تذكار القدّيسة الشهيدة في البارّات ففرونيّا…



06-25

 تذكار القدّيسة الشهيدة في البارّات ففرونيّا (أوائل القرن الرابع) 

إنّ ففرونيّا هي تلك الشابة البتول التي زيّنها الله بجمال النفس وجمال الجسد، ثمّ اختارها لترفل بأرجوان دمائها الزكيّة، فتصبح عروسةً بهيّةً تليق ببهائه وقداسته وعظمته الإلهيّة. هي من الفتيات البارّات، ومن العظيمات بين الشهيدات. فهي زميلة لكاترينا وبربارة وثاوذورة، اللواتي سوف يبقين مجد البشريّة وزينة الكنيسة وموضوع فخار للبنات المسيحيّات.

 

ففرونيّا راهبة الدير 

febronia كان في مدينة سيبا، وتدعى نصيبين في شمالي سوريا، دير للراهبات كانت الشمّاسة ﭙلـاـتونيا قد أنشأته وجعلت له قانونًا شديدًا، وجمعت فيه نحو خمسين راهبة. وكانت تلك البتولات يتبارين في تقديس نفوسهنّ، بالمحافظة على تلك الفرائض الرهبانيّة. وكنّ لا يأكلن سوى مرّة واحدة في النهار، ويقضين يوم الجمعة في الكنيسة من الصباح إلى المساء، متفرّغات للتأمّل ولقراءة الكتاب المقدّس. 

ولمّا ماتت ﭙلـاـتونيا خلفتها ﭙرايينا في الشموسيّة ورئاسة الدير، وسارت على أثر الرئيسة الأولى في إدارة الراهبات بحنان وحزم، حتّى أنّ عبير القداسة كان يفوح في كلّ تلك الجهّات كلّها ويعطّرها. وكان لـﭙرايينا أخت توفاها الله بعد أن رُزقت ابنة دعتها ففرونيّا، ذات جمال رائع وحسن بارع. فضمّتها إليها. وخافت أن يصير لها جمالها سبب شقاء لنفسها ولحياتها، فعُنيت بتربيتها وتثقيفها عناية لا توصف. فكبرت ففرونيّا على التقوى وحبّ الفضيلة ونذرت للّه بتوليّتها. وعوّدتها خالتها منذ الصغر الصوم وممارسة التأمّل، فكانت تأكل يومًا وتصوم يومًا. وكانت ففرونيّا ذات أخلاق ناعمة ونفس حسّاسة وطباع لطيفة، فكانت بين يديّ خالتها عجينة ليّنة تنحو نحوها وتعمل بإرشادها. وزادت على إماتاتها، فكانت رغم كثرة صياماتها لا تأكل شبعها، ولا تشرب من الماء إلّا القليل، وتحيي ليالي برمّتها في الصلاة. ولمّا كبرت وصار الشيطان يهاجمها بالتجارب، كانت تسجد إلى الأرض وتتضرّع إلى عريسها الإلهي أن يحفظ لها زهرة طهارتها نقيّة بهيّة. وكانت لا ترقد إلّا على دفّ ضيّق، ومرارًا تنام على الحضيض.

واعتادت بعض النساء الشريفات أن يحضرن في الدير القراءة الروحيّة يوم الجمعة، ويسمعن شرح الكتاب المقدّس. فلمّا كانت ففرونيّا ذات صوت رخيم، وكانت تشرح كلام الله كأنّ الروح القدس ينطق بفمها، كلّفتها الرئيسة خالتها بتلك القراءة وذلك الشرح. ولكن خوفًا من أنّ جمالها البارع يلفت الأنظار إليها، كانت تأمرها بأن تحجب وجهها عن تلك السيّدات حتّى لا ينظرن إليها ولا يُفتنَّ بسحر عينيها. 

ففرونيّا تضحّي بدمها وحياتها في سبيل يسوع عروسها 

وثارت زوبعة الاضطهاد على أيّام الملك ذيوكلسيانس، وأخذ السيف يحصد نفوس المسيحيين حصدًا مريعًا. وأرسل القيصر إلى العراق وسوريا الشماليّة التدمريّة ثلاثة من عمّاله، وأوصاهم أن يفتكوا بالمسيحيين بلا شفقة ولا رحمة. فجاء لسماخس ومعه عمّه سالينس والقائد ﭙريمس مزوّدين بتلك الأوامر المشدّدة، وأتوا مدينة نصيبين وأخذوا يُعملون السيف في رقاب المسيحيين. إلّا أنّ لسماخس كان رحيمًا لأنّ أمُّه كانت نصرانيّة، وكان يعطف على المسيحيين، وكان ﭙريمس قريبه نظيره، إرضاءً له.

فخافت راهبات دير ﭙرايينا على عفافهنّ من شرّ الجنود الوثنيين. فتركن الدير وانزوين في البيوت عند الأهل والأقارب والأصحاب، وسكتت حركة النصرانيّة في المدينة، وامتلأت السجون من المسيحيين. أمّا ففرونيّا فكانت مريضة فلبثت في الدير، ولبثت خالتها بقربها تخدمها. وأقبلت الراهبة ﭙروكُلّا تودّع أختها، وهي تذرف الدموع الغزيرة على فراقها. فانطرحت على عنقها تقبّلها وتقول: "أذكريني في صلاتك يا أختي. فمسكت ففرونيّا بيدها وقالت لها والعبرات تخنقها: "ألا تخافين الله يا أختي، كيف يطاوعك قلبك أن تتركينا وحدنا. أنظري إليَّ فإنَّ مرضي ثقيل. فإذا توفّاني الله فإنَّ أمّنا لا تقدر وحدها أن تواري جسدي في التراب. فالبثي معنا لتقومي على الأقلّ بخدمتي الأخيرة". فأجابت ﭙروكُلّا بروح المحبّة والتضحية المسيحيّة: "طيّبي نفسي يا ففرونيّا الحبيبة أختي، فها أنا لا أتركك، إجابة لطلبك". ولبثت في الدير معها، وبقين هكذا ثلاثًا.

ما أفظع غفلات الزمان! وأين المنطق في حياة الشعوب والأفراد؟ فماذا كان يصير بأولئك الولاة لو تركوا تلك العذارى البتولات آمنات في ديرهن وعبادتهنّ؟ أما كانت تلك الفتيات سورًا للمملكة ومثلًا أعلى للفضائل والأخلاق الحميدة؟ هل كانت حياتهنّ الملائكيّة خطرًا على كيان المملكة، حتّى كان الحكّام يطاردوهنّ بالسيوف؟ ولكن حقًّا إنّ تلك الراهبة الوديعة الفقيرة الصامتة، المنحجبة وراء أسوار ديرها، هي هي التي دكّت حصون الوثنيّة وهدمت معابدها وبدّدت رجالها وقوّضت عروشها، بصلاتها وإماتاتها وعباداتها وصمتها. وقد استجاب الربّ تلك الصلاة، ولن يبطئ فيقهر تلك الجيوش الجرّارة التي تعتمد على عددها وعدّتها، ليقيم مكانها مملكة مسيحيّة ودنيا مسيحيّة وجيوشًا مسيحيّة، تطأطأ الرؤوس أمامها احترامًا وتنحني السيوف لها إكبارًا، بفضل الراهبة الصغيرة الضعيفة الجبّارة القهّارة. 

فلمّا جاء المساء، ورأت ﭙرايينا الدير أضحى خاويًا خاليًا، شعرت بقشعريرة تسري في كلّ أعضائها، فالتجأت إلى الكنيسة وسكبت أمام الربّ تضرّعاتها، وأخذت تصلّي وتبكي وتتنهّد. فأسرعت الأخت تومائيدا، وهي التي بقيت في الدير مع الرئيسة بعد أن توارت برُكلّا أيضًا، وأخذت تشجّعها وتعزّيها وتطيّب خاطرها. فقامت وأتت إلى ففرونيّا، فوجدتها مطروحة على ذلك اللوح الخشبيّ، وهي تتألّم. فعانقتها وأخذت تبكي وتقول: "يا ابنتي الحبيبة ماذا يخبّئ الغد عندما يدخل الجند علينا ويشاهدون شبابك الغضّ وجمالك الفتّان؟ إنّه لا خوف عليّ وعلى تومائيدا لأنّ شيخوختنا تشفع فينا، وسوف يذبحوننا ويحترمون عفافنا. أمّا أنت، أنت. 

فقالت ففرونيّا: "صلّي لأجلي يا أمّي، وأنت أيضًا صلّي لأجلي يا أختي. إنّ الله قادر أن ينظر إليّ وإلى حقارتي، ويعطيني القوّة والصبر، كما يجود بذلك على أصفيائه الذين يحبّونه بكلّ قلوبهم.

فقالت ﭙرايينا، والدموع تنسكب انسكابًا من مآقيها: "يا ففرونيّا ابنتي الحبيبة، لقد طالما كنتِ كثيرة الإنقياد لإرشاداتي. اذكري أنّي تسلّمتكِ من أيدي مرضعتكِ وأنتِ طفلة ابنة سنتين، وحافظتُ على نقاوة قلبك حتّى أنّي لم أكن أسمح حتّى للنساء أن ينظرنَ إليكِ. فارحمي شيخوختي ولا تجعليها عرضةً للعار، وإيّاك أن تغفلي لحظة عمّا بذلتُ في سبيلك من العناية والتربية الصالحة. اذكري كم جاهد الشهداء من قبلنا واحتملوا، رجالاً نساءً وبناتٍ أيضًا. ألا تذكرين شهامة الشقيقتين الشريفتين لـﭙيس ولاونديا، كيف سفكتا دماءَهما لأجل المسيح، فضرب الجندُ عنقَ الأولى وماتت الثانية في لهيب النار؟ ألا تذكرين أيضًا بسالة إفتروبيا، إذ لم يكن لها بعد من العمر سوى إثنتي عشرة سنة، ورغم ذلك سفكت دمها مع والدتها لأجل المسيح؟ ولكم أكبرتِ أنتِ ذاتكِ ثباتها لمّا علمتِ أنّه كان بوسعها أن تهرب وتنجو بنفسها، وأنّها آثرت أن تموت مطعونة بسهام الجند حبًّا ليسوع حبيبها. كم مرّة تكلّمتِ عن شجاعتها وأثنيتِ على فضيلتها وبسالتها. ومع ذلك لم تكن سوى فتاة صغيرة، ولم يكن لها من الثقافة الروحيّة ما حصلتِ عليه أنتِ حتّى صرت تعلّمين غيرك".

فأجابتها ففرونيّا: "أنّ كلامكِ يا أمّي هو قوّةٌ لي، وأنا أشعر بانتعاش يسري في قلبي وأحشائي. فكوني يا أمّاه مطمئنّة البال عليَّ. لأنّي لو كنت أخاف السيف والعذاب، لكنت تركت الدير وهربت. لقد كان بوسعي أن أفعل ذلك؛ ولكنّي أؤثر أن أموت شهيدة، لأسرع في ذهابي إلى من عشقته نفسي وخصّصت له حياتي. وأنّي أضع فيه رجائي فهو قادرٌ أن يبلّغني إلى ما أصبو من شرف الجهاد لأجله والموت في سبيله".

وفي الغد أحاط الجند بالدير وكسروا بابه ودخلوه عنوةً. لكن القائد ﭙرميس أدركهم ومنعهم أن يسيئوا إلى الراهبات. ثمّ التفت إلى الرئيسة وقال لها: أين الراهبات؟ فقالت: لقد انهزمن وتبدّدن فقال لها: وكان قد أشفق عليها وعلى رفيقاتها إرضاءً لخاطر صديقه لسماخس: كان الأجدر بكِ وبهاتين الإثنتين أن تذهبن أنتنّ أيضًا كما ذهبت تلك وتتوارين. ثمّ أمر الجند أن يتبعوه، وترك الدير وعاد إلى دار الولاية. فوجد صديقه لسماخس فقال له: لقد وجدنا الدير، ولكن لم نجد أحدًا سوى إثنتين من العجائز وواحدة شابة، فتركناهنّ وشأنهنّ. إلّأ أنّ الفتاة الشابة هي ذات جمال ساحر، ولولا ففقرها لأردتها لك زوجة. فقال لسماخس: معاذ الله أن أمدَّ يدًا أثيمة إلى فتاة وقفت بتوليّتها للمسيح. فسمع بذلك أحد الجنود، فنقل الخبر إلى سالينس، فاستشاط غضبًا وأرسل فقبض على ففرونيّا وأمر أن تقيّد. فجعل الجند الأغلال في يديها وفي عنقها وذهبوا بها. فأخذت ﭙرايينا وتومائيدا تتوسّلان إليهم أن يأخذوهما مع ففرونيّا، فلم يلتفتوا إليهما. فشيّعتاها بأنظارهما ودموعهما، وقالت ﭙرايينا لها: "إنّ عروسك السماوي ينظر إليكِ، والملائكة يحملون لكِ إكليلكِ. لا تخافي العذاب، علينا أن نقهر الشيطان. لا تشفقي على جسدك إذا مزّقته المجالد، لأنّه تراب ومسكنه القبر. آه من يعلمني أنّ ففرونيّا فازت بإكليل الاستشهاد!.." فالتفتت إليها ففرونيّا وقالت: رجائي في السيّد المسيح، يا أمّي، ولن أنسى نصائحك، وسوف يأتيكِ من يقول لك أنّ ابنتك كانت خليقة بك...

فأخذت ﭙرايينا تقول :"يا إلهي وسيّدي يسوع المسيح، يا من أتى إلى معونة أمته تقلا يوم جهادها، فأرسل إليها بولس الرسول ليشدّدها، هلمَّ إلى أمتك ففرونيّا وقوِّ عزائمها أيضًا في جهادها". ثم ذهبت إلى الكنيسة وأخذت تصلّي وتتضرّع.

وعلمت سيّدات المدينة بالقبض على ففرونيّا، فحزنَّ شديد الحزن عليها. فَلكَم سمعتها أيّام الجمعة تقرأ الكتاب المقدّس وتشرحه بطريقتها الأخّاذة، ولَكَم اشتهين أن ينظرن إلى جمال ذلك المحيّا المحجوب عنهنّ. فأقبلن جمعًا كثيفًا إلى دار الولاية ليشاهدن ففرونيّا ويسمعنها. وحضرت تومائيدا متخفّية، وتبادلتا الألحاظ، هي وففرونيّا. ومثلت ففرونيّا أمام الولاة، فاشرأبّت إليها الأعناق، وأخذ الناس يهمسون فيما بينهم معجبين بسحرها الفتّان. وافتتن سالينس أيضًا بجمالها، ووقعت من نفسه. فرغب إلى لسماخس أن يحقّق معها وبقي هو صامتًا يحدّق إليها ويمتّع ناظريه بحسنها.

فقال لها لِسماخس :"من أنتِ أيّتها الفتاة، هل أنتِ حرّة أم مملوكة؟ فقالت ففرونيّا بكلّ ثبات: بل مملوكة. فقال: ومملوكة من تكونين؟ فأجابت بجرأة: مملوكة يسوع المسيح. فسرى بين الجمع همس، بعضه استنكار وبعضه إعجاب وإكبار". فأردف لسماخس: وما هو اسمك: فقالت: أنا مسيحيّة حقيرة. وإذا كنت ترغب فوق ذلك أن تعرف اسمي، فإنّي أُدعى ففرونيّا. 

ولم يصبر سالينس طويلًا على السكوت، فقاطع لسماخس وقال للفتاة: وحقّ الآلهة كان عليَّ إلَّا أصبر عليكِ. لكنَّ حشمتكِ وجمال طلعتكِ أخمدا ما ثار من نيران غضبي ويلذّ لي أن أطرح عنّي صفة الحاكم لأكلّمكِ كأب وأنصحكِ وأقنعكِ. أنّني وحقّ الآلهة كنت عقدت النيّة على أن أزفّ إلى لسماخس إبنةً رومانيّة ذات حسب ونسب. لكنّي لمّا شاهدت حسنكِ وفضلكِ آثرت أن أزفّكِ إليه. وها هوذا جالس عن يميني، وليس هو بأقل منكِ من نعمة ما كنتِ لتحلمي بها. فما قولك؟

فأجابت الفتاة، والحضور سكوت كأنَّ على رؤوسهم الطير: أن لي خدرًا عرسيًّا في السماء ليس من صنع البشر. والعريس الذي اختارته نفسي أبديّ لا يموت. والمهر الذي خصّني به هو مملكته بأسرها. فلا أستطيع إذن، بل لا أريد أن أستبدله بعريس أرضي مائت. فلا تضيِّعوا الوقت سُدىً لأنه لا وعد ولا وعيد يمكنه أن يثنيني عن عزمي. 

فغضب سالينس وأمر بها. فنزع الجند عنها ثيابها، وجعلوا عليها بعض خرَق بالية، وبقيت واقفةً أمامهم شبه عارية. فقال لها: ألا تخجلين من عُريك؟ فقالت بطمأينة: ولو أعملتَ فوق ذلك في جسمي النار والحديد، فإنَّ عزمي لا يتغيَّر. أيُتاح لي أن أتألم قليلًا من أجل الفادي الذي تألم كثيرًا من أجلي ولا أفعل!

فتحاما سالينس على شرفها وقال بغضب: إنَّك ابنة عاهرة. ويلذّ لك أن تعرضي هكذا جمال جسدك على الناس لتنالي مجدًا وثناءً. فقالت ففرونيا: معاذ الله أن يكون هذا صحيحًا. يعلم يسوع المسيح أنّه ما نظر قطّ رجلٌ إلى وجهي. ولكن لمَّا كنت قد وطّنت النفس على احتمال المجالد وأنواع العذابات التي بها تتوعدني، فكان لا بدَّ لي من النزول إلى ميدان الجهاد لأصارع الشيطان الذي هو أبوك.

فاحتدم سالينس غيظًا وقال: إذا كنت ترغبين في العذاب فاحتمليه. وأمر بها، فربط الجند أطرافها الأربعة بأربعة أوتاد وعلَّقوها، وأوقدوا النيران تحتها، وانهالوا عليها يجلدونها بقساوة بربرية فيما كانت أعضاؤها تحترق. وحنقَ الحاكم عليها لمَّا رأى ثباتها. فأمر الجند، فمزَّقوا جسدها بأمشاطٍ من حديد، حتّى تناثرت لحمانها وسالت دماؤها فبللت الأرض، فيما كانت النار أيضًاتحرق أحشاءَها رويدًا رويدًا. فتنهّدت وهي في وسط ذلك العذاب البربري وقالت: "يا سيّدي يسوع المسيح، هلمَّ إلى معونتي ولا تهملني في هذه الساعة االرهيبة". فأرسلت تومائيدا إلى رئيستها تقول لها: واصلي الصلاة من أجل ففرونيا لأنَّها في شدَّةٍ لا توصف.

ولم يقدر الجمع على احتمال النظر إلى ذلك المشهد الفظيع، فخرج الكثيرون منهم والدموع تملأ عيونهم. وسألها الحاكم هل لا تزال مصرّة على عنادها، فلم تجبه بشيء. فتهددها بقطع لسانها، فقالت: إقطعه، ومدَّته له. فقامت صيحة في الحضور أن لاتفعل. فقال للجند إكسروا لها أسنانها، فكسروها. 

وحملت الوقاحة سالينس على أن يسألها من جديد هل تذعن لأوامرهز فقالت: يحرمك الله النعيم أيُّها الشيخ الخبيث، لأنك تريد ن تحرمني الوصول إلى عروسي الإلهي. أسرع وخلّصني من هذا الجسد الترابي لأنَّ الذي يحبني ينتظرني في السماء.

فأمر سالينس بها، فقطع الجند ثدييها. فصرخت بصوت عظيم وقالت: "يا إلهي وسيِّدي، ألا انظر إلى عذابي واقبل روحي بين يديك. فكانت هذه الكلمات كلماتها الأخيرة. ولبثوا يعذِّبونها بالحديد والنار. ثم قطعوا يديها ورجليها، فلم تُسمع كلمة ما، بل كانت تتلوّى دلالة على شدَّة آلامها.

وثار الشعب، وأخذ الكثيرون يشتمون الملك والآلهة. فقال لسماخس لسالينس: هلمَّ بنا، فإنَّ الغداء ينتظرنا. فأجابه بشراسة وحشية: لا أخرج من هنا حتَّى أرى روح هذه العاهرة قد فارقت جسدها. فلمَّا رآها لا تزال تتحرَّك وتنتفض، أمر الجلاد، فقطع لها رأسها، فتدحرج على الأرض. وهكذا أكملت تلك الفتاة السماوية ذبيحتها من أجل حبيبها، وطارت إلى أخداره العلوية لتنعم معه في الأفراح الأبدية.

وقام الولاة وذهبوا إلى الغداء، إلَّا أنَّ لسماخس كان قد اعتراه صداع، فترك المائدة وانزوى في مخدعه، وقام ينوح ويبكي. وخرج سالينس أيضًا ولم يأكل، وجعل يتمشّى في الحديقة ذهابًا وإيابًا وهو مضطرب. وما عتم أن أخذ يخور كالثور، ويزأر زئيرًا مخيفًا كالأسود. ثم جعل يركض على غير هدى كالمجانين، ولطم رأسه بعمود فوقع، وسال نخاع رأسه ومات. فلمَّا علم لسماخس بذلك صاح قائلًا: "عظيم إله المسيحيين. مبارك إلهُ ففرونيا، فقد انتقم من الدم البريء".

وأمر لسماخس، فحمل الجند أعضاء الشهيدة ففرونيا باحتفال عظيم وذهبوا بها إلى الدير، وسار القائد بريمس في مقدمة الموكب. فتألَّبت الجموع حول تلك الذخائر المقدَّسة، وكلٌّ يريد أن يأخذ منها قطعة بركةً له ولبيته. وكادت الجموع تتغلَّب على الجند، فشهروا سيوفهم وبددوا الشعب. ولم يستطيعوا أن يوصلو تلك الأعضاء الكريمة إلى الدير إلًّا بشقِّ النفس.

فلمَّا رأت برايينا ذلك الجسم المقطَّع إربًا إربًا، سقطت على الأرض وأخذت تنوح وتُعول وتقول: ويحي، يا ابنتي الحبيبة ففرونيا، أواه يا ففرونيا ابنتي. وجاءت بقية الراهبات وسجدن أمام تلك الذخائر المكرَّمة. وتنصَّر لسماخس وبريمس وآمنا بالمسيح.

وفي الغداة حنَّط المؤمنون الجسم، ووضعوه في نعش من الخشب الثمين، وطيَّبوه بالطيوب، وجعلوه في قبر في زاوية من زوايا الدير. وآمن بالمسيح جمهور غفير من الوثنيين، فكان ذلك اليوم يوم انتصار لففرونيا القديسة الشهيدة، ولعروسها الإلهي يسوع المسيح. وزهد لسماخس وبريمس في النيا فاعتزلاها، وذهبا إلى أحد الديورة ليتقدَّسا بممارسة الفضائل النسكية، على مثال شفيعتهما ففرونيا البتول البَّارة.

وشرَّف الله قبرها بعجائب باهرة. ويروي لنا تاريخ أعمالها أنَّها كانت كلَّ ليلة تظهر في الخورس في الكرسي الذي كان لها، وترتل صلاة الفرض مع الراهبات رفيقاتها. فأخذتهن الرِّعدة لأول مرَّة لمَّا رأينها، وركضت برايينا إليها لتعانقها وهي تقول: ففرونيا ابنتي الحبيبة. لكنَّ القديسة توارت حالًّا عنها فلم تستطع أن تلمسها. ثم اعتادت الراهبات رؤيتها ولم يكنَّ يجسرن على مخاطبتها. لكنَّ وجودها بينهن كان يحيي فيهن روح العبادة والحرارة والتقوى.

وشيَّد أسقف المدينة كنيسة عظيمة على اسمها وأراد أن يضع فيها ذخائرها، فكان الإقبال على ذلك الاحتفال فائقًا حدَّ الوصف. ولمَّا جاء الأساقفة لينقلوا ذلك الجسد الطاهر، أخذت الراهبات يبكين ويتضرَّعن إليهم أن يتركوا لهنَّ الكنز الثمين في الدير فيما بينهنَّ. فلمَّا أصرَّ الأساقفة على ما عزموا عليه، إذا بصوت كأنَّه هزيم الرَّعد ينتشر في الفضاء، وتتبعه هزَّة أرضية كادت تقوِّض المدينة بأسرها. فرأى الأساقفة في ذلك يد الله وإرادة الشهيّدة القديّسة في أن يبقى بين أخواتها، فتركوها في الدير بينهن. وطلب الأساقفة من برايينا أن تسمح لهم بيدٍ من يدي ففرونيا، فما كادت تفتح النعش حتَّى خرج منه نورٌ بهر العيون، ويبست يد برايينا فلم تقدر أن تأتي بحركة. فابتهلت تلك الرئيسة القديسة إلى ففرونيا ابنتها أن ترأف بها، فشفتها. ثم أخرجت سنًّا من أسنانها، فجعلها الأساقفة في علبة من الذهب وحملوها ووضعوها في الكنيسة الجديدة. أمَّا جسدها فبقي بكامله في ضريح الدير بين الراهبات أخواتها. 

وانتشرت عبادة تلك العذراء الشهيدة في الخافقين، ونال الكثيرون بشفاعتها جزيل النعم والبركات.

 

طروبريّة القدّيسة فڤرونيّا باللَّحن الثالث، وزن : بهاءً ساميًا

قد فاضَ للدنى عِطرُ جهادِكِ. نظيرَ وردةٍ نُسكيَّة الشَّذا. إذ قد سارعتِ باشتياقٍ إلى عطرِ طيبِ المسيح. وإذ إنَّكِ عذراء بارَّةٌ وشهيدةٌ، نلتِ مجدًا باهرًا من المسيح يا فيفرونيا. إليه تشفَّعي بالصَّارخين: إفرحي أيتها النقيَّة.

طروبريّة القدّيسة فڤرونيّا باللَّحن الخامس: وزن: للمساوي للآب إفرحي 

يا وِعاءً بالنعمةِ مَملوء. ويا شهيدَةً بارَّةً وعروسَ المسيح. ففرونيَّا الفائقةَ الشجاعة. مِصباحَ الفضائلْ. مُشِعًّا بالنورِ الإلهيّ. ومُساكِنةَ الملائكْ. فابتهلي معَهم للرَّبِّ لكي يرحمَ نفوسَنا.

 القنداق

تزيَّنتِ بالنَّقاء وبجمالِ الشَّهادة. ومُجِّدتِ في السَّماء. أيا حَسنةَ العبادة. فَعدَوتِ باشتياقٍ يا فڤرونيّا. كيما تلتقي عريسَكِ البهيَّا. فتشفَّعي لِلمنشدينَ. لَكِ أنغامًا عذبةً شجيَّة. أيتها النقيَّة.