»البطريرك يوحنا العاشر من أثينا: "نحن أقوياء…



2015-10-19

p1 كلمة البطريرك يوحنا العاشر

في مؤتمر "التعددية الدينية والحضارية والعيش الواحد السلامي في الشرق الأوسط" 
أثينا، 19 تشرين الأول 2015

أصحاب القداسة والغبطة،
أصحاب السيادة الرسميين،
أيها الحضور الكريم،

بعد توجيه الشكر للخارجية اليونانية لتنظيمها هذا المؤتمر منبراً يعلي الصوت حول ما يجري في الشرق الأوسط، يشرفني أن أنقل إليكم محبة أهلنا وشيئاً من لسان حالنا في أرضٍ كنا وسنبقى بها، "وفي أنطاكية دعي التلاميذ مسيحيّين أولاً" خطّها الإنجيلي حبراً، وكتبها ويكتبها إلى اليوم المسيحيون الأنطاكيون بالدم. أنا أعيش بجوار الكنيسة المريمية في دمشق على بعد كيلومترات قليلة من مناطق أضحت، كما كثيرٌ من المناطق، مرمى للهاون وأبناؤنا في تلك المناطق يدفعون ضريبة الدم غالية، يدفعونها من دم الشيوخ والكهول والفتية والصبية والرضع. كل ذلك والعالم كله يتغنّى بالحلول ويدغدغ أسماعنا ببشرى الحل فيما نبكي نحن مع أولادنا، إلى أي طيف انتموا، سلاماً عجز أو تعاجز الكبار عن الوصول إليه. ونحن في الوقت عينه عشنا ونعيش في ظل مجتمع مدني نأبى أن تقوّض دعائمه بتقاسم مناطق نفوذ وبفرض تطرّف لفظَته البشريّة.

أقول كل هذا لأنقل لكم وجع أبنائي، لأنقل وجع السوريين جميعاً واللبنانيين وكل أبناء هذا الشرق من كل الأطياف، وجع أهلي وناسي الذين بُشروا زيفاً بربيعٍ لم يروا منه إلا حمرة شقائق النعمان ممتزجة بدم الشهداء والأبرياء ولم يعهدوا فيه إلا عودةً إلى جاهليةٍ غابرة لفظتها المدنيّة بكل مشاربها. ووسط ما سمّي بالربيع، نحن المسيحيين، كما غيرنا من سائر الأطياف، كسرت صلباننا، خطف مطارنتنا، دمرت كنائسنا، وهنا نقول أيضاً، ومن خبرة تآخينا الإسلامي المسيحي، دُمّرت مساجدنا. جُرفت أديارنا وحُمّلنا الجزية وهجّر أبناؤنا وأمطرنا بالصواريخ يوم الفصح في حلب، وفي غيرها، بدل أن نمطر بالرياحين. وكل ذلك تحت شعارات واهية وبيارق عريضة وتكفير وإرهاب أعمى، أنكره كثيرون ثم تسابقوا لمكافحته، إرهابٍ يُستخدم في كثير من الأحيان لبلوغ مآرب لم تعد تخفى على أحد. أقول كل هذا طالباً الصفح إذا ما أسهبت في الوصف، لكن دماء البشرية المعذبة في أرضنا من إرهاب أعمى هي مثقال إثم في جبين بشرية لم تنجح إلى الآن في التعالي عن لغة المصالح، ما أمكن، لوقف نزيف الدم. كفانا دماراً فنحن نحنّ إلى أجراس السلام المشرقية.

ما يحدث يا سادة في الشرق عموماً هو وأد حضارة بشرية بالمعنى الكامل. هو بالأحرى طمس لهوية التاريخ. أرضنا لم تخلق لتكون مرتعاً لصراع أحد وإنساننا لم يولد ليموت في أرض اللجوء وأطفالنا لم يخلقوا لتلفظهم الأمواج. وإنّ عجْز الأسرة الدولية أو تعاجُزَها عن حل الأزمة السورية لهو فشل كامل لمنظومة حقوق الإنسان، لا بل هو فشل بالأحرى لكل منظومة القانون الدولي الذي يسخّر طبقاً للمصالح وتمسي فيه سيادة الأوطان قويةً كانت أم ضعيفة ألعوبة بيد الكبار. الحل بالحوار وبتقويم وتدعيم مفاصل الدولة المدنية التي إن تهاوت يتهاوَ الجميع. فنحن في الشرق ركاب قارب واحد إن نجا ينجو بكل أطيافه من كل الديانات وإن غرق، لا قدّر الله، يغرق بكل أطيافه. والأجدر بمن يتكلم عن حماية للمسيحيين ولسواهم أن يسعى وبكل قوته لإحلال السلام لهم ولغيرهم. والسلام والإرهاب لا يتعايشان. نحن طلّاب سلام ولسنا روّاد حماية. ودارنا الحنون الأولى والأخيرة هي أرضنا التي فيها ولدنا وفيها نبقى وفيها نثبت متسمّرين بقوة الرجاء، وفيها سنموت مهما قسى عليها وجه الزمن. أكتب هذا السطور من أقدم عاصمة في التاريخ، أكتبها من الدار البطريركية في دمشق التي ألفت وتألف جيرة الجامع الأموي. ولو أن الحرب في سوريا طائفية لما تآخى الجامع والكنيسة إلى يومنا. وكيف للحرب أن تكون طائفية والعيش الواحد المشترك بين كل الأديان والعرقيات هو أهم ما ميز ويميز إلى الآن هذا الشرق بكل بقاعه. 

آن للعالم أن يستفيق ويدرك أن إحقاق السلام هو الذي يطمئن وأن الهجرة، أو بالأحرى التهجير، ليست إلا عبئاً على المُهاجر وعلى المَهاجر وهي ليست أبداً جزءاً من الحل لا بل بالأحرى نتيجةٌ حتميةٌ للمعضلة. آن له أن يدرك أن التكفير والإرهاب والخطف الأعمى والنعرة الطائفية هي أول ما يهدد الأمن القومي لكل الشعوب وليس في الشرق الأوسط وحسب. أنا لا ألقي باللائمة على الآخر في حرب تحدث في الشرق ولا أدعي المثالية لشعبي وناسي ولا حتى لأنظمة الحكم في الشرق. ولا هي نفسها تدّعي ذلك. ولكن الوجه الخارجي للأزمة قد طغى لا بل تعدى كل شيء والخاسر الأكبر هو الإنسان البريء في سوق المصالح. ومن هنا تسعى الكنيسة الأنطاكية لأن تكون دوماً، وعبر كل أذرعها الخيرية، إلى جانب الإنسان المعذب وتعمل عبر الجهود الإغاثية للدائرة الخاصة بها وتسعى دوماً لأن تضمّد جراح المنكوبين لترسم بسمة المسيح على وجوههم. 

ومن على هذا المنبر نلفت الأنظار إلى لبنان الذي يرزح تحت أطول فترة في تاريخه من الفراغ الدستوري في السدة الأولى وأمام شبح انهيار المؤسسات الدستورية وينوء تحت استهداف وخطف عسكره ويعاني فوق كل ذلك تبعات ما يجري في دول الجوار. ومن هنا دعوتنا الحثيثة إلى الحفاظ على بلدنا لبنان بلداً للمواطنة وإلى تدعيم سلطة الدولة فيه وذلك عبر انتخاب رئيس للبلاد يحامي وبقوة عن المؤسسات الدستورية ويحفظ التوازن الطائفي ويصون وجه لبنان التاريخي المعهود منبراً للفكر المستنير وللثقافة وموئلاً للعيش الواحد والمواطنة. وفوق كل ذلك نناشد الجميع في الداخل والخارج صون وحماية استقرار هذا البلد الذي ذاق مرارة الحرب طويلاً واكتوى بنارها ونُهيب بكل الأقطاب اعتماد مبادئ الخطاب السياسي والديني الهادئ والعقلاني درءاً لكل التبعات الأخرى. 

نحن في منطقة تغلي بالمصاعب، بلا شك، إلا أن كل ذلك لم يثْننا ولن يثنِيَنا أن نسمّر ناظرينا في الصليب. نحن أقوياء بيسوع. ونحن مزروعون في أرضه. وإن يكن صليبٌ قد رسَمَ وجه المسيحية على الأرض إلا أن نور قيامةٍ قد جلل هام المصلوب وسكب الفرح في قلوب تلاميذ وفي قلوب كل الناس. نحن مؤتمنون على إيمان مسيحي رضعناه من صدور أمهاتنا، إيمانٍ حفظناه لألفي عام في أرضنا الأولى في الشرق، إيمانٍ لم نتقوقع يوماً به، إيمانٍ جسدناه ونجسده أخوّة حقَّ وعيشاً مشتركاً لا بل واحداً مع أخينا المسلم وذلك رغم كل صواعد ونوازل التاريخ ورغم صفحاته نيرةً كانت أم داكنة. 

نحن كمسيحيين لم نكن يوماً ما فئويين ونرفض أن نكون ذميين. نحن لم نكن يوماً إلا في صلب أوطاننا وفي صلب قضاياها المصيرية. نحن لسنا أقلية، ونرفض أن نسمّى أقليةً، لأن منطق الوطن لا يعرف أكثرية وأقلية بل يعرف خميراً يسيراً يخمر العجين كله. نحن من خمير هذا الشرق ونحن أجراس مسيحه. إن يبكِ عراقه تبكِ كنائسنا وإن يبكِ لبنانه تبكِ شاغورتنا وإن تبك سورياه تبك أجراسنا وإن تتنهد قدسه تزفر صدورنا. نحن منه وفيه. وهو منا وفينا هويةٌ وانتماءٌ وكينونة.

ومن هنا نطلق الصوت عالياً لإخماد كل أشكال الصراع والعنف في الشرق الأوسط ونلفت النظر من جديد إلى قضية المخطوفين التي يتناسها الرأي العام العالمي وكواليس القرار. نرفع الصوت عالياً من أجل أخوينا مطراني حلب المخطوفين يوحنا ابراهيم وبولس يازجي وندعو للإفراج الفوري عنهما ولكشف حيثيات هذه المأساة التي تدخل عامها الثالث وسط صمت دولي شبه مطبق. وندعو الجميع، والمنظمات الدولية خصوصاً، إلى الضغط على كل الحكومات المعنية التي من شأنها ومن قدرتها أن تسدل الستار على هذه المأساة التي تختصر شيئاً يسيراً مما يقاسيه كل إنسان مشرقي دفع ويدفع ضريبة مايجري خطفاً وتهجيراً وهجرةً. 

وأمام كل ما يجري في الشرق، في أرض الكنيسة الأولى، لا يسعنا إلا أن نذْكر ذاك الطريق المستقيم (VIA RECTA) المحاذي لدارنا البطريركية والذي تتناثر على جانبيه الكنائس وحتى الجوامع إلى يومنا هذا والذي تختصر جنباته زبدة "التعددية الدينية والحضارية والعيش الواحد السلامي في الشرق الأوسط" عنوانِ هذا المؤتمر. نذكره رمزاً لدرب هدايةٍ من بعد ضياع. نذكره قلباً لدمشق التاريخ ورمزاً للشرق بكل بقاعه وبلدانه وناسه الطيبين الأصلاء في الانتماء والأصلاء في المحبة. نذكره ونقول: ألا يكفي ما حصل ويحصل؟ إنساننا ليس سلعة في سوق السلاح. دعوا شعبنا في شرقه يعيش، فقد آن للعالم أن "يجد الطريق إلى دمشق"! السلام.