ؟ لكنّها لمْ تجهَلْ يوماً أنَّ السيّدَ الربَّ كريمٌ وجَوّادٌ يُغْدِقُ على الطاهرين منْ معينِ صلاحِه وخيريّتِه. لقدْ فتحَتْ لنَا مريمُ درْبَ القيامَةِ، لذا لمْ يتْرُكْها ابنُها أسيرةَ الموتِ. ومِنْ هيكلِ أورشليمَ إلى مِزودِ بيْتَ لحْمَ إلىْ عرْسِ قانا الجَليلْ ومِنْ ثمّ إلى الآلامِ والقيامةِ والصعودِ، عرَفَتْ مريمُ كُنْهَ القيامَةِ الحقّةِ. وعلِمَتْ أنّ درْبَ القيامَةِ يُكتسحُ بالمثولِ لإرادةِ الربِّ وبتنقيَةِ النفسِ وقيامِها مِنْ براثِنِ السقطةِ والرّذيلةِ. قيامةُ الربِّ فيْها هيَ أوّلُ مَنْ أهّلَهَا لتكوْنَ شاهِدَةً على قيامَةِ ابنِها. ومنْ هناك، منَ القبرِ الفارِغِ، أمسَتْ مريمُ أمثولةً للبشريّةِ الساقطةِ لتتعلّمَ منْها أنّ اتّضاعَ النّفْسِ وامتثالَها لإرادةِ الربِّ العليِّ القديْرِ وترْكَها لإرادَتِها الخاصّةِ هو الذيْ يُرقّيها دَرجاتِ المجدِ السرمديِّ ويسربِلُها القيامَةَ الحقّةَ. ولأنَّ مريْمَ هيَ ابنةُ القيامةِ البكرُ فقدْ نقلَها الربُّ الإلهُ نَفْساً وجسَداً إلى جواره. كيفَ لا وهيَ التيْ أبزَغَتْهُ نوراً إلى النّورِ، وحياةً للحياةِ وبريْقاً ينيرُ الغارقينَ في عتماتِ الدُّجى؟

نطلبُ إليكِ أيّتُها العذراءُ القدّيسةُ، التيْ نقلَها ابنُها إلى خدرِ مجدِهِ الأبديِّ في هذا اليومِ، ومنْ الكنيْسةِ التيْ تَكنَّتْ باسمِكِ على مرِّ العصورِ، أَنْ تحمِيْ كلَّ النّفوسِ التيْ استدفَأتْ بظِلِّ حمايتِكِ المقدّسةِ. نطلبُ إليكِ أنْ تتشفَّعيْ لدى ابنِك وإلهِنا أنْ يرنُوَ بِناظِرَيْه منْ علياءِ صَلِيبِه ويُشفِقَ على بنيْكِ فيْ سوريا وفيْ العالمِ أجْمعَ. نسْألُكِ أنْ تَسْأليْهِ، كَما سألْتِهِ في قانا الجليل، أنْ يُتْرِعَ قواريْرَ نفوسِنا بِخَمْرِ عزائِه الإلهيِّ. نسْألُكِ أنْ تَمْسحيْ الدَّمْعَ عنْ عيونِ المَحزوْنيْنَ وأنْ تُعيْدِيْ لِبلادِنا رَونَقَها الأوّلَ وأنْ تكتَنِفِيْها بظلِّ حمايَتِك التيْ لا تَفتُرْ. نسألُكِ منْ حنْيَةِ الكنيْسَةِ المريميةِ أنْ تسْتعطِفيْ حنوَّ ابنِكِ المعلّقِ على صليبِ مجْدِه، فيمْسَحَ بِرحيقِ محبّتِهِ الإلهيةِ نفوساً أثقلَ الدمْعُ مآقيْها وبِلاداً قَطّعَ العنفُ أوْصَالها. نسألُكِ بلْسمَةَ قلوبِ الحزانى وردَّ المخطوفينَ، وعلىْ رأْسِهِمْ المطرانان بولسَ ويوحنّا. نسْألُكَ أنْ تضمّيْ إلى صدْرِك الدّافئ نفوسَ راقدِيْنا وتقرِّبِيْها بِدالّةٍ والديّةٍ إلىْ صدْرِ يسوعَ. نسْألُكِ أنْ تَلِجِيْ مَغارَةَ نفوسِنا، كما وَلَجْتِ مَغارةَ بيتَ لحمَ، وتضَعِيْ فيها فيْضَاً منْ نورِ مولودِكِ فتستحيْلَ نُفوسُنا مِشْكاةَ نورٍ للمَعْمورَةِ بأَسرِها. نسألُكِ أنْ تضَعِيْ في مزودِ نفوسِنا المترنّحَةِ بصيصَ التعزيَةِ الإِلهيّةِ، تماماً كَما وَضعْتِ فيْ مِزودِ بيتَ لحمَ ينبوعَ العزاءِ ولجّةَ الرحمَةِ، يسوعَ. نسْأَلُكِ أنْ تُصلِّيْ منْ عَلّيّةِ مجدِكِ كما صلّيْتِ معَ تلاميذِ يسوعَ وأنْ تُبَلْسمي قلوبَ مَنْ تَكنَّوْا باسْمِه برحيْقِ عزائِكِ اللذيذِ العرْفِ. نَسْألُكِ ومنْ جِوارِ كنيْسةِ يوحنّا الدّمشقيْ، إِمامِ ناظميْ تسابيحِك، أنْ تكْتَنِفي أبناءَ دمشقَ بِوافِرِ عِنايتِك وأنْ تفْتقديْ هذا البلدَ الطّيبَ بنفْحةٍ منْ سلامِ ابنِكِ، لَهُ المجْدُ والرّفْعَةُ أبدَ الدّهرِ، آمينْ.