رفعتُ عينايّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني - البلمند
بيان صادر عن بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
30 آب 2013
"رفعتُ عينايّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني"
تمرّ بلادُنا في مرحلةٍ صعبةٍ وظروفٍ قاسيةٍ، فتهددُ شعوبَها مخاطرُ جمّة. يحزنُنا هذا الوضعُ الأليمُ الذي وصلْنا إليه، من اعتداءٍ على الأفرادِ قتلاً أو خطفًا أو تهجيرًا، ومن استعمالٍ لأسلحةِ الإبادةِ الجماعيّةِ، ومنْ عدمِ احترامٍ للشرائعِ الدوليّةِ، ومن تفجيراتٍ متنقّلةٍ تُعرّض للاضمحلالِ مصالحَ الأفرادِ والأوطانِ، ومنْ تسخيرٍ للدّينِ لبثِّ الفرقةِ بين أبناء الوطن الواحد، حتى أن الحرب باتت تهدّد أوطاننا وإذا بإمكانياتِ السلام تَبدو صعبة المنال. يهمّ كنيستَنا المتجذّرةَ في هذه الأرضِ أن تؤكّدَ على الثوابتِ التي قام عليها تعاطيها عبر العصورِ معَ الشأنِ العام، وهي تُطالب الهيئاتِ الدوليّة لاتخاذِ الخطوات الآيلة إلى حماية سكّان هذه البقاع، والدّعوةِ كيّ تترفّعَ كلّ الدول المعنيّة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، عن مصالِحها الضيّقةِ والمساعدةِ في تهيئةِ الأرضيةِ المناسبةِ في سوريا لترسيخ أسسِ الحل السياسي السلمي وذلك بإحلالِ منطقِ الحوارِ بدلاً من منطقِ السيفِ والنار. كما نهيبُ بالمراجعِ الأمميّة كي تعتمدَ مقارباتٍ جديدةً لإعادة الأمان إلى إنسان هذه المنطقة الذي يدفعُ الثمنَ الغاليَ من جرّاء هذه الأجواء كما هي الحالُ في لبنانَ أو العراق أو فلسطين أو مصر. إذ نطلقُ اليومَ هذه الصرخة، تُجاهَ الرأي العام العالميّ، فلأن المآسيّ تتكررُ وتصيبُ كلّ بيتٍ آمن من بيوتِ مدننا وقرانا. نحن ندين كل انتهاكٍ للحرّيات، وكلَّ تعدٍّ على كرامةِ الإنسانِ. نحن ندينها بمنطقِ الفِطرةِ الربّانيةِ المزروعة في قلبِ كل كائنٍ بشري. نحن ندينها بمنطق الإنجيلِ وبمنطقِ تعاليم السيد المسيح، رسول المحبة والسلامِ، كما ندينها بمنْطوق المعاهدات الدولية. هذا موقفُنا ككنيسةٍ وكشعبٍ من كلّ ما يجري حولَنا اليوم. نحن لا ننظرُ لأنفسِنا كأقليةٍ دينيةٍ ولا نسمح أن يُنظر إلينا من هذا المنظار بل من زاويةِ المسؤولية الوطنية والشراكةِ الكاملةِ في المواطنةِ. وسنسعى مع كل أصحاب النوايا الحسنةِ لبلورة موقفٍ وطنيٍّ جامعٍ ينبعُ من قناعاتنا حول الإنسان، والمجتمع، ودورِ السياسة في تأمينِ نموّهِما الثقافيِّ والحضاريِّ. وما عمليّة خطفِ أخوينا المطرانين يوحنّا (إبراهيم) وبولس (يازجي) إلاّ حالةٌ من بين حالاتٍ عديدةٍ أصابت مواطيننا ولا نستطيع أن نبقى مكتوفيّ الأيدي تجاهَها.
وبهذه المناسبة، يهمّنا أن نذكّر أنّه مرّت أربعةُ أشهرٍ على هذه الحادثة، وحفلت هذه الفترة بعديدٍ من التكهّنات والشائعات والتحاليل حول أسباب اختطافهما، أو ظروف احتجازهما، أو حتى مصيرهما. طيلة هذه الأشهر ظلّت كنيستُنا منكبّةً على الصلاة من أجلهما متضرّعة إلى الله الكلّي اقتداره ليظلّلهما برحمته، واعيةً بشكل تام أنه لا يمكن أن تكون أساليبنا، نحن المؤمنين بالمحبّة والداعين إلى السلام، إلا متناغمةً مع مقتضيات إيماننا المتجذّر في الصليب ورجاءِ القيامة. وفي الوقت الذي كانت قلوبنا وقلوبُ شعبنا المؤمن تخفقُ، لا بلْ تعتصرُ صلاةً وتضرعاً من أجل عودة أخوينا وسائر المخطوفين سالمين، لم تألُ بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس جهداً، ولم توفّرْ قناةَ اتصالٍ مع الجهات الدوليّة والإقليميّة إلا وسلَكَتها، ولم تستثنِ باباً دولياً وكنسياً، أو محليّاً إلا وطرقَتْه، إلا أننا لم نظفرْ بمعلومات موثوقةٍ عن هذا الملف الإنساني بالدرجة الأولى. ليس لنا إلاّ أن نشكر كلّ الجهود التي بُذِلت هنا وهناك لمتابعة هذا الأمر وأن نثمن تلكَ المواقف الإنسانيةَ النبيلةَ وتلك المساعيَ التي قَدّمَتْ لنا يد العون والتضامن، على الرغم من أنها لم تفضِ إلى غاية المبتغى. لكن يبقى أن الفاعلينَ، وَمَنْ وراءَهم، وَمَنْ يَغْفَل عن فعلتهم، يَعُون تمامًا الوَقْع السيّء الذي لاختطاف هكذا شخصيتين مسيحيتين على المنطقة وسكّانِها. لكنْ، نحن مصمّمون كجماعةٍ مؤمنةٍ بدورها الحضاريّ، وكجزء لا يتجزّأ من نسيجِ هذه المنطقة الاجتماعي، على عدم الخروج عن مواقفِنا التاريخيّة، وسنبقى متجذّرين في هذه الأرض ساعِين أن نكون فيها دعاةَ سلامٍ وحوار. رغم ذلك، نحنُ نستنكر ما جرى، ونتعجّب من غيابِ التحرّكات الفاعلة لإنهاء هذا الواقع المرير، ونستغربُ أيَّما استغرابٍ محدوديّة المعلومات التي تمّ التوصل إليها. لذلك سنخطط لجولاتِ اتصالاتٍ متواصلةٍ ساعين كي تصل الأمور إلى خواتِمِها الحسنةِ بأسرع وقت ممكن. لن يزيدنا الصمت والتعتيم إلاّ إصرارًا على المطالبة بالإفراج عن المطرانين، وسائر المخطوفين، ونحن نعتبرُ المجتمعَ الدوليَّ بأسره مسؤولاً عن إنهاء هذا الواقع راجين أن يعمّ هذا المسعى الخيّرُ وضعَ المنطقة بأسرها. نسمع هذا المجتمع من حينٍ لآخر يتباكى على مسيحيّي الشرق ويَحزنُ لما يدّعيه عن أوضاعِهم السيئة. نحن لسنا بحاجةٍ إلى مثل هذه المؤاساة، إذ إنّ مصيرَنا في بلادنا هو المصيرُ ذاته لإخوتِنا في المواطَنةِ الذين نعيش معهم بمحبّةٍ ووئامٍ لعقودٍ طويلةٍ. نحن بحاجةٍ إلى مساعدةٍ حقيقيّةٍ في كشفِ مصيرِ إخوتنا، ونحن واثقون أنّ المجتمع الدولي، إن أراد، له القدرة في الوصولُ إلى حلٍّ لهذه القضية.
نحن نصلّي لكيّ يرحمَ الله من قضَوا من جرّاء هذه الأعمال، ويعزّيَ قلوبَ الحزانى، ويشدّدَ من هم في ضيقٍ.
ألا رعانا الله تعالى بيمينه، وألهمَ الجميعَ حسنَ السبيل.