ثلاثيّة عيد الفصح
ثلاثيّة عيد الفصح
من صباح الخميس العظيم إلى ليلة الفصح المجيد
لا يمكننا أن نتكلّم على خدم الأسبوع العظيم دون العودة إلى الخِدَم التي كانت تقام في كنيسة أورشليم، لما لها من أهميّة كونها المسرح الطبيعي لأحداث آلام السيّد وقيامته. فهذا سبب كافٍ لأن يكون لهذه الخِدَم كما كانت تحصل هناك تأثيرٌ كبير على خِدم الكنائس الأخرى. فما نحفظه اليوم من هذه الخدم هو حتمًا مستمدّ ممّا كان سائدًا في أورشليم في القرون الأولى. وقد كان يوما الخميس والجمعة من الأسبوع العظيم يومين حافلين بالخدم والصلوات التي كانت تبدأ في الصباح الباكر ولا تنتهي إلاّ في ساعة متأخّرة من الليل. هذا ما تخبرنا عنه الرحّالة الإسبانيّة إيجيريا (القرن الرابع) التي زارت الأماكن المقدّسة للحجّ ودوّنت ما كانت تراه. وكانت العادة أن يجتمع المصلّون في الكنائس المقامة في مختلف الأماكن المهمّة التي جرت فيها الأحداث المتعلّقة بيسوع، وأن يقيموا خِدمًا وصلوات وأن يقرأوا المقاطع الكتابيّة المناسبة. وما الأناجيل الاثنَي عشر التي نقرأها في خدمة الخميس العظيم سوى أثرٍ لهذه العادة.
كانت خدم يومَي الخميس والجمعة تنتهي صباح السبت باكرًا بتلاوة صلاة السحر، وهي أساس الخدمة التي نسمّيها "جنّاز المسيح" والتي نقيمها اليوم مساء الجمعة. أمّا يوم السبت الذي يأتي بعد يومين مفعمين بالخدم فلم يكن فيه أيّ اجتماع صلاة حتّى المساء. فبعد صلاة السحر الباكرة، كان المصلّون يذهبون إلى بيوتهم ويرتاحون طيلة النهار دون أن يأكلوا شيئًا، في انتظار المشاركة بسهرانيّة الفصح مساءً. يوما الخميس والجمعة إذًا هما أهم أيّام الأسبوع بعد يوم القيامة. ففيهما نحيي ذكرى تأسيس سرّ الشكر وذكرى بذل يسوع نفسه على الصليب، الحدث ذا الأهميّة الكبرى في حياتنا المسيحيّة، إذ هو موضوع إيماننا ورجاء خلاصنا. لذلك يتّصف هذان اليومان بكثافة الخدم المقامة فيهما وبغزارة معانيهما.
يوم الخميس العظيم
1- الخميس صباحًا
يُدخلنا يوم الخميس العظيم في السرّ الفصحيّ.
تتميّز صلوات هذا اليوم بأربعة أحداث هي:
١- عشاء الربّ الأخير مع تلاميذه. ٢- غسل الرّب لأرجل التلاميذ. ٣- صلاة الرّب في الجسمانيّة. ٤- خيانة يهوذا.
الحدثان الأوّلان يكشفان محبّة الربّ المخلّصة العالم. الحدث الثالث يكشف طاعة يسوع لله الآب حتّى الموت. بينما الحدث الرابع، أي خيانة يهوذا، فيُظهر سرّ الإثم الذي هو انحراف المحبّة وتشويهها نحو شيء لا يستحقّ المحبّة. سرّ الإثم هذا هو الذي دفع المسيح إلى الصليب.
يوم الخميس إذًا نتذكّر ساعات يسوع الأخيرة مع تلاميذه، وتسليمه ومحاكمته من قبل السلطات اليهوديّة والرومانيّة. وبالتالي الموضوع الأساسيّ في هذا اليوم هو "المحبّة إلى المنتهى":
"كان يسوع يعلم أنّ الساعة قد حانت لينتقل من هذا العالم إلى أبيه، هو الذي أحبّ خاصّته الذين في العالم، أحبّهم إلى المنتهى"(يو 13: 21). المحبّة إلى المنتهى تمتدّ إلى الموت، إلى كسر الجسد وإهراق الدم، هذه الحقيقة التي أعلنها يسوع في العشاء السريّ مع تلاميذه حيث أسّس سرّ الإفخارستيّا موصيًا إيّاهم أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه ويصنعوا لذكره ما فعل هو في هذا العشاء الأخير.
هكذا نحن في كلّ قدّاس إلهيّ نتمّم ما أوصانا يسوع بفعله. ففي هذا اليوم قدّم يسوع جسده ودمه كذبيحةٍ فدخل في آلامه. يبقى أنّ معنى العشاء السرّيّ هو أنّه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، بل بالخبز النازل إلينا من فوق زادًا للشبع. فالله يهب لنا ذاته مأكلا ومشربًا في المسيح يسوع.
أ- صلاة السحر
إحدى ترانيم صلاة السحر توجز معنى طقوس هذا اليوم. تقول الترنيمة:"لنتقدّم جميعنا بخوفٍ إلى المائدة السرّيّة ونتقبّل الخبز المقدّس بنفوسِ طاهرة ونمكث مع السيّد، لكي نعاين كيف يغسل أقدام التلاميذ وينشّفها بمنديل فنقتدي به... لأنّ المسيح نفسه هكذا أمر تلاميذه وصار قدوةً لهم، إلاّ أنّ يهوذا ذاك العبد الغاش، أبى أن يسمع وأمسى عادم التقويم".
تدعونا هذه الترنيمة إلى أن نتقدّم من المائدة السرّيّة حيث يكمن سرّ العلّيّة التي اختار الربّ أن يصنع الفصح فيها، ليؤسّس مذاق الحياة الأبديّة، ويُظهر لنا التواضع عبر غسله أرجل التلاميذ. وهي في الوقت نفسه تخبرنا عن خيانة يهوذا. تكشف الترانيم إذًا كيف يختلط النور والظلام، الفرح والحزن...هذا الاختلاط يُظهر أنّ ساعة ذروة المحبّة هي أيضًا ساعة ذروة الخيانة. يقول الإنجيليّ يوحنّا إنّه عندما كان التلاميذ مجتمعين في العليّة ترك يهوذا النور وذهب "وكان ليل"(13: 30). ذلك أنّه أراد أن يُظهر كيف أنّ الظلمة تحكّمت فيه فانحرف عن محبّة خالقه وغرق في محبة العالم الذي الثلاثون من الفضّة صورة عنه.
هكذا يُطرح على كلٍّ منّا السؤال الحاسم: هل أقبل محبّة المسيح كحياةٍ لي أو أتبع يهوذا إلى ليله المظلم؟ هل حبي للسيّد هو مثل حبّ يوحنّا الذي اتّكأ على صدره أم هو مثل حبّ يهوذا للعالم ولما في العالم، هذا الحبّ الذي يلقي صاحبه في الليل، في الظلمة البرانيّة؟
من جهة أُخرى يحذّر الربّ بطرس أنّه سينكر سيّده ثلاث مرّات قبل صياح الديك.
إنجيل السحر يصفعنا إذًا بخبرَي خيانة يهوذا وإنكار بطرس: تلميذين من الإثني عشر! فنزداد يقينًا أنّنا كلّنا في أيّ موقعٍ كنّا، تحت الفحص دائمًا. أمام هذه الصفعة المؤلمة، ما من أحدٍ يمكنه أن يزكّي نفسه. فهو إمّا أن يغلق يديه وينصرف مع يهوذا هاربًا في الليل ويشنق نفسه، أي يرفض الصليب، أو يعود مع بطرس فيبكي بكاءً مرًّا وبذلك يُعمَّد بدموع التوبة فيستحقّ أن يعاين القيامة.
ب- القدّاس الإلهيّ
يبدأ هذا القدّاس بصلاة الغروب. تشدّد فيها الاستيشرات التي تُقرأ على "يا ربّ إليك صرخت" على خيانة يهوذا:"إنّ يهوذا العبد الغاش، التلميذ المغتال، الصديق المحتال، قد استبان من أفعاله، لأنّه كان يتبع المعلّم ويضمر بذاته التسليم...".
ثمّ نقرأ بعد الإيصودن ثلاث قراءات.
- القراءة الأولى: من سفر الخروج وهي تتكلّم عن حضور الله في جبل سيناء أمام شعبه. وكان موسى قد أوصى الشعب:"كونوا مستعدّين لليوم الثالث"، وكان الشعب قد غسلوا ثيابهم وتطهّروا. وهذه صورةٌ عن قيامة المسيح في اليوم الثالث وعن ظهوره لتلاميذه بعد الفصح وعن حضوره بيننا في سرّ الإفخارستيّا، وعن الطهارة التي علينا أن نتحلّى بها.
- القراءة الثانية: من سفر أيّوب تعرض محاورة الله أيّوب وجواب هذا الأخير:"إنّي نطقت بما لا أدرك بمعجزات تفوقني ولا أعلمها". هذه المعجزات العظيمة قد تمّت بإعطاء المسيح لنا جسده ودمه، وبصلبه وقبره وقيامته
- القراءة الثالثة: مأخوذة من النشيد الثالث من أناشيد العبد المتألّم التي نقرأها عند إشعياء النبي. هذه الأناشيد تتكلّم على شخصٍ مطيع لله يُسرّ الله بآلامه لأنّه عبرها يحصل الخلاص لكثيرين. نبوءات إشعيا عن هذا العبد المتألّم تنطبق على يسوع بصورة مذهلة، ما دفع الكنيسة إلى إطلاق لقب الإنجيليّ الخامس على إشعياء. ونقرأ في هذا النشيد: "...بذلت ظهري للسياط، وخدّيّ للّطمات وما رددت وجهي من خزي البصاق عليه...".
- الرسالة:
هي مأخوذة من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس حيث يتكلّم الرسول بولس عن الاجتماع الإفخارستيّ، وعن عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه حين أسّس سرّ الإفخارستيّا. وينهي كلامه بقوله:" كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الربّ إلى أن يجيء".
- الإنجيل:
يشعّ إنجيل قدّاس هذا اليوم العظيم، المأخوذ من الأناجيل الأربعة، بخبر أنّ الربّ إنّما هو محيي العالم بتقديمه لنا جسده ودمه المباركَين. إنجيل طويل، وهو يشرح عن العشاء الأخير وخيانة يهوذا والقبض على يسوع في البستان.
إنّه أطول أناجيل السنة. هو يُرينا أن ليس من توبةٍ فعليّة لا يُنعشها قبول "سرّ الشركة" أبدًا.
لذا عوض الشاروبيكون أي "أيّها الممثّلون الشاروبيم..."، ننشد "إقبلني اليوم شريكًا لعشائك السرّيّ يا ابن الله لأنّي لست أقول سرّك لأعدائك ولا أقبّلك قبلةً غاشةً مثل يهوذا...". ونكرّرها قبل المناولة وأثناءها.
هكذا نحن اليوم نحيي تأسيس العشاء السرّيّ صباحًا في قدّاس القدّيس باسيليوس الكبير فنصبح جسد المسيح. يصير جسده جسدنا ودمه دمنا كما في كلّ قدّاس، ولكنّه هنا مقرون بصورة خاصّة بذكرى العشاء السرّيّ. هذا العشاء في معناه الأخير يدلّ على أنّ يسوع أعطى ذاته كطعامٍ حقيقيٍّ للإنسان لأنّ الحياة التي ظهرت فيه هي الحياة الحقيقيّة.
وإذا ما تعلّمنا في هذا العشاء التواضع بغسل المعلّم أرجل التلاميذ نرجوه نحن أن يمدّنا بتواضعه حتّى ننسحق أمام الاخوة حتىّ يعلو المسيح وحده.
- طقس غسل الأرجل:
يقيمه عادةً في بعض الكنائس الأسقف أثناء تلاوة الإنجيل الذي يروي الحدث. هو يغسل أرجل اثنَي عشر كاهنًا، فيذكّر بمحبّة السيّد التي هي أساس الحياة الكنسيّة والتي تطبع كلّ العلاقات فيها، ويؤكّد قول الربّ "الكبير فيكم ليكن كالأصغر والمتقدّم كالخادم"(لو22: 6-26).
2- الخميس مساءً (سحر الجمعة)
عند المساء ندخل من نور الخميس العظيم إلى ألم الجمعة، يوم آلام المسيح وموته ودفنه، إذ يبدأ يوم الجمعة الليتورجيّ مساء الخميس بخدمة أناجيل الآلام التي هي صلاة سحر الجمعة. فكما تبعنا يسوع في يوم الخميس العظيم إلى العليّة، نتبعه في يوم الجمعة العظيم إلى الجلجلة.
الخدمة الطقسيّة لهذا اليوم قديمةٌ جدًّا، تعود نواتها إلى العصور المسيحيّة الأولى، إلى صلوات كنيسة أورشليم كما سبقت الإشارة في المقدّمة. وقد ضمّت ثلاثة عناصر:
- الأوّل يتألّف من تراتيل وقراءات وزيّاح ليليّ من جبل الزيتون إلى كنيسة القيامة حيث يوجد قبر المسيح؛
- الثاني يتضمّن السّجود لبقايا الصليب الكريم؛.
- الثالث يتضمّن الصلوات والقراءات في مكان الصلب نفسه.
هذه النواة الليتورجيّة الأورشليميّة وبتأثير الترتيب الطقسيّ البيزنطيّ أدّت في القرن التاسع إلى تكوين ما نعرفه اليوم بخدمة آلام المسيح، حيث الأنديفونات، الكاثسماطات، قراءة الأناجيل الإثني عشر.
هذه البنية الدراميّة للتسابيح تساعد المؤمنين على الغوص في المعنى العميق لآلام المخلّص وموته.
فهذا اليوم ليس فقط مجرّد رمز للصلب وتذكار له، فهو لا يتوقّف عند أمور ماضية. إنّه يوم يعلو فيه الشر ولكنه ينهزم على أقدام الرّب يسوع.
صحيح أن الشرّ لم يزول ويولّد خطايا جمّة وأصبح شبه قاعدة أساسيّة في هذا الدهر ولكنّه مهزوم.
وأمام هذا الحدث الخلاصي الذي تّممه الرّب يسوع المسيح بفدائه الطوعي على الصليب يُطرح السؤال التالي: نحن الذين نسمّي أنفسنا مسيحيّين، ألا نجعل غالبًا منطقنا كمنطق هذا العالم الذي حكم على يسوع بالموت؟
في أيّ جانب كنّا سنقف لو كنّا عائشين في أورشليم أيّام بيلاطس؟ هذا هو السؤال الذي يتوجّه إلينا مع كلّ كلمة من خدم الجمعة العظيمة.
هذا اليوم هو يوم دينونة هذا العالم الحقيقيّة لا الرمزيّة، ويوم دينونتنا الحقيقيّة لا الطقسيّة.
إنّه كشف لطبيعة هذا العالم الذي فضّل ولا يزال يفضّل الظلمة على النور، الشرّ على الخير والموت على الحياة. إنّ هذا العالم الذي أدان المسيح للموت أدان نفسه للموت. ونحن بقدر ما نقبل روحه وخطيئته وخيانته لله بقدر ما نكون مدانين.
ويبقى هذا اليوم يوم الفداء بامتياز، فموت المخلّص قد ظهر موتًا خلاصيًّا لنا. موت المسيح هو ذروة الكشف عن رحمته ومحبّته. وبالنهاية هو خلاصيٌّ لأنّه يحطّم نبع الموت نفسه: الشرّ. فخلال آلامه كلّها، كان المسيح وحده المنتصر لأنّ الشرّ لا يستطيع أن يفعل أيّ شيء ضدّه. وهذا هو السرّ المزدوج ليوم الجمعة العظيم، السرّ الذي تظهره الخدمة وتجعلنا نشترك فيه:
فمن جهةٍ هناك التشديد الدائم على آلام الربّ كخطيئة الخطايا. ففيه نتوغّل مع الربّ في آلامه التي تقرأها علينا الكنيسة ١٢ قراءة كما سبقت الإشارة بدءًا من خطاب الوداع في يوحنّا، حيث يعذب كلام السيّد عن نفسه وعن الآب والروح المعزّي والكنيسة الطالعة من جنبه المطعون. القراءات الأخرى تخبرنا عن كلّ ما جرى للربّ: القبض عليه، محاكمته، والآلام (البصاق والسياط، والتقريعات) التي اكتملت بصلبه ودفنه.
نحن نقرأ الأناجيل الإثني عشر المتعلقّة بآلام الربّ كما وردت عند الإنجيليّين الأربعة، كي لا يفوتنا شيء من بهاء حبّ الربّ لنا.
- التطواف بالصليب:
بعد تلاوة الإنجيل الخامس يُطاف بالصليب المقدّس أثناء ترنيم :"اليوم عُلّق على خشبة" التي هي على نفس وزن " اليوم يولد من البتول" التي نرتّلها في عيد ظهور الله في الجسد المعروف شعبيًّا بعيد الميلاد.
بعد التطواف يؤتى بهالصليب إلى وسط الكنيسة حيث يُثبّت في موضعه. نقول "اليوم عُلِّق على خشبة" للتعبير أنّه لم يبقَ زمانٌ يفصلنا عن موت السيّد المبارك. اليوم يموت من أجلنا لنحيا بالإيمان به ونفهم أنّنا نرث اليوم ثمار الخلاص بحيث نرجو السيّد أن يُنزل علينا خلاصه ولا نبقى متردّدين بينه وبين خطايانا. وفي نهاية الخدمة يسجد المؤمنون أمام مظاهر تواضع السيّد الطوعيّة.
لكنّ هذا الجوّ المفعم بالرهبة لا يحرمنا من فسحة رجاء إذ من الجهة الأخرى كلّ هذه القراءات تجعلنا نعيش الفرح وسط هذه الآلام منتظرين خلاصنا بالصليب. من هنا سُمّيَ هذا اليوم في الكنيسة الأولى "فصح الصليب"، لأنّه هو بالواقع بداية الفصح.
فذبيحة الحبّ التي تهيّء النصر الأخير تجعله حاضرًا منذ البداية. فمن قراءة الإنجيل الأوّل (يوحنّا 13: 31 -18: 1) التي تبدأ بإعلان المسيح الجليل"الآن يتمجّد ابن الإنسان ويتمجّد الله فيه" إلى الاستيشارة في آخر الخدمة هناك ازديادٌ للنور ونموٌّ بطيء للرجاء واليقين أنّ "الموت سيحطّم الموت": "إذ رأتك الجحيم المهزوء بها جدًّا يا منقذ الكلّ في قبر جديد موضوعًا من أجل الكلّ ارتاعت خائفة، وأبوابها وأقفالها حُطِّمت تحطيمًا والقبور فُتحت والموتى نهضوا والفرحان آدم إذ ذاك يا محبّ البشر ناداك شاكرًا المجد لتنازلك".
يوم الجمعة العظيم
1-الجمعة صباحًا:
سُمّي هذا اليوم في الكنيسة الأولى بـ "فصح الصليب" لأنه هو بالواقع بداية الفصح أو العبور الذي سيتّضح في روعة صمت السبت العظيم وفرح يوم القيامة.
أ-الساعات الملوكية
صبيحة الجمعة العظيمة تتلى خدمة "الساعات الملوكية" التي تأخذ محل القداس الإلهيّ. نحن نمتنع عن إقامة الذبيحة الإلهيّة في هذا اليوم لأنّ يسوع نفسه يقدَّم على الصليب ذبيحة حقيقيّة من أجل العالم. عُرفت هذه الخدمة بـ"الساعات الملوكية" لأنّ "الملك" أي المسيح نفسه قد طبع بمراحل آلامه هذه المحطات المميّزة من الصلاة الطقسية.
خدمة الساعات تضم أربع ساعات هي الساعة الأولى والثالثة والسادسة والتاسعة.
تتضمن كلّ ساعة ثلاثة مزامير، وقراءة من العهد القديم ثمّ رسالةً وإنجيلًا. في الساعة الأولى يتلى المزمور ٢٢ الذي صلّى يسوع الآية الأولى منه على الصليب: "إلهي، إلهي لماذا تركتني؟".
هذا المزمور يصف بصورة دقيقة ما حصل مع يسوع على الصليب: "كلّ الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه وينغّصون الرأس قائلين اتّكل على الربّ فلينجّه...ثقبوا يديّ ورجليّ... يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون". رغم أنّ هذا المزمور يبدأ بهذه الصرخة التي تُظهر حزن المصلّي ويأسه لشعوره أنّ الله تخلّى عنه، إلاّ أنّ المصلّي في نهاية المزمور يدعو إخوته إلى تسبيح الربّ الذي خلّصه:"أُخبر باسمك إخوتي. في وسط الجماعة أسبّحك. يا خائفي الربّ سبّحوه...لأنّه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين ولم يحجب وجهه عنه بل عند صراخه إليه استمع".
هذا المزمور ممتلئ إذًا بالرجاء بخلاص الربّ رغم بدايته التي قد تُظهر عكس ذلك. من هنا نفهم أنّ يسوع كان يصلّي على الصليب واضعًا كلّ ثقته بالله الآب.
وتشير القراءة من سفر زخريّا النبي إلى الثلاثين من الفضة التي رُميت في الهيكل مثل فضة يهوذا.فزخريّا كان قد كلّفه الربّ أن يرعى الغنم وإذ طلب إلى تجّار الغنم أن يعطوه أُجرته، أعطوه ثلاثين من الفضّة وهي ثمن العبد، رغم أنّهم كانوا يعرفون أنّ زخريّا كان يكلّمهم بكلمة الله. فقال له الله:"ألقها (أي الثلاثين من الفضّة) إلى الفخّاريّ ثمنًا كريمًا ثمّنوني به". هذه النبوءة تحقّقت بيسوع الذي بيع بثلاثين من الفضّة، أي بثمن عبد، ألقاها يهوذا في النهاية في الهيكل.
اختيرت الرسالة الى أهل غلاطية (6: 14-18) بسبب الآية الأولى منها: "حاشا لي أن أفتخر إلّا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا صُلبت للعالم". طبعًا هنا نجد التركيز على أهميّة الصليب وعلى مركزيّته في حياتنا. أما الإنجيل (متّى 27: 1-56) فيروي حادثة الآلام منذ المحاكمة أمام بيلاطس حتّى الهزّة الأرضية التي تبعت موت يسوع. وتربط حادثة ندم يهوّذا وشراء حقل الدم الإنجيل بالقراءة من زخريّا.
في الساعة الثالثة، يُقرأ مقطع من النشيد الثالث من أناشيد عبد الربّ التي ذُكرت سابقًا (إشعيا50: 4-11) وهو يذكر الآلام وبالأخص الآية التالية: "قد بذلت ظهري للسياط وخديّ للطمات وما رددت وجهي من خزي البصاق عليه والربّ ربّي صار معيني. لهذا السبب لم استحِ...". تتكلّم الرسالة إلى أهل رومية (5: 6-11) على الفداء: "إذ كنّا خطأة بعد مات المسيح من أجلنا... قد صولحنا مع الله بموت ابنه". وبالطبع التركيز هنا على موت يسوع الخلاصيّ الذي صالحنا مع الله. ويبدأ الإنجيل (مرقس 15: 16-41) عند وضع إكليل الشوك على رأس يسوع حتّى موته وإيمان قائد المئة.
في الساعة السادسة، نقرأ نبوءة إشعياء الشهيرة (52: 13-54: 1) والتي تصف "العبد المتألّم"، وهذا هو النشيد الرابع من أناشيد عبد الربّ: "... صورته مهانة وناقصة أكثر من بني الناس، إنسان إذ كان في جراحه ويعرف أنّه يحتمل وجعًا... هذا يحتمل خطايانا ويتوجّع لأجلنا... جُرح لأجل خطايانا وتوّجع بسبب آثامنا... ونحن بجراحه شُفينا... سيق كالنعجة إلى الذبح... كالخروف أمام الجزار لم يفتح فاه... احتمل خطايا كثيرين وأُسلم لأجل خطاياهم...". أما الرسالة (عبرانيين 2: 11-18) فقد قُرأت في برامون عيد الميلاد وهي تُقرأ اليوم، في الساعة السادسة بسبب الآيتين الأخيرتين عن يسوع الذي "كان ينبغي أن يكون شبيهًا بإخوته في كلّ شيء ليكون رئيس كهنة رحيمًا أمينًا فيما لله حتّى يُكّفر خطايا الشعب لأنّه إذ كان قد تألّم مُجَرّبًا فهو قادر أن يُغيث المصابين بالتجارب". مرّة جديدة نجد التركيز على آلام الربّ من أجلنا. ثمّ نقرأ من إنجيل لوقا ( 23: 32-49) من الصلب إلى موت يسوع.
في الساعة التاسعة، يبدأ المزمور ٦٨ بعبارات تتناسب والآلام: "خلّصني يا الله فإنّ المياه قد دخلت إلى نفسي...". نرتل في هذه الساعة "اليوم عُلّق على خشبة" مرّة ثانية أمام المصلوب. الآية الثانية في القراءة المأخوذة من سفر إرميا النبيّ (11: 18-12: 5، 9-10، 14-15) بالغة الأهميّة إذ تشير هي أيضًا إلى آلام الربّ "وأنا كخروف بريء من الشرّ مسوقٍ إلى الذبح...". ثمّ تحثّنا الرسالة إلى العبرانيين على التمسّك بالإيمان والرجاء ذلك أنّ المسيح افتدانا بدمه ليفتح لنا أبواب الملكوت(10: 19-31): "إذ لنا ثقةٌ بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقًا جديدًا حيًّا قد كرّسه لنا بالحجاب أي بجسده...". ويروي الإنجيل (يوحنا19: 23-37) الأحداث من اقتسام ثياب يسوع إلى طعن جنبه بالحربة.
ب-صلاة الغروب
تلي "الساعات الملوكيّة" صلاة الغروب، وتُسمّى أيضًا خدمة "الدفن" أو "إنزال المصلوب". فبعد المزامير والتراتيل تُقرأ ثلاث قراءات من العهد القديم. القراءة الأولى من سفر الخروج (33: 11-23)، قال الله لموسى: "... فإذا جاز مجدي أجعلك في ثقب الصخرة وأستر عليك بيدي إلى أن أعبر...". في زمن موسى كان من المستحيل أن يعاين بشرٌ وجه الله، واليوم مع يسوع لا نرى فقط أنّ الله دخل عالمنا من خلال تجسّده وصار منظورًا، بل نراه أيضًا يدخل نطاق الموت ليحطّمه ويقيم المقيّدين فيه. القراءة الثانية من سفر أيّوب وهي تنهي قراءات سفر أيّوب التي كنّا نقرأها خلال الصوم. نسمع قصّة ازدهار أيّوب في آخر أيامه ثمّ وفاته والإعلان عن قيامته: "... أنّه سيقوم مع الذين يقيمهم ربنا". ونذكر أن بلايا أيّوب ثمّ تعزيته تصوّر مسبقًا آلام المسيح. القراءة الثالثة من نبوءة إشعيا المتعلقّة بالعبد المتألّم التي سبقت قراءتها في الساعة السادسة، نظرًا لأهميّتها.
بعد قراءات العهد القديم تأتي الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس(1: 18- 2: 2): "نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا، عثرةً لليهود و جهالةً للأمم... لأنّني حكمت ألاّ أعرف بينكم شيئًا إلاّ يسوع المسيح وإياه مصلوبًا". من جديد نجد التركيز على المسيح المصلوب الذي هو فحوى البشارة، فحوى الإنجيل. يلي ذلك الإنجيل وهو أيضًا مجموعة نصوص تبدأ من تسليم يسوع الى بيلاطس وتنتهي بوضعه في القبر. في نهاية هذا الإنجيل وعندما يصل الكاهن إلى عبارة "أخذ يوسف الجسد ولفّه بكتّان نقيّ..." يُنزل المصلوب عن الصليب، إن كان هناك من إمكانيّة (إذ هناك صلبان لم يُكتب (يُرسم) المصلوب عليها مباشرة، بل على خشبة أخرى لها شكل المصلوب، تعلّق على الصليب الأساسيّ) ويلفّه بالكتان ويدخله إلى الهيكل، أو يلفّ الصليب إن كان المصلوب مكتوبًا(مرسومًا) عليه مباشرة.
في نهاية الصلاة وعند ترتيل: "أيها المتردّي النور كالسربال..." يقام زيّاح بالإبيتافيون (وهو قطعة مستطيلة من القماش رسم عليها المسيح ميتًا) يتقدمه الإنجيل محمولًا باليد (لأن المدفون هو الكلمة) حتّى وسط الكنيسة حيث يوضع الإبيتافيون على "النعش" المزيّن بالأزهار ويوضع عليه الإنجيل. وبعد نشيد سمعان الشيخ: " الآن تطلق عبدك أيها السيد..." تنتهي الخدمة بطروبارية: "إن يوسف المتقي أحدر جسدك الطاهر من العود..."
يوم الجمعة العظيم يجعلنا نقف وجهًا لوجه أمام يسوع المصلوب من أجل خلاصنا. فيه نقابل سر الفداء بالتوبة وتلقّي المغفرة. فهذا اليوم لن يثمر فيّ إلّا إذا عشت توبة صادقة عند قدمي يسوع وكان لي هذا اليوم يوم حزن مقدّس. وكما أنّه من قمة الصليب أعلنت المغفرة إذ قال الربّ للّص: "اليوم تكون معي في الفردوس"، كذلك عليّ أن أجتهد لأحصل من شفتي المخلص على كلمة مغفرة.
وفي النهاية يجب أن أضع الصليب في مركز حياتي كأداة ظفر. جَعْلُ ذبيحة يسوع في مركز الحياة والفكر والإرادة، والنظر إلى البشر والأشياء من وجهة نظر الصليب، هذه هي التوبة الحقيقيّة التي تفرض تغييرًا جذريًّا لكامل حياتنا بحيث يصبح يسوع المصلوب المصفاة التي يمرّ كلّ ما في حياتنا عبرها. وحين يفهم المرء "مركزيّة" الصليب يكون ذلك اليوم أهمّ يوم في حياته. فهل يكون لي يوم الجمعة هذا يوم ولادة جديدة؟
2-الجمعة مساءً (سحر السبت):
كما يقول سنكسار هذا اليوم، تقيم الكنيسة تذكار "دفن الجسد الإلهي ونزول ربّنا ومخلصنا إلى الجحيم". فبعد مزامير السحر، نرتل "قانونًا" يتألّف من تسع أوديات نجد فيها موضوعات هذه الخدمة كلّها، من الجنازة إلى الغلبة على الموت، تتكرّر وتتعمّق. بعد الأودية السادسة نقرأ في القنداق والبيت أنّ المسيح سيقوم في اليوم الثالث. فمن الآن وصاعدًا يضيء في الخدمة فرح القيامة. إنّنا ما نزال واقفين أمام القبر ولكنّه ظهر قبرًا محييًا. فالمسيح الذي هو الحياة يرتاح فيه. مرّةً ثانيةً، وكما في سفر التكوين، في اليوم السابع، يوم الراحة، يرتاح الخالق من كلّ أعماله. يرتاح بعد أن تمّم العمل الأخير وهو القضاء على الموت بالموت وافتداء الجنس البشريّ. الآن يظهر المعنى الكامل والعمق الروحيّ لليوم السابع كيوم إنجاز للراحة الإلهيّة بإتمام الفداء وإعطائنا الخلاص. وهذا ما تعود وتؤكّده ترتيلة "إنّ موسى العظيم قد سبق فرسم هذا اليوم سرّيًّا بقوله: "وبارك الله اليوم السابع"، لأنّ هذا هو يوم السبت المبارك، هذا هو يوم السكون والراحة، الذي فيه استراح ابن الله الوحيد من كلّ أعماله لمّا سَبَتَ بالجسد بواسطة سرّ التدبير الصائر بالموت...". عند انتهاء الأودية التاسعة يخرج الكهنة والشمامسة من الهيكل ويقفون أمام النعش. وعندها نرتّل التقاريظ وهي مجموعة قطع مقسمة إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الأوّل: "يا يسوع الحياة في قبر وضعت..."
الجزء الثّاني: "نعظمك باستحقاق يا معطي الحياة..."
الجزء الثالث: "كامل الأجيال تقرب التسبيح..."
ويُرش المؤمنون بماء الورد عند ترتيل "حاملات الطيب جئن صبحًا قبرك ...". فها الحزن والفرح يتصارعان، وها هو الفرح على وشك أن يربح، ولأوّل مرّة تطنّ ترنيمة النصر والفرح: "جمع الملائكة انذهل متحيّرًا عند مشاهدته إيّاك محسوبًا بين الأموات أيّها المخلّص، وداحضًا قوّة الموت ومنهضًا آدم معك، ومعتقًا إيّانا من الجحيم كافّةً". وبعد المجدلة الكبرى يجري زيّاح بالإبيتافيون والإنجيل. ثمّ يُعاد الإبيتافيون إلى النعش ليقبّله المؤمنون في نهاية الصلاة ومن ثمّ يتمّ إدخاله ووضعه على المائدة حيث يبقى إلى وداع الفصح.
ثمّ تتلى نبوءة من سفر حزقيال (37: 1-14) وهي رؤيا عن العظام الجافّة التي يأتي الروح ويكسوها بالجلد ويحييها. إنّه الموت منتصر في العالم، إنّها الظلمة. ولكنّ الله يعلن للنبيّ حزقيال أنّ الموت ليس مصير الإنسان الأخير. العظام اليابسة ستسمع كلمة الربّ والموتى سيحيون. هذه القراءة إذًا تعلن القيامة. بعد هذه القراءة يُعلن البروكيمنن دعاء القيامة أيضًا:"قم أيها الربّ إلهي...". كيف ستحدث هذه القيامة؟ تجيبنا على هذا الرسالة التي تُقرأ في هذا اليوم وهي تدمج مقطعين من رسائل بولس (1كورنثوس 5: 6-18 وغلاطية 3: 13-14) في مقطع واحد. وأما النصّ الأساس فهو: "إن المسيح الذي هو فصحنا قد ذُبح. فلنُعيّد لا بالخمير القديم ولا بخمير الشّر والفساد، بل بفطير الطهارة والحق". فالمسيح هو خميرة قيامة الكلّ. كما أنّ موته يحطّم أساس الموت نفسه، كذلك قيامته هي عربون قيامة الكلّ لأنّ حياته هي نبع كلّ حياة. ويتبع هذه الرسالة المقطع الإنجيلي الأخير من الإثني عشر مقطعًا التي تليت يوم الخميس العظيم (متّى 27: 62-66)، حين يوافق بيلاطس على طلب الكهنة بأن يختموا قبر يسوع ويحرسوه. وتنتهي الخدمة بطلبة وصلوات الختام العادية.
هنا تنتهي هذه الفترة من الأسبوع العظيم المتعلقة بآلام المسيح ونبقى أمام القبر الذي حفظ بختم الحجر وإقامة الحرس. نبقى منتظرين بمحبة ورجاء وإيمان، منتظرين فصح المسيح، منتظرين القيامة العامة، مهيئين أنفسنا ليوم ملكه الذي لا يغرب...
السبت العظيم
تاريخيًّا
في سبت النور، كما سبقت الإشارة، كانت تُقام خدمة السحر باكرًا جدًّا، ولم يكن هناك صلوات أثناء النهار بل كانت تُقام سهرانيّة تمتدّ من مساء سبت النور إلى صباح الأحد حيث يُحتفل بقدّاس الفصح. ويتّضح من التاريخ الكنسيّ أنّ المعموديّة كانت جزءًا أساسيًّا منها. فالوثنيّون واليهود الذين كانوا يريدون اعتناق المسيحيّة، كانوا يخضعون لفترة تعليم تمتدّ من سنة إلى ثلاثة سنين، يتعلّمون فيها عقائد الإيمان المسيحيّ وكانوا يُعرفون بالموعوظين، لأنّهم كانوا يشاركون في القدّاس الإلهيّ حتّى الوعظة ضمنًا، ومن ثمّ يخرجون من الكنيسة لأنّه لم يكن يحقّ لهم بعد الاشتراك بالأسرار الإلهيّة.
ويتّضح لنا من خلال كتابات الرحّالة الإسبانيّة إيجيريا أنّ التعميد أثناء الفصح كان متّبعًا في معظم الكنائس، إذ عندما تصف السهرانية الفصحية في أورشليم وكيفيّة تتميم سر المعموديّة تعلّق قائلة إنّ هذا مشابه تمامًا لما كان يحصل في كنيسة روما. كان المزمعون أن يتقبّلوا المعموديّة يتوجّهون عشيّة السبت العظيم إلى بيت المعمودية الواقع على مسافة صغيرة من الكنيسة ليتقبّلوا المعموديّة، في حين كان المؤمنون يتلون في الكنيسة خمس عشر قراءة من العهد القديم تتعلّق بالعماد والقيامة. بعد اقتبالهم المعمودية، كان المعمّدون الجدد يخرجون من بيت المعمودية وهم مرتدون لباسًا أبيض وحاملون شموعًا تدلّ على استنارتهم ويدخلون الكنيسة وسط ترتيل"أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم ، المسيح قد لبستم"(غلا 3: 27). ما زال أثر هذا موجودًا في قدّاس سبت النور وأحد الفصح، إذ نرتّل "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم..." عوض التريصاجيون "قدّوس الله...". ومن هنا أيضًا نقوم بزياح بالشموع مع ترتيل "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم..." في خدمة المعموديّة.
الارتباط العضويّ بين المعموديّة والقيامة يثبته أيضًا نصّ الرسالة الذي يُتلى في قدّاس سبت النور وفي خدمة سرّ المعموديّة. يقول الرسول بولس:"أما تجهلون أنّنا كلّ من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدُفنّا معه بالمعموديّة للموت حتّى كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدّة الحياة، لأنّه إن كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته".(رو 6: 3-5). هذا النصّ نفسه كان يُتلى على مسامع المعمّدين الجدد.
هذا الارتباط بين المعموديّة والقيامة يظهر أيضًا بوضوح عند نهاية التلاوة الإنجيليّة في قدّاس سبت النور إذ يقول الربّ للتلاميذ:"إذهبوا الآن وتلمذوا جميع الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس"(متّى 28: 29 ). هذا المقطع الإنجيليّ يُقرأ هو نفسه في خدمة المعموديّة الحالية. هكذا يظهر بأجلى بيان ارتباط خدمة سبت النور كما نتمّمها اليوم بخدمة المعموديّة في الكنيسة الأولى، ويظهر أنّ خدمة سبت النور لم تكن منفصلة عن أحد الفصح، بل كانتا خدمةً واحدةً تتمّ في السهرانيّة الفصحيّة. المعطيات التي تدلّ على إقامة المعموديّات في الليلة الفصحيّة تبدأ بالنقصان منذ القرن التاسع لدرجة أنّها تنعدم كليًّا في المرحلة اللاحقة منذ القرن الثاني عشر وما بعد.
الزمن الحاضر
اليوم نحن نقيم قدّاسًا إلهيًّا صباح السبت، ونطلق عليه اسم "قدّاس سبت النور". هذا القدّاس كان يفتتح السهرانية الفصحيّة ليلة السبت-الأحد، ثمّ كان يقام قدّاس آخر صباح العيد. ولذلك هو يبدأ اليوم بصلاة الغروب التي تندمج مع قدّاس القدّيس باسيليوس الكبير. تعلن تراتيل الغروب بداية غلبة المسيح على الجحيم والموت:"اليوم الجحيم تنهّدت صارخة: لقد كان الأجدر بي أن لا أقبل المولود من مريم، لأنّه لمّا أقبل نحوي حلّ اقتداري وسحق أبوابي النحاسيّة...فالمجد لصليبك يا ربّ ولقيامتك".
كما تُقرأ في الخدمة ثلاث قراءات فقط من أصل الخمس عشر قراءة. القراءة الأولى تذكر قصّة الخلق، وهذا يناسب خدمة المعموديّة. فمعموديّة الموعوظين، هي لهم ولادة جديدة، خلق جديد، وهي أيضًا قيامتهم من بين الأموات. القراءة الثانية تخبرنا عن يونان النبي الذي بقي في جوف الحوت ثلاثة أيّام وثلاث ليال فكان صورة لما سيتمّ مع المسيح. أمّا قصّة الفتية الثلاثة الذين طُرحوا في أتون النار لأنّهم رفضوا السجود لتمثال الذهب، فتطالعنا بها التلاوة النبويّة الثالثة، وهي ترمز إلى غلبة المسيح القائم من بين الأموات. أمّا نشيد الفتية الثلاثة فهدفه إشراك الكون بأسره في فرح القيامة. الرسالة هي للمعمودية كما سبقت الإشارة. بعد الرسالة يخرج الكاهن من الهيكل وهو يرشّ أوراق الغار على المؤمنين قائلاً : "قم يا الله واحكم في الأرض لأنّك ترث جميع الأمم"، إذ لا نطيق أن يبقى السيّد في القبر. وما نعنيه بهذا أنّ المسيح الحيّ والظافر قد تمّ إعلانه ملكًا على أهل الأرض، وأنّنا مدعوّون بقيامته أن نصير بشرًا جددًا لا عيب فينا ولا دنس بل نكون لابسين فضائل الإنجيل. ففادينا قد انتصر وأتباعه منتصرون به ولا خوف عليهم. هذا البروكيمنن يُنهي كتاب التريودي ويضعنا على عتبة القيامة. أمّا الإنجيل فهو أوّل نصّ يتحدّث عن القيامة في الأسبوع العظيم. هو يصف مجيء مريم المجدليّة ومريم الأخرى إلى القبر، وإعلان القيامة لهما على لسان الملاك، وظهور الربّ لهما أيضًا، واجتماع الكهنة اليهود ورشوة الحرّاس وأخيرًا ظهور يسوع الربّ لتلاميذه المجتمعين على الجبل وتفويضه لهم أن اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم معمّدين إيّاهم باسم الآب والابن والروح القدس..."
ننتظر في السبت العظيم المقدّس يوم الفصح العظيم ونمتدّ إليه. يبقى أنّ شرط رؤيتنا إيّاه هو:"أن يصمت كلّ جسد بشريٍّ...ولا يفتكر في نفسه فكرًا أرضيًّا". هذا التحذير من الفكر الأرضيّ، الذي تُسمعنا إيّاه ترتيلة الدخول الكبير في القدّاس الإلهيّ والتي نقولها عوض الشاروبيكون، أي أيّها الممثّلون الشاروبيم، يذكّرنا في آخر يوم قبل الفصح بأنّ التوبة، كما ذقنا معانيها طيلة الأسبوع، هي تلك التي تمكّننا وحدها من التأهّب لاستقبال الفصح العظيم.
المصادر
إيجيريا يوميّات رحلة. أقدم النصوص المسيحيّة. سلسلة النصوص الليتورجيّة 5. منشورات مجلس كنائس الشرق الأوسط.1987.
المراجع
1-شميمن،الأب ألكسندر. الصوم الكبير.المنشورات الأرثوذكسية.طرابلس. 1986.
2-موسي، المطران سلوان. سرّ الآلام. إيماننا في الكلمة والأيقونة 3. تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع.2007.
3-رعيّتي. أبرشيّة جبيل والبترون للروم الأرثوذكس.
هذه الخدمة كانت تُقام في الأصل مساء الخميس ولذلك يبدأ القدّاس الإلهيّ بصلاة الغروب.
راجع هذه الخدمة في كتاب التيبيكون "ترتيب الغسل الإلهيّ الشريف".
هذا الطواف دخل إلى الكرسيّ الأنطاكيّ في القرن التاسع عشر.
''صلوات الأسبوع العظيم المقدس وأحد الفصح''
2024-09-22
القداس الإلهيّ في دير القديس…
2024-10-06
القداس الإلهي في كنيسة الصليب…
2024-10-08
بيان صادر عن المجمع الأنطاكي…
2024-10-10
نداء الأرثوذكس في لبنان "دعوا…
2024-10-16
كلمة البطريرك يوحنا العاشر في…