القديس يعقوب تساليكيس (+١٩٩١م)



11-22
القديس يعقوب تساليكيس (+١٩٩١م)

- مقدّمة:

أرشمندريت متوحّد لَمَع في النصف الثاني من القَرن العشرين لا كراهب ناسك وحسب بل أيضاً كَراعٍ وأب روحي عميق البصيرة، على طيبةٍ وبساطة كالأطفال كما يَشهَد كل من تعرَّف إليه أو التقاه.

قال عنه كاهن قبرصي: "يكفيك أن تُعاشر الشيخ يعقوب قليلاً لتفهم ما هي “الحياة المُستَترة مع الله في المسيح” (كولوسي ٢:٣).

كثيرون ممن التقوه شبّهوه بالملاك بقَدر ما كان حضوره “شفّافاً”. آخرون قالوا إنك ما أن تجلس إليه حتى ترى فيه الحب متجسداً".

أبونا القديس بورفيريوس الرائي الذي عاصره سمّاه “مرآة للفضيلة والصبر المقدَّس والتواضع”. هذا وما أن علم القديس بورفيريوس برقاد الشيخ يعقوب حتى قال “هذا الرجل من أعظم قدّيسي عَصرنا”. وتجدر الإشارة إلى أنه بين رقاد قديسَينا هذين ١١ يوماً.

- مولده:

في ٥ تشرين الثاني ١٩٢٠م وُلد يعقوب لعائلة تقيّة من “ماكري” في آسيا الصغرى (تركيّا الحاليّة). كان والده معمارياً ذائع الصيت لحرفيته وأمانته، الشيء الذي أمَّن للأسرة بحبوحة لا بأس بها. لكن الثروة الأهمّ للوالدين كانت تقواهما وتمسّكهما بعَيش الفضيلة، فكانت المحبة المُقَدَّسة الرابط المتين بين أفراد الأسرة، ومنهم إلى كل من كان حَولَهم. ولما حصلت كارثة تهجير المسيحيين من آسيا الصُغرى في أوائل سنة ١٩٢٢م اعتَقَل الأتراكُ الوالد وهُجِّرَت العائلة إلى اليونان، ولم يكن يعقوب الصغير قد أتمَّ السنتين من عمره بعد.

فتنقَّلت العائلة، كسائر من هُجِّروا، من مكان إلى آخر بين مواضع تجمُّع المُهَجَّرين، لثلاث سنوات وهم لا يعرفون شيئاً عن الوالد، بل وفي ظنّهم أنه قضى في الاعتقال كالكثيرين من الرجال الذين اعتقلهم الأتراك.

- لقائه والده في الهجرة بعد غياب:

وفي خريف العام 1925، وبينما كانت جدة يعقوب لأبيه مارَّة أمام ورشة بناء، سمعت صوتاً مألوفاً فدخلت بين العمّال وإذا هي أمام ابنها، والد يعقوب. كان الأتراك قد أطلقوا سراحه منذ حوالي سنة ونفَوه إلى اليونان، وكان منذ ذاك يبحث عن عائلته، وقد ابتدأ ييأس.

- شبابه:

وهكذا التمّ شمل العائلة من جديد وانتقل الجميع إلى قرية شمال جزيرة إيفيا حيث مُنِحوا قطعة أرضٍ، فبنى الوالد منزلاً للعائلة، وفيه عاش يعقوب حتى انتقاله إلى الدير. ولا شكّ أن جَوَّ التُقى العائلي أثّر في يعقوب الصغير كثيراً. فكانت الصلوات والتراتيل وقصص القدّيسين تستهويه منذ الخامسة من عمره. وفي السابعة – ولم يكن يذهب إلى المدرسة بعد – حَفظ معظم القدّاس الإلهي عن ظهر قلب. أمران كانا الأحبّ إلى قلبه: خدمة الكاهن في الصلوات الكَنَسيّة، والذهاب إلى المزارات والكنائس الصغيرة في البرّية، للصلاة ساعات طوال مُقَلّداً، ببراءة الأطفال، الآباء النُسّاك.

هكذا أمضى صِغَرَه وشبابه عَشير القدّيسين حتى بات أليفَ حضورِهم وعجائبهم. وهذا ما جعل أهل القرية يسمّونه “القديس الصغير” و ”ولد الله”. وإذ لم يكُن في القَرية كاهنٌ مُقيم، فقد كان أهل القرية يلجأون إلى يعقوب في الأمراض والضيقات ليصلّي من أجلهم. فكان الصبيّ يتلو من أجلهم الـ ”أبانا”، وغيرها من الصلوات التي كان يحفظها، بعفوية وبساطة واتّضاع، وكانت صلواته تُستَجاب فوراً.

عند إنهائه مرحلة التعليم الابتدائي، وإذ لم تكن العائلة تملك مالاً لإرساله إلى المُدُن لإكمال تعليمه، صار الفتى يعقوب يرافق والده إلى ورَش البناء في القرية وخارجها، حتى أتقن مهنة البناء ولم تكن أتعاب المهنة تثنيه بالرغم من هزالة بنيته الجسدية.

- صوته العذب:

في العشرين من عمره سمعه متروبوليت المنطقة يرتّل مرة في الكنيسة فأُعجب كثيراً بصفاء صوته وعذوبة ترتيله فسامَه قارئاً. ومنذ ذلك الحين زاد الشاب يعقوب التشدُّد في أصوامه وصلواته. وهناك شهادات كثيرة عن أيام شبابه تتحدّث عن مدى تشدّد هذا الشاب في الأصوام والسهر في الصلاة وسائر المُمارسات ذات الطابع النُّسكي، رغم أنه لم يكن راهباً.
على هذه الحال أدّى خدمته العسكرية سنة ١٩٤٧م. رفقاؤه هناك كانوا يسمّونه تهكُّماً “أبونا يعقوب”، أما رئيسه وبعض الآخرين فكانوا يعاملونه بتقدير واحترام، ولعلّهم تحسّسوا كِبَر قامته الروحية. سنة ١٩٤٩م أنهى خدمته العسكرية وفي السنة نفسها رقد والده. فاهتمَّ بشقيقته عملاً بوصية والدته القديسة قُبيل رقادها. ولما تزوّجت أخته صار حُراً لينطلق إلى الرهبنة، غاية مُناه منذ الصِّغَر.

- انتقاله إلى دير البار داود:

سنة ١٩٥٢م قُبِلَ الشاب يعقوب راهباً في دير البار داود (نُعيّد له في 1 تشرين الثاني) في إيفيا. وفي السنة نفسها سيم كاهناً بيد المتروبوليت غريغوريوس. فتضاعف جهاد الراهب، وغالباً ما كان يصعد إلى المغارة التي نسك فيها البار داود ليصلّي لساعات.

وكما كانت جهاداته وصلواته تزداد كانت تزداد أيضاً نِعَم الله عليه، ومنها الرؤى الإلهية وظهورات القديسين والعجائب. وغالباً ما كان الشيخ يعقوب يرى ويُحادث البار يعقوب مؤسس ديره، والبار يوحنّا الروسي الذي كان يكنّ له الشيخُ يعقوب إكراماً خاصاً. أما في خدمته القُدّاس الإلهي، فمعاينة الملائكة يمَجّدون الحمل الذبيح كانت شبه دائمة عنده، وقد شهد كثيرون كيف كان يتألّق بالنور وهو يخدم الأسرار الإلهيّة.

سنة ١٩٧٥م اختاره آباء الدير رئيساً عليهم، وبقي حاملاً هذا الصليب بِبَذلٍ واتّضاع كُلّييَن حتى رقاده المُوَقَّر في ٢١ تشرين الثاني ١٩٩١م.

- صلاته:

كان الشيخ يعقوب يردّد دائماً: “كيف يمكننا أن نحب الله إن لم نحب حتى الموت هؤلاء الذين أحبَّهم الله حتى الموت؟”، وهو نفسه كان يطبق هذا القول إذ كان يرى كلُّ قاصديه كيف كان يعتنق آلامهم وأحزانهم وكأنها في جسده وروحه. هكذا كان يستمع إليهم ويُعَرِّفهم ويُرشدهم ويصلّي من أجلهم، كما كان يشفي أمراض النفوس والأجساد ويَرُدّ الضالّين ويُحرّر الممسوسين من الشيطان.

- عجائبه:

عجائبه، في حياته وبعد رقاده، كثيرة جداً. ولكنه لم يكن ينسب لنفسه شيئاً، مُعيداً، ببساطة وعفوية الأطفال، كلّ الفضل لله. وكلّما ازدادت نِعَمُ الله عليه ازداد هو تشدّداً في الحفاظ عليها وتثميرها.

- خلاصة:

لم يَكُن أبونا البار يعقوب مُتعلّماً أو لاهوتياً أديباً، إذ لم يتجاوز التعليم الابتدائي. ولكنّه كان مُظَلّلاً بنعمة الروح القدس، النعمة التي جعلت صيادي الجليل البُسطاء رُسُلاً ألهبوا الأرض ببشارة الخلاص.

وبهذه النعمة حمل أبونا يعقوب إلى الملتجئين إليه وإلى الذين كان يخرج لرعايتهم في القرى المُجاورة، السلامَ والفَرَح والتعزيات وغيرها من ثمار الروح القُدُس. في جَلَسات الإرشاد والعظات، كانت كلمات أبينا البار يعقوب دائماً بسيطة، عَذبة ومجبولة بالمحبة حتى عندما كان يُضطرُّ إلى شيء من الصرامة والتأنيب.

فأتت كلماته شافية للأمراض قاهرة للشياطين، وأتت صلاته أمام العرش الإلهي بخوراً عذباً مقبولاً على الدوام.

شفاعته تكون معنا، آمين