الرسالة الرعائية الميلادية 2013



2013-12-20

برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي

"أيها المحب البشر. بما أنك إله السلام وأبو المراحم. فقد أرسلتَ لنا رسول رأيك العظيم، مانحاً إيانا سلامك. فلذا إذ قد اهتدينا بنور المعرفة الإلهية، فنحن نبتكر من الليلِ ممجدين لك"

بهذه الكلمات، يا أحبة، وصفت ريشة ناظم التسابيح حدث الميلاد العظيم، وبهذه الكلمات تخطّت يراع كوزما المرنم، ابن هذا المشرق، الدهور والأوقات لتخبر عما يُنشد ويَنشد ابن المشرق في يوم ميلاد السيد المسيح رسول الرحمة ونبع السلام.
يوافينا في هذه الأيام "رسول الرأي العظيم" ناقلاً لجبلة البشر سلام البارئِ لكل نسمة. يوافينا ليقول لكلٍ منا: "أيها الإنسان المثقل بهموم الدنيا وقلاقلها، هلم إلي، إلى مغارة بيت لحم. وضعْ وِسق أتعابك عند قدمي لتجد سلاماً وراحةً". مغارة بيت لحم صورةٌ لقلب ولكيان الإنسان الذي يغتذي بالتواضع ويتقوى بالفضيلة ويتسلح بالصبر والفرج فيحتوي الرب ساكناً فيه ومقدساً حياته.

يوافينا في هذه الأيام سلام الخليقة كلها، يسوع. وهو سلامنا وبَلسم جراح إنسان هذا المشرق. يوافينا لندفن بميلاده أحزان السنة الماضية ولنفتتح برجائه مسيرة السنة القادمة. يوافينا مانحاً إيانا سلامه. وسلامه هذا ضمانةٌ لسلامنا وطناً وكنيسةً وإنساناً.
نقول لشعبنا المؤمن في هذه الديار. نحن سفراء سلامٍ وسفراء محبةٍ لكننا في الوقت نفسه جذرٌ ضاربٌ في عمق تاريخ وجغرافية هذه الأرض. سلاحنا وربيعنا هو لقيا الآخر وقبوله والنهوض معه بأعباء الدنيا. نحن سفراء سلامٍ لكننا لسنا مكسر عصا في الوقت نفسه. نحن سفراء سلامٍ ومحبةٍ وتلاقٍ. سلاحنا سلامنا، ورجاؤنا ورسالتنا أخوّةٌ حقةٌ مع من أسلمنا وإياهم أمرنا لله العلي خالق السماء والأرض. وإن أجراس كنائسنا التي علّقت في غابر الأيام ستظل تُقرع بقوةٍ وعنفوان رغم مكائد الزمان وستظل تسمع نبض محبتنا للآخر والجار والقريب. وهي نفسها ستعلن للدنيا برمتها أن الرُّسل مروا من هنا وأن أتْرابهم سيكونون رسل محبةٍ وجذراً ضارباً لا تُنيخه الأيام الصعبة. إن الكنيسة التي قدّمت المعترفين من أمثال يوحنا الدمشقي والتي أبزغت إلى النور الشهداء من أمثال الخوري يوسف مهنا حداد، أي يوسف الدمشقي، لم تبخل يوماً ولن تبخل بأن تكون سفيرة محبةٍ وسلامٍ. وهي ذاتها التي قدمت الكثيرين قرباناً على مذبح الوطن والكنيسة والإنسان. أن تكون سفير سلامٍ لا يعني أبداً أن تكون سفير استسلام. نحن لا نستسلم أبداً في وجه مَن يستبيح المقدسات ولن نسكت أبداً على خطف مطارنتنا يوحنا وبولس والكهنة وأي بريءٍ في هذه الأرض. لن نسكت أبداً في وجه من احتجز صوت سلامنا- أعني راهبات معلولا وأيتامها. نحن مدعوون أن نُسمع الصوت عالياً، وطناً وانتشاراً، في وجه من أراد اختطاف صوت سلامنا. لم تحمل راهبات معلولا ويتاماها سوى شموع ابتهال ولم يحمل الإخوة المطارنة سوى صوت السلام. فأين العالم كله من شموع الراهبات ومن رسالة المطارنة السلامية!

سلامك يارب ضمانةٌ لكنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية. وهي مدعوةٌ إكليروساً وشعباً لتُقارب كل المسائل بروح المحبة وبروح الوداعة. كل تجريحٍ في جسد الرب، الذي هو نحن كجماعة، هو مدعاة حزن للجميع. في كنيستنا ما يكفي من أساليب نعالج بها ضعفات بعضنا بعضًا كي لا نلجأ إلى شرذمة البنيان الذي نحن مسؤولون عنه. محبتنا لله وللآخرين تقضي بأن لا نفرّط بهذه الوحدة الكيانيّة لأسباب تعود إلى الأفراد. الله هو الذي تنازل وحلّ بيننا لتأتي المسرّة للعالم. الرب يسكن حيث سكينة الروح والرويّة، وهو يقطن القلوب التي تلتحف المحبة سربالاً. "أحبوا بعضكم بعضاً...فيعرف الناس أنكم تلاميذي" (يو 13: 34-35). هذه المحبّة ليست ضرورية لنا فقط، بل هي ضروريّة للعالم لكي يثق بالله الذي يحركنا. وهذه مسؤوليّة ملقاةٌ على عاتق كلّ منّا إنْ فعلاً أحب المسيح. يقول الرب في إنجيل يوحنا: "ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا فيؤمن العالم أنك أرسلتني" (يو17: 21)، ونحن على هذا الرجاء نستقبل الميلاد وندعو أبناءنا جميعًا وبإصرار كبير ليتحلّوا بروحه. تتمجد كنيستنا ويتمجد ربّنا عندما نمحو عن صُحف قلوبنا ذمّ الغير ونُسقط من على صفحات صُحفنا تشهيراً ووعيداً ونحل مشاكلنا بمنطق المحبة والتلاقي، وهذا هو منطق الإنجيل. تتمجد كنيستنا ويتمجد ختنها عندما نقدر أن نكون رعاةً ورعيةً جسماً واحداً وقلباً واحداً، عزاءً للمحزونين وقدوةً للعالم.

من هنا، من قلب مريمية دمشق أبعث بالبركات الرسولية لكل أبنائنا في الوطن وبلاد الانتشار. وأصلي إلى الطفل المولود في المغارة أن يمسح دموع المحزونين ويعزي قلوب المشرّدين ويتغمد برأفته الإلهية نفوس الراقدين وأن يزيّن عامنا الجديد بعودة المخطوفين وببريق سلامه الإلهي الحق.
حمى الله سوريا. حمى الله لبنان، وجعلهما موطناً للسلام والعيش المشترك، حمى الله المشرق والعالم أجمع. أعادها الله عليكم جميعاً مواسمَ مباركةً يتجلى فيها سطيع سلامه الحقّ.

صدر عن مقامنا البطريركي في دمشق
بتاريخ العشرين من كانون الأول للعام ألفين وثلاثة عشر.