القدّيس الصدّيق إبراهيم، أبو المؤمنين…
إبراهيم:
كان اسمه أبرام ومعناه بالآرامية أب رفيع. لكن الله غيّر اسمه إلى إبراهيم الذي يعني أب لجمهور من المؤمنين، إذ إبراهيم يعني «ابورهام» أي «أبو جمهور».
«أَمَّا أَنَا فَهُوَذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا، وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا، وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. تكوين ٥:١٧).
إبراهيم ، كما جاء في سفر أشعياء ٨:٤١ هو خليل الله: «وأمّا أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي».
من الأمور البارزة في سيرته:
- مغادرته أرضه وعشيرته وبيت أبيه، وهو كبير في السن، إلى أرض غريبة لا يعرفها. (الإصحاح 12).
- طاعته للعليّ عندما امتحنه وأمره أن يقدّم له وحيده اسحق، ابن شيخوخته، ذبيحة في أرض الموريّا، والبركة التي أسبغها عليه نتيجة ذلك: «بذاتي أقسمت... أني من أجل أنّك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرًا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر. ويرث نسلك باب أعدائه..» (الإصحاح 22).
- استقباله للرجال الثلاثة عند بلوطات ممرا (الإصحاح 18)، وهو ما اعتبرته الكنيسة صورة لحضور الثالوث القدّوس.
- الدالة التي تحدّث بها إبراهيم إلى الله متوسّطًا من أجل سدوم وعمورة بعدما عزم الله على إهلاكهما.
- الوعد الذي قطعه له الله بأنّه سوف يجعله أمّة عظيمة، ويباركه ويعظّم اسمه، ويكون بركة ويبارك مباركيه ويلعن لاعينه، وتتبارك فيه جميع قبائل الأرض.
أما لوط، ابن أخي إبراهيم، فكان بارًّا وقد سكن في أرض سدوم، ولم يشأ الله أن يهلك المدينة قبل إخراجه منها، هو وأهل بيته. وقد استقبل ملاكي الربّ بالترحاب وعمل على صونهما من شر أهل المدينة، ثم فرّ هو ومن معه إلى مدينة صوغر. لكن امرأة لوط تطلّعت إلى الوراء، إلى سدوم، في الطريق، بعدما حرم الملاكان على لوط وجماعته ذلك فصارت عمود ملح (الإصحاح 19).
سيرة ابراهيم:
تبدأ قصة حياة إبراهيم، عندما طلب الله منه أن يهاجر من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه، إلى أرضٍ يُريها له، دون أن يحدّدها له بالإسم.
ترى لماذا يترك إبراهيم بلاد ما بين النهرين، التي كانت تقع بين نهري دجلة والفرات في العراق، وهي بلاد عامرة عريقة في الحضارة، ليذهب إلى بلد لا يعرف عنها شيئاً؟
يقول لنا الكتاب المقدّس: «بِالْإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي» (عبرانيين 11:8). لكن إبراهيم عرف أن الله الحقيقي هو الذي يدعوه، فقد كان أهل بلده وكلّ عشيرته يعبدون الأصنام، وقد عرف إباهيم أن الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة، لأن الناس يصنعونها بأيديهم، وباتالي هي لا تصنع الناس.
وعندما أخبر إبراهيم أباه تارح أن الله دعاه ليهاجر من أور الكلدانيين، وافق تارح أن يهاجر هو أيضًا منها.
وكان لتارح ثلاثة أولاد: أبرام (الذي صار اسمه إبراهيم) وناحور، وهاران. أما هاران فكان قد مات في أور الكلدانيين بعد أن ولد ابنه لوط، وتزوّج أبرام أخته من أبيه ساراي، وصار اسمها سارة. وساراي أو سارة معناها أميرة. وكانت العادة في ذلك الزمان أن يتزوج الرجال أخواتهم، الأمر الذي لا يحدث اليوم، إذ لم يكن في تلك الأيام اختلاط بين الناس إلا بين أفراد القبيلة الواحدة.
مدينة أور:
كان تارح يسكن مع أولاده في مدينة أور الكلدانيين، وهي من أعظم مدن العالم في ذلك الزمان، فقد كان بها المدارس والأبنية العظيمة، كما كانت مدينة تجارية كبيرة، فكانت السفن تحمل منها القمح والبلح إلى البلاد المختلفة. وكانت الأرض حول أور خصيبة يعطي قمحها مئتي ضعف، بل ثلاثمائة ضعف أحيانًا.
وقد يكون القمح عُرف، أول ما عُرف، في هذا المكان من الأرض.
كان أهل أور وثنيين يعبدون آلهة كثيرة. كانوا يعبدون آلهة الجمال والحب «فينوس»، وقد عملوا لها صنمًا كبيرًا، وكانت الديانة في أور مختلطة بالفساد، فقد كانوا يعبدون اثني عشر صنمًا كبيرًا، وعددًا كبيرًا من الأصنام الصغيرة. لكن إبراهيم عرف الله من الطبيعة، فإن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللّهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19:1).
لماذا دعا الله إبراهيم؟
- الله المدرك مكنونات القلوب، ظهر لابراهيم لأنّه الراعي الصالح الذي يبحث عن كلّ واحد منّا.
- أراد الله أن يكون إبراهيم شهادة لكل الأرض، وهذا ما ذكره أشعياء النبيّ: «أنا أنا الربّ، وليس غيري مخلّص. أنا أخبرت وخلّصت وأعلمت، وليس بينكم غريب. وأنتم شهودي يقول الربّ وأنا الله». (تكوين ٤٣)
في هذا السياق يقول بولس الرسول: «لِأَنَّهُمُ اسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ اللّهِ» (رومية 3:2).
وهو في كلّ عصر وزمان يدعونا لنكون شهودًا له.
- الله، منذ اللحظة الأولى للسقوط ويعلن عن مجيء المخلّص الفادي: «وأضع عداوة بينك( الحيّة أي الشيطان) وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو (الرّب المتجسّد) يسحق رأسك وانت تسحقين عقبه(الصليب) (تكوين ١٥:٣).
وها الرب استكمله مع الآباء والأنبياء.
وهكذا بنسل إبراهيم، يُصبح إبراهيم بركة للعالم كلّه. « وأمّا المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول: وفي الأنسال، كأنّه عن كثيرين، بل كأنّه عن واحدٍ وفي نسلك الذي هو المسيح (غل 16:3)”.
فدعوة ابراهيم هي دعوة لكلّ واحدٍ منّا، وكما إبراهيم مرّ بتجارب كذلك نحن، ولكن من يصبر إلى المنتهى يخلص(متى ١٣:٢٤).
إبراهيم يكمل الرحلة:
رافق إبراهيم في رحلته والده تارح، ولوط ابن هاران ابن شقيقه، وساراي امرأة إبراهيم.
فخرجوا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، وبلغوا بلدًا في الطريق اسمها حاران.
قرّر تارح أن يقيموا فيها ولم يشأ أن يكمل الرحلة إلى كنعان، والمسافة بين حاران وأور تبلغ نحو ألف ومئتي كيلو متر.
حاران معناها «محروق» أو «يابس» أو «ملفوح». وقرر تارح أن يبقى في حاران، ولا نعرف لماذا بقي تارح في المكان الجاف المحروق دون أن يكمل الرحلة إلى مكان الراحة والموعد. وبقيت العائلة في حاران إلى أن مات تارح.
وبعد موت تارح جاء صوت الله إلى إبراهيم مرّة أخرى يقول: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلَاعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الْأَرْضِ» (تكوين 12:1-3).
وقف إبراهيم يسمع صوت الله العجيب مرة أخرى. كان يقدر أن يرفض ولا يطيع ويعتذر، كما فعل شابٌّ غني جاء إلى السيد المسيح يسأل عن طريقة الحصول على الحياة الأبدية، ولم يقبل أن يتبع المسيح، لأنه كان صاحب أموال كثيرة، فترك المسيح ومضى حزينًا، لأن أمواله كانت أكثر أهميّة عنده من طاعة المسيح (مرقس 10:17-22).
لكن إبراهيم لم يهتم البتّة بغناه، ولا بالأرض التي كان يمتلكها في حاران، لكن قرّر أن يطيع الله ويسير بحسب مشيئة العليّ وليس بحسب مشيئته.
طاعة إبراهيم لله والعمل بمشيئة الرّب حُسبت له برًا. لقد عاش التسليم الإلهيّ بالكامل فأضحى مثالًا لجميع البشر.
ألم يقل بولس الرسول في الإصحاح الثالث من رسالته إلى أهل فيليبي:« إني أحسب كلّ شيء نفاية لكي أربح المسيح» وهذا ما فعله برنابا وكثيرون أيضًا إذ تركوا ما لهم وتبعوا المسيح.
مواعيد الله لإبراهيم:
كانت مواعيد الله لإبراهيم غريبة، ولكن إبراهيم وثق فيها وصدّقها:
- قال الله لإبراهيم إنّه سيجعله أمّة عظيمة، مع أن زوجته عاقر ومتقدّمة في السن.
- أترك كلّ شيء وسر أمامي إلى أرض لا يعرفها حيث سيكون وحيدًا وبعيدًا عن أهله وعشيرته، وهو طاعن في السن، أي في السن الذي يجب أن يرتاح فيه وليس ليبدأ حياةً جديدة. ولكن راحتنا هنا هي أنيّة بينما راحة الله سرمديّة آبديّة.
- «ستكون بركة». ستفيض البركة من نسل إبراهيم، ويبارك مباركي هذا النسل ويلعن لاعنيه. « الرّب يسوع سيكون حجر صدمة وعثرة لكثيرين، ومن يقع عليه هذا الحجر يسحقه».
وهكذا سافر إبراهيم من حاران إلى كنعان، وجهّز عائلته ومواشيه وعبيده للسفر الطويل.
هي مسافة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر. ولا نعلم كم من الوقت صرفه إبراهيم وعائلته في السفر، فقد كان لا بد لهم أن يسافروا على مهل حتى تأكل البهائم من المراعي التي حولهم. وأخيرًا وصلوا إلى أرض كنعان: إبراهيم وسارة ولوط وزوجته.
مرَّ إبراهيم بدمشق في طريقه من حاران إلى كنعان، وهناك قابل أليعازر الدمشقي، الذي جعله فيما بعد وكيلاً على أمواله. وعبر إبراهيم ومن معه الأراضي والأنهار، ولذلك سمّوهم العبرانيين، ومعناها «الذين يعبرون» وقد تجلّي هذا الإسم بعبور الشعب اليهودي مع موسي النبي البحر الأحمر.
إبراهيم يُقيم في «بلوطة ممرة»:
وعندما وصل إبراهيم إلى كنعان أقام في شكيم، ونصب خيمته عند بلوطة ممرة. وشكيم هي مدينة نابلس الحالية، وتبعد أربعين كيلو مترًا شمال أورشليم. ومعنى كلمة «ممرة» معلِّم، وكانت في ذلك المكان أشجار بلوط كثيرة.
في الغالب كان يجلس تحت تلك الأشجار معلّمون يعلِّمون الشعب وصايا الدِّين، لذلك صار اسم ذلك المكان «بلوطة المعلم» وكانت أشجار البلوط هناك سببًا جعل إبراهيم ينصب خيامه في ظلّها. وقد سكن إبراهيم في خيمته، وذلك معناه أنه غريب.
لنتوقّف هنا، ما أجمل هذه الصورة المسيانية، ابراهيم أب الجمهور الكبير يأتي غريبًا مع زوجته العاقر، تحقيقًا للوعد الإلهيّ، وينصب خيمته في ممرا «مكان التعليم»، في الموقع الذي يجلس فيه معلّمي الشعب، ليظهر الرّب له ويُصبح هو وإمرأته مصدر حياة لكثيرين.
هكذا الربّ يسوع أتى غريبًا ينصب خيمته في وسطنا، ومن قَبِله أعطاه الحياة الآبدية، وعبر معه من الموت إلى الحياة، ونجّاه من عقر االخطيئة، تمامًا كما حصل مع ساراي، زوجة إبراهيم، الذي يعني اسمها الأميرة والنبيلة.
فإذا كان ابراهيم بني مذبحًا هناك للرّب، في المكان الذي أكل معه على مائدته، فلكي يُصبح قلبنا مذبحًا حيًّا للرّب نحن الذين نأكل جسده ونشرب دمه.
وقد يكون من أجمل لقاءات ابراهيم لقائه بملكيصادق الذي يُعتبر صورة مسبقة عن الرّب يسوع وكهنوته الآبدي، ليعود يستقبلنا الرّب بذاته ويجعلنا كهنة ملوكيّين بنعمة روحه القدّوس.
نجد سيرتهما مفصّلة في سفر التكوين، ابتداءً من الإصحاح الحادي عشر وامتدادًا إلى الإصحاح الخامس والعشرين.
مكانة إبراهيم في العهد الجديد:
يدعى إبراهيم في العهد الجديد أبًا لبني إسرائيل (أعمال 13: 26) والكهنوت اللاوي (عب7: 5) وأبًا للمسيح (مت 1: 1)- وغلاطية (3: 16) وأبًا لكل المسيحيين كمؤمنين (غلاطية 3: 29- ورومية 4: 11) أما البركات التي بورك بها فقد وردت في العهد الجديد بأسماء متنوعة منها «الوعد» (رومية4: 13) «وبركة» (غلاطية3: 14) «ورحمة» (لوقا 1: 54-55) - «القسم» (لوقا 1: 73) «والعهد» (أعمال 3: 25) وقد قال المسيح أن إبراهيم رأى يومه وفرح (يوحنا 8: 56) ويذكر العهد الجديد إبراهيم كمثال للتبرير بالإيمان (رومية4: 3-11- 18) وكذلك ذكره كمثال للأعمال الصالحة التي بها أكمل الإيمان (يع 2: 21-23) وطاعة الإيمان (عب 11: 8-17) وقد أشار المسيح إلى مكانته السامية بين القديسين في السماء (مت 8: 11 ولو 13: 28- 16: 23-31).
2024-10-06
القداس الإلهي في كنيسة الصليب…
2024-10-08
بيان صادر عن المجمع الأنطاكي…
2024-10-10
نداء الأرثوذكس في لبنان "دعوا…
2024-10-16
كلمة البطريرك يوحنا العاشر في…
2024-10-31
شبكة الفصح للسنة الميلاديّة ٢٠٢٥