القدّيس بنادكتُس البار (543م(
الإسم بنادكتس يعني مبارك باللاتينيّة ويقابله مكاريوس باليونانيّة.
كتب سيرته القدّيس غريغوريوس الذيالوغوس أسقف رومية (25 آذار)، مستندًا إلى روايات أربع استقاها من تلاميذ القدّيس بنادكتس ممن رأسوا ديورة كان قد أنشأها. وقد ورد الكلام عنه في كتاب "الحوارات".
ولد القدّيس حوالي العام 480م في نورسيا الإيطالية لعائلة مرموقة. اسم أبيه أفتروبيوس. فلمّا بلغ سنًا تتيح له تحصيل العلم، بعث به والده إلى رومية. وإذ بدا أن الشاب الصغير كان قد نشأ على التقوى أقلقته عبثية بعض الشبان الذين تعرّف إليهم وكان مضطرًا إلى التحدّث معهم.
وإن هي سوى فترة قصيرة حتى قرّر اعتزال العالم لأنّه لم يشأ أن يكون عرضة لغوايته.
ترك المدينة سرًا واتجه ناحية البراري. مربيته كيرللا تبعته إلى ثلاثين ميلاً من رومية لكنّه عرف كيف يصرفها وتابع رحلته إلى أن جاء إلى بريّة جبال سوبلاكم، على بعد أربعين ميلاً من المدينة.
لباسه ثوب الرهبنة:
المكان عبارة عن سلسلة صخرية قاحلة قاسية تطل على نهر في الوادي وبحيرة. هناك التقى فينيدكتوس راهبًا اسمه رومانوس، من دير في الجوار. هذا ألبسه ثوب الرهبنة وزوّده بإرشادات نافعة وقاده إلى كهف ضيّقٍ في عمق الجبال. كاد أن يكون متعذّراً على الناس بلوغه. وإذ حفظ رومانوس أمر فينيدكتوس سراً، صار يأيته من وقت لآخر، ببعض الطعام يدليه بحبل علق فيه جرساً. عمر قدّيسنا، يومذاك، قرُب من ۱٥ سنة. القدّيس غريغوريوس الذيالوغوس قال أنّه كان ولدًا.
سلك بنادكتس، في ما زوّده به رومانوس من توجيهات، ثلاث سنوات قيل بعدها أن الله سُرّ أن يكشف أمره لآخرين ليكون لهم نورًا وهداية. فخلال العام 497م، فيما كان أحد الكهنة في تلك الأنحاء يعد لنفسه طعامًا، أحد الفصح المجيد، سمع صوتًا يقول له: " أنت تعد لنفسك مأدبة وخادمي بنادكتس، في سوبلاكم، يضنيه الجوع ". للحال خرج الكاهن يبحث عن الناسك ولم يعثر عليه إلّا بشق النفس. بعد ذلك بقليل التقى القدّيس، قرب المغارة، بعض الرعاة. أوّل رد فعل لديهم كان الدهش. ظنوه حيوانًا غريبًا لأنّه كان يلبس جلد الحيوان. فلما عرفوه أنّه رجل الله أُخذوا به حتى مال بعضهم إلى سيرة كسيرته. مذ ذاك ذاع صيته وأخذوا يزورونه ويمدّونه ببعض ما يحتاج إليه، وكان هو، بدوره، يزودهم بنصائحه وتوجيهاته.
من جهة أخرى كان صراع بنادكتس والشياطين شرسًا. وطأة التجارب عليه، أحيانًا، كانت قاسية عنيفة.
من ذلك أن الشيطان أعاد إلى ذاكرة القدّيس صورة امرأة سبق أن التقاها في رومية. وقد أخذت الذكرى تقضّه وتضنيه حتى أخذ يفكر في مغادرة البريّة. لا شيء أتاح له أن يقوى على التجربة. التصقت بروحه وأبت أن تغادره.
أخيرًا، بعدما عيل صبره، ألقى بنفسه، عريانًا، بين الأشواك، وأخذ يتمرغ عليها حتى تجرّح كله وسالت منه الدماء. نتيجة ذلك، وفي خضم الآلام والجراح، انطفأ فيه، بنعمة الله، روح الزنى فغاب ولّما يعد.
رئاسته للدير:
انتشر خبر بنادكتس وأخذ الزهّاد يشقّون طريقهم إليه. رهبان فيكوفارا، إثر وفاة رئيسهم، أرسلوا يسألونه إن كان يرضى أن يكون راعيًا لهم فرضي ولكن على مضض.
كان يحدوه شعور أنّه، في وسطهم، في غير موقعه. وبالفعل اجترأ عليه قوم ودسّوا له سُمًا ممزوجًا بخمرة، فلما صلّب على الكأس تكسّر. فوعظهم وعاد، من حيث أتى، إلى سوبلاكم حيث أخذ طلاب الرهبنة يُقبلون إليه فبنى الدير تلو الدير حتى بلغ مجموع ما أنشأه من ديورة، في ذلك الزمن، إثنى عشر، استقر في كلّ منها رئيس وإثنا عشر راهبًا.
بعض من أعاجيبه:
بعض أخبار هذه الديورة حفظته الذاكرة وتداولته الألسن جيلاً بعد جيل. ففي دير القدّيس إيرونيموس كان أحد الرهبان يهمل الصلاة القليبة التي يبدو أنّها كانت تلي، في الكنيسة، الخدمة الليتورجية، فيخرج ويذهب إلى عمله. وعبثاً حاول رهبان الدير ثنيَ أخيهم عن هذه الشائنة فلم يرعو. فنقلوا خبره إلى القدّيس بنادكتس الذي دخل إلى الكنيسة في نهاية الخدمة مرّةً فرأى ولدًا أسود صغيرًا يسوق الراهب بكمّه خارجًا. فصلّى من أجله. ثم في اليوم الثالث رآه يهم بالخروج كعادته فضربه بعصى فهرب إبليس وعاد الراهب إلى نفسه.
وفي دير آخر هو دير القدّيس يوحنا، كانت الحاجة إلى المياه ماسة ولم يجد الرهبان إلى تأمين حاجتهم سبيلاً، فصلى القدّيس فخرجت المياه من الأرض.
وفي دير القدّيس اكليمنضوس، على ضفة البحيرة، فيما كان راهب غوطي يقطع الأشواك سقط حديد منجله في البحيرة فصلّى الرهبان وبشفاعة أبيهم جاؤوا بعود المنجل وجعلوه في الماء فاجتذب الحديد فسبحوا الله وشكروا.
هذا وقد بلغ صيت بنادكتس أسماع العديدين من مشاهير القوم في رومية وسواها فأخذوا يتدفّقون عليه ليسألوه النصح والصلاة ويلتمسوا بركة الرّب الإله على يديه.
وقد ذُكر أن بعض هؤلاء كانوا يتركون أولادهم لديه ليتسنّى لهم أن ينشأوا على السيرة الفاضلة منذ نعومة أظفارهم. من هؤلاء الشيخان أفتيخيوس وترتللوس اللذان كانا من مشاهير الفرس. هذان تركا ولديهما موروس وبلاسيدوس، سنة 522، وكلاهما صار للقديس تلميذًا مبّرزًا.
وإذ عاين إبليس ما أخذ القدّيس يصيبه من نجاح سلّط عليه واحدًا من الحسّاد من ضعفاء النفوس، فلورنتينوس، الذي كان كاهنًا في الجوار. هذا أشاع عن القدّيس أخبارًا مغرضة بقصد تشويه سمعته وإلحاق الأذى به وبعمله المبارك. ويبدو أنّه كان نافذًا وكثير الشرور حتى اضطر القدّيس إلى مغادرة مقرّه في سوبلاكم إلى قمة كاسينو. ولكن، في طريقه إلى هناك، بلغه خبر فلورنتيوس أنّه قضى نحبه بعدما سقط عليه الرواق. فحزن القدّيس لما جرى، فيما عبّر تلميذه موروس عن ارتياحه للخلاص من اضطهاد الكاهن لمعلّمه ورهبأنّه. فما كان من بنادكتس سوى أن أنزل بالتلميذ قصاصًا صعبًا.
كانت كاسينو، التي هي في نابولي، بلدة صغيرة مبنية على هضبة عالية. وكان يعلوها معبد قديم لأبولو تحيط به الأشجار الباسقة. إلى هناك كان لا يزال يأتي بعض الوثنيين ويقدّمون الذبائح. فلما أخذ القدّيس علمًا بذلك عمل بالكلمة والآيات على هداية العديدين إلى الإيمان بيسوع، ثم قام على الصنم فحطمه تحطيمًا وقلب المذبح ودك الهيكل وقطع الأشجار وأقام في المكان كنيستين. من ذلك الوقت أخذ ينشأ دير هضبة كاسينو ابتداء من السنة 529م. يومها كان بنادكتس قد بلغ الثامنة والأربعين. إلى ذلك ساس قديسنا ديرًا للراهبات قريبًا من المكان وآخر للرهبان في تيراسينا. كما أوفد تلميذه القدّيس بلاسيدس لتأسيس دير في جزيرة صقلية.
القدّيس بنادكتس كان يجهل علوم الدنيا لكنه امتلأ من العلم الإلهي. القدّيس غريغوريوس الذيالوغوس يقول عنه أنّه كان " جاهلاً على علم وحكيمًا على أميّة ".
قالوا أنّه صار شماسًا وربما كاهنًا، لكن الأمر ليس مؤكدًا. الصورة التي رسمها له القدّيس غريغوريوس الذيالوغوس تبّين أنّه كان يعظ في بعض الأمكنة في الجوار وأنّه كان على محبّة فائقة، يمد يده إلى المحتاجين بكل ما أُوتى. كذلك اجتمع لديه من الإشراقات الإلهية والخبرة في قيادة النفوس ومداواتها ما خوّله وضع قانون رهباني فضّله القدّيس غريغوريوس الذيالوغوس على كلّ القوانين التي عرف.
وقد شاع هذا القانون حتى شمل الرهبان في الغرب قاطبة. أسُسه كانت الصمت والخلوة والصلاة والاتضاع والطاعة.
كان بنادكتس في عيون تلاميذه نموذجًا كاملاً للرهبنة يُحتذى. وقد زوّده الرّب الإله بمواهب جمّة بينها صنع العجائب والتبصّر، فكان يشدد الرهبان ويطرد عنهم الشياطين بعلامة الصليب.
مرّةً، فيما تعذّر على الذين كانوا يبنون أحد أديرته أن يرفعوا صخرة من مكأنّها لثقلها، صلّى صلاة قصيرة فأضحت الصخرة على خفّة مدهشة.
ومرّة أقام أحد رهبأنّه من الموت بعدما سقط عليه حائط في هضبة كاسينو.
كذلك أنبأ بدموع كثيرة أن دير كاسينو سوف يُدنّس ويُهدم. وهذا حدث فعليًا على يد اللمبارديين، بعد ذلك بأربعين سنة، حوالي العام 580م. كذلك ذكر بنادكتس أنّه بالكاد تمكّن، في الصلاة من تحصيل العفو عن الناس في تلك الأنحاء.
من جهة أخرى كان محظّرًا، وفق قانون بنادكتس، أن يأكل الراهب خارج ديره إلا إذا كان على مسافة لا تسمح له بالعودة إلى ديره في نفس اليوم الذي خرج لقضاء حاجته. هذه القاعدة، كما ذكر غريغوريوس الذيالوغوس، كانت مرعية بالكامل. لا شيء، في اعتبار قدّيسنا، كان أخطر على الراهب، في تعاطي أمور العالم، من تناول الطعام والشراب في أوساط عالمية.
وكان بنادكتس يعرف بالروح زلّات رهبأنّه وأفكارهم وينبّههم ليتقوّموا. مرًّة جاءه راهب بقارورتي نبيذ فخبأ واحدة وأخذ الثانية إلى القدّيس قائلاً أنّها هدية من فلان، فلفته بنادكتس إلى ضرورة أن لا يشرب من الأخرى. فلما عاد الراهب إلى قلايته وفتح القارورة وجد فيها حية.
ومرّةً أخرى كان أحد الرهبان في نوبة الخدمة وكان يخدم القدّيس وهو يأكل. فخطر ببال الراهب فكر قال له: إن مقامك أرفع من مقام بنادكتس فكيف تقوم بخدمته. الرجل، فيما يبدو، كان من علّية القوم. للحال تطلّع إليه القدّيس وأمره أن يرسم على نفسه إشارة الصليب وصرفه. ولما استدعي باليساريوس، القائد العسكري، إلى القسطنطينية، غزا توتيلا، ملك الغوط، إيطاليا ونهبها. وإذ سمع بقداسة بنادكتس والآيات التي تجري على يديه وأراد أن يجربه، فأعلن أنّه مزمع أن يزور القدّيس. ولكن بدل أن يذهب إليه شخصيًا ألبس ثوبه أحد المقرّبين منه وجعله يدّعي أنّه هو الملك. فلما جاء الرجل المدّعي للحال بادره رجل الله بقوله: اخلع عنك يا بني هذه الثياب لأنّها ليست لك! أخيرًا جاء إليه توتيلا وألقى بنفسه عند قدميه ولم يقم من مكأنّه إلا بعدما أصّر عليه القدّيس.
وقد ورد أن بنادكتس وبّخ الملك بكلّ جسارة على الفظائع التي يرتكبها قائلاً: إنك تفعل شرًا عظيمًا وستفعل المزيد. سوف تحتّل رومية وتعبر البحر وتحكم تسع سنوات وفي السنة العاشرة تموت وتمثل أمام الله لتؤدي حسابًا عما فعلت. كلّ هذا الذي أخبر به بنادكتس تم بحذافيره كما تنبأ. فاستبدّت الرعدة بتوتيلا وطلب صلاة القدّيس. وقد ورد أن الملك صار، مذ ذاك، أكثر إنسانية من ذي قبل. ولما أخذ نابولي عامل الأسرى باللين. أما عن رومية فتكّهن أسقف كانوسا أمام القدّيس أن توتيلا سوف يتركها كومة حجارة ولن تكون آهلة بعد، فأجابه القدّيس: كلا، بل ستضربها العواصف والزلازل وتكون كشجرة يبست من فساد جذورها. هذه النبوءة التي تفوه بها القدّيس هي إياها ما حدث. القدّيس غريغورويوس الثيالوغوس شهد بذلك.
رقاده:
هذا ويبدو أن بنادكتس رقد بعد أخته سكولاستيكا في السنة التي تلت لقاءه بتوتيلا. وقد أخبر تلاميذه بيوم رقاده سلفًا وجعلهم يفتحون قبره قبل وفاته بستة أيام.
فلمّا فعلوا أصابته حمى. وفي اليوم السادس حملوه إلى الكنيسة حيث تناول القدسات. وبعدما زوّد رهبانه بتوجيهاته اتكأ على أحدهم ورفع يديه وأسلم الروح. كان اليوم سبتًا والتاريخ الثالث من أبريل، أغلب الظن عام 543م.
كان قد بلغ من العمر الثالثة والستين. أكثر رفاته ما يزال موجودًا في دير كاسينو. وبعض عظامه نُقل إلى دير فلوري في فرنسا. المستشفّعون به يطلبون حمايته من مضار الحشرات وسمومها.
لما رقد شاهد أحد الرهبان الحاضرين رؤيا وشاهدها القدّيس موروس أيضًا وكان، إذ ذاك، في فرنسا رأى طريقًا واسعة يكسو أرضها السجّاد الفاخر وعلى جوانبها شموعًا مضاءة لا عد لها.
وإذا شيخ وقور يقول: هذه هي الطريق التي سلكها بنادكتس، حبيب الله، فأوصلته إلى السماء.
من تعاليمه أن للتواضع إثنتي عشرة درجة هي التالية:
1- نخس القلب وخوف الله والسلوك في حضرته.
2- التخلّي عن الإرادة الذاتية.
3- الطاعة.
4- الصبر على الأتعاب والجراح.
5- كشف أفكارنا وتصوراتنا للأب الرئيس.
6- الرضى والفرح بالذل والأعمال الحقيرة والثياب الفقيرة واعتبار أنفسنا غير مستأهلين للكرامة والنظر إلى أنفسنا كعبيد بطّالين.
7- اعتبار أنفسنا دون الآخرين وأقل قيمة من الآخرين وحتى أعظم الخطأة.
8- اجتناب التفرد في الكلام والعمل.
9- أن نحب الصمت ونتعاطاه.
10- أن نتجنب المسرات المنحلّة والقهقهة.
11- أن نمتنع عن الكلام بصوت عال ونلزم الاحتشام.
12- أن نسلك في الاتضاع في كل عمل وأن تكون أعيننا إلى الأرض كالعشار ومنسّى التائب.
وقد أضاف القدّيس بنادكتس أن المحبّة الإلهية هي المكافأة التي تحصل من التواضع الصادق. وقد جعل نخس القلب والتخلّي عن المشيئة الذاتية قبل الطاعة.
2024-12-15
15-12-2024 كلمة البطريرك يوحنا…
2024-12-16
البطريرك يوحنا العاشر يستقبل…
2024-12-18
اجتماع البطاركة ورؤساء الطوائف…
2024-12-18
دليل الكرسيّ الأنطاكي ٢٠٢٥
2024-12-20
الرسالة الرعائية ميلاد 2024