المجمع المسكوني الثاني



المجمع المسكوني الثاني هو أحد المجامع المسكونية السبعة.

1- مقدمة:

تؤمّن المسيحية أن الله أصبح إنسانًا.

طبعًا لم يفقد الله طبيعته الإلهيّة، بل كان التجسّد إتّحادًا كاملًا بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة.

هذا الأمر عجز عن إدراكه البعض، فهناك من نادى بعدم ألوهيّة يسوع واستحالة تجسّد الله، وهذا الرفض يجعل الله عديم المحبّة تجاه الإنسان نفسه، فكيف تكون محبّة إن لم يتجسّد الله؟.

يضاف إلى أصحاب هذا الرفض من كان تحت التأثير الفلسفي الذي تكلّم عن إلهٍ متعالٍ لا يشارك ولا يتشارك مع أحد، وكل عمليّة إرتقاء نحوه هي ذوبان كليّ في فلك الإله الكوني.

هذا الموضوع بالتحديد عولج في المجمع المسكوني الأوّل الذي انعقد في نيقية عام 325م وإنتهى بإعلان المساواة في الجوهر بين الآب والإبن ودحض هرطقة آريوس الذي قال أن يسوع هو أوّل المخلوقات وبالتالي فصله جوهريًا عن الألوهة غير المخلوقة، وهذا طبعًا مخالف لتأنّس الله ومخالف لما جاء بشكلٍ واضحٍ وجلّيٍ في الآيّة الأولى من إنجيل يوحنا:
" في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله". وما أتبعه:" والكلمة صار جسدًا وحل بيننا"(يوحنا 14:1).

إلّا أن في الواقع أتباع أريوس وداحضي ألوهة المسيح لم يستكينوا، بل تابعوا هرطقتهم لتشمل الروح القدس أيضًا، فدعيوا "بمحاربي الروح".

كان الصراع كبيرًا جدًا حتى أنّه انتشر شعبيًا، فكتب المؤرّخ د. أسد رستم العبارة التالية:

" تدخّل العوام في علم الكلام "، وجاء وصفه هذا إنطلاقًا ممّا قاله القدّيس غريغوريوس النيصصي: " والجميع في الشوارع والأسواق وفي الساحات وعند مفترق الطرق يتكلّمون في ما لا يفقهون. فإذا سألت أحداً من الباعة: ماذا أدفع لك؟ أجابك: هو مولود أو غير مولود؟.

وإذا أنت حاولت أن تعرف ثمن الخبز، أجابوك: إن الآب أعظم من الإبن. وإن سألت: هل الحمام جاهز؟ سمعت جواباً: إن الأبن جاء من العدم".

كان من البديهي على الآريوسيين الذين قالوا " أن الإبن جاء من العدم " أن يعتقدوا بمخلوقيّة الروح القدس أيضًا.

أبرز محاربي الأقنوم الثالث كان مقدونيوس بطريرك القسطنطينية. يقول ثيودوريتوس في "التاريخ الكنسي" بأن مقدونيوس "رفعه الآريوسيين إلى كرسيّ القسطنطينية (342م) ظانين أنّه واحدٌ منهم، لأنّه كان يجدّف على الروح القدس، غير أنهم عزلوه لأنه لم يحتمل إنكار ألوهيّة الإبن".

يعود الفضل الأوّل في شرح عقيدة الروح القدس إلى القدّيس باسيليوس الكبير الذي رقد بالرّب قبل انعقاد المجمع المسكوني الثاني بسنتين أيّ في عام 379م، وكان قد وضع كتاباً في العام 375م بعنوان "في الروح القدس"، استند فيه على الكثير من حجج القدّيس أثناسيوس الكبير في رسائله الى سيرابيون اسقف ثُموُيس (361-355م) ذلك أن ثمة فئةً في مصر كانت تحارب ألوهيّة الروح القدس دعاها القدّيس أثناسيوس "التروبيك" نسبة إلى كلمة يونانية تعني اللعب على الألفاظ وتفسير الآيات بغير موضعها.

كما قد كان طلب القدّيس باسيليوس من القدّيس أثناسيوس أن يكون حلقة الوصل مع الغرب.

وفي رسالة إلى أساقفة غاليا وإيطاليا وصف باسيليوس الضيقة التي يمرّ بها الشرق، على أن جهود دماسيوس أسقف روما جاءت ضيئلة.

في المقابل كانت الأحداث السياسيّة تؤثّر على الكنيسة بشكلٍ كبير. ففي معركة خاسرة وكارثية مع الغوط في عام 378م توفيّ الإمبراطور الأريوسي فالنسيوس وخلفه أمبراطوران: غراسيانس في الغرب وثيودوسيوس في الشرق.

عزم كلاهما على وضع نهاية للمشاحنات اللاهونيّة التي شقّت ظهر الإمبراطوريّة على كلّ المستويات العسكريّة والسياسيّة والاجتماعية والشعبيّة.

ففي عام 380م جعل الإمبراطور ثيودوسيوس المسيحيّة دين الدولة الرسميّ واعترف بالقدّيس غريغوريوس النازينزي أسقفًا للقسطنطينيّة، ودعا إلى مجمعٍ في عاصمته.

 

2- المجمع:

التأم المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية سنة 381م، بناءً على دعوة الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير.

وعلى الرغم من المشاكل الكثيرة والتعقيدات المتعدّدة التي حصلت بسببه، ومنها أن أبرشيات الغرب بما فيها روما لم تُدعَ الى المشاركة فيه، اعتبره القدّيس غريغوريوس واحداً من أربعة مجامع يحترمها ويجلّها كما يحترم ويجلّ الأناجيل الأربعة المقدّسة.

 ترأس المجمع أوّلاً أسقف أنطاكية ملاتيوس الذي توفّي أثناء التئامه، فأُسندت رئاسته إلى القدّيس غريغوريوس اللاهوتي، وكانت قد أُقيمت عليه دعوى لخرقه القوانين التي تمنع انتقال الأساقفة لانتقاله من أبرشيته إلى كرسيّ القسطنطينية، فاستعفى، وترّأس مكانه خلفه في أسقفيّة القسطنطينية نكتاريوس.

جدّد آباء المجمع المئة والخمسون التزامهم بالمجمع المسكوني الأوّل، غير أنّهم أضافوا بعض التعديلات الطفيفة على دستور الإيمان مثل عبارة: "لا فناء لملكه" وذلك دحضاً لبدعة أبوليناريوس أسقف اللاذقيّة الذي قال إن مُلْك المسيح يدوم ألف سنة.

أبوليناريوس هذا الذي كان صديقًا للقدّيس أثناسيوس الكبير تطرّف في دفاعه عن الأرثوذكسية ضد الأريوسية، وإذ أراد أن يشدّد على ألوهية المسيح الكاملة فرّق بين ناسوت (إنسانيّة) المسيح وناسوت الناس فقال عنه أنّه عندما تجسّد الله لم يأخذ ذهنًا غير عاقل وقام مقامَه الكلمة الإلهيّ نفسُه. وبهذا يكون ضرب طبيعة الرّب يسوع الإنسانيّة الكاملة، وما لم يتحّد به يسوع بشريًا لا يخلص.

إنتفض آباء المجمع المسكوني الثاني ضد هذا التعليم الخاطىء بالكليّة وأكّدوا بأن كلمة الله التام الذي قبل الدهور صار انساناً تاماّ في آخر الأزمنة من أجل خلاصنا.

 

3- أعمال وقوانين المجمع:

دحض الآباء القديسون أقوال أعداء الروح القدس، مثبّتين من الكتاب الإلهيّ بأنّه هو "االله" كما الآب والإبن، في حين لم يكن في نظر المقدونيين سوى أحد الأرواح الخادمة.

كما أعلنوا أنّه "منبثقٌ من الآب" و"هو مع الآب والابن مسجود له وممجّد".

ومع هذا المجمع اكتمل دستور الإيمان الذي كان قد حُدّد الجزء الأوّل منه في المجمع المسكوني الأوّل، وما زال يتلى في الصلوات الأرثوذكسيّة كما كتب في وقتها ويُعرف بالإيمان النيقاوي-القسطنطيني نسبةً إلى مكاني انعقاد المجمعين الأوّل والثاني.

الشق الأوّل في المجمع المسكوني الأوّل أكّد ألوهيّة الإبن والشق الثاني في هذا المجمع المسكوني الثاني  أكّد ألوهيّة الروح القدس: " وبالروح القدس، الرّب المحيّي، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجود له وممجّد...".

وفي السنة نفسها إنعقد في الغرب مجمعًا في أكويلا على البحر الأدرياتيكي على طلب من الإمبراطور غراسيانس ضمّ بضعة أساقفة من إيطاليا الشمالية ومن غاليا وعزلوا الأساقفة الأريوسيين وطلبوا من الإمبراطور تنفيذ ذلك.

هذا لا يعني أن الأريوسيّة إختفت، ومثال على ذلك الأسقف ولفيلا الذي بشر الجرمان وكان قد رسمه أوسابيوس النيقوديمي الأريوسي.

كما أن هناك مشاكل أخرى ستظهر لاحقًا لتعالج في المجامع الخمسة اللاحقة.

 

4- ملاحظة:

التأم في عام 382م في روما مجمعًا برئاسة البابا داماسيوس الأوّل وافق الغرب فيه على أعمال المجمع المسكوني الثاني واعترفوا به مجمعًا  قانونياً نظير مجمع نيقية، ولكن تم الاعتراض على القانون الثالث الذي يقضي بجعل أسقف القسطنطينية مساويًا لأسقف روما وله " إكرام التقدّم بعده، لأن القسطنطينية هي روما الجديدة "، كما أن القانون ذاته أقلق كنيسة الإسكندرية أيضًا واعتبرته نوعًا من التحدّي لها.

مع العلم أن التقدّم والرئاسة لأسقف روما ولاحقًا لأسقف القسطنطينية هو تقدّمًا بالمحبّة والمساواة تيمنَّا بما قاله القدّيس إغناطيوس الأنطاكي في رسالته لأسقف روما.

فهذا الإكرام هو أوّل بين متساوين Primus Inter Pares.

لم يعترف الغرب رسمياً بحق القسطنطينية بتولّي المركز الثاني قبل مجمع لاتران (1215م)، وكانت القسطنطينية وقتئذ ٍ في يد الصليبيين وتحت سلطة بطريرك لاتيني.

* كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى: عقيدة وتاريخ - The Church of the city of God, great Antioch: Faith and History